كتاب "الحركة الإسلامية وإشكالية المنهج" لصاحبه الأستاذ عبد الإله بنكيران والمنشور من طرف منشورات الفرقان في سلسلة "اخترت لكم"2 سنة 1999، يعد كتابا ذا قيمة كبيرة في التنظير لمنهج الحركة الإسلامية بالمغرب. هذا الكتاب يأتي في سياق البروز الذي شهدته الحركة الإسلامية –المعتدلة- كفاعل في الميدان السياسي. كتاب الأستاذ بنكيران، وهو عبارة عن مقالات وعروض ومحاضرة ألقاها في مناسبات متعددة، يندرج في إطار "مراجعة وتقييم منهج العمل في الحركة الإسلامية المعاصرة ومساهمة في تصحيح كثير من المفاهيم التي سادت الخطاب والممارسة الإسلاميين”. يحاول الأستاذ بنكيران، وهو رجل المواقف الصعبة وصاحب المبادرات النوعية في توجيه مواقف تنظيمه الإسلامي في المغرب. يحاول في معرض كتابه الإجابة على عدة إشكاليات تهم واقع الحركة الإسلامية وآفاق العمل من داخلها، ويركز خاصة على التساؤل: هل الحركة الإسلامية حركة سياسية إديولوجيتها الإسلام، أم أنها حركة إسلامية تمارس السياسة، وما هو المنهج السديد الذي يكفل لها الوصول إلى مبتغاها. الإجابة عن هذه الأسئلة تطلبت من الأستاذ بنكيران أن يمر على 5 فصول يشرح فيها مواقفه بخصوص معظم القضايا حول واقع ومسار الحركة الإسلامية بالمغرب. يعنون الكاتب فصله الأول ب"أساسيات" ليحيل فيه على أهمية تقعيد العمل الإسلامي في إطاره الإسلامي الذي ينص على أن الإنسان خلق للعبادة وأنه خليفة الله في أرضه. ومن تم فغاية الحركة الإسلامية هو تحقيق هذه الهدف من خلال مختلف المداخل والوسائل التي تساعد على ذلك. ينتقل بنكيران في الفصل الثاني ليتكلم عن منهج التغيير الإسلامي، وهو المنهج الذي يراه الأصلح انطلاقا من أن العمل على تغيير الواقع المتردي للإسلام يتطلب اعتماد أساليب الإسلام ذاته. وهنا يشير إلى أن الإسلام قبل أن يكون دعوة إلى تغيير الأشكال والأنماط والأحكام، هو دعوة إلى تغيير ما بالنفس أولا وقبل كل شيء. فتغيير السلطة لايغير الشعب ولكن تغير الشعب يغير السلطة. ويستشهد على هذا بأن المسلمين الأوائل، وهم قدوتنا، "لم يعرفوا أنفسهم على أنهم ثوار أو أنهم يريدون أن يقيموا دولة إسلامية ويبنوا اقتصادا إسلاميا، بل عرفوا أنفسهم على أنهم استقاموا على أمر معين في العقيدة والعبادة والمعاملة وبدؤوا يدعون الناس للحاق بهم". من هذا المنطلق يرى بنكيران أن على الحركة الإسلامية أن تراجع خطابها اتجاه الآخر. فإذا كانت قد وصلت حاليا إلى مرحلة من القوة والشعبية في الخطاب، وفي ظل فشل من نصبوا أنفسهم مدافعين عن التقدم والالتحاق بركب الحضارة، فإنها اليوم تتحمل مسؤولية تقديم نموذج مجتمعي جديد. هذه المسؤولية تأتي في سياق تاريخي يشير إلى ان هناك تدينا شعبيا يجب أن يرشد وواقع سياسيا يفرض اعتبار كل الأطراف الوازنة في الساحة السياسية. ثم إن ما يحسب لصالح الحركة الإسلامية اليوم هو أنها لا تشعر كما شعر الشيوعيون بأنهم هم وحدهم على الحق، بل انتبهت إلى أن هناك ثلة من الناس تخدم الصالح العام وليس بالضرورة تحت لواء الحركة الإسلامية. من هنا تبرز أهمية منهج المشاركة وعدم الإقصاء. ومن البديهي أن عملية الإقصاء تبتدئ أولا من الذات إن لم تبادر بالمشاركة. ولذلك فإن خروج الحركة الإسلامية من السرية والخفاء والظلام إلى الواقع ضرورة حيوية بالنسبة للتنظيمات الإسلامية المعاصرة. وارتباطا مع هذا الطرح، يوجه بنكيران دعوته للحركات الإسلامية بألا تتخندق في العمل التربوي والدعوي فقط ، بل العمل في الميدان السياسي بالموازاة مع التعهد التربوي في إطار المشاركة والمدافعة. تبرز هنا عدة إشكاليات يحاول بنكيران الإجابة عنها من خلال عرض بعض القضايا التي شملتها مراجعات الإخوان خلال عملهم منذ الستينات إلى اليوم. أول هذه القضايا هو التنبيه إلى أن نظرة الإسلاميين إلى الحكام ينبغي أن تتغير وألا تنحصر في إلقاء اللوم كاملا عليهم والركون إلى إنتاج ردود أفعال فقط، الشيء الذي سيجعل الآية "قل هو من عند أنفسكم" تنطبق عليهم. أما فيما يخص موقف الحركة الإسلامية من النظام الملكي يؤكد بنكيران على أن هذا النظام هو ضامن استقرار البلاد باعتباره يتمتع بالمشروعية الدينية والتاريخية، وأن الحركة الإسلامية تنتفع من الصبغة الدينية للنظام الملكي لأن الهوية الإسلامية لنظام الحكم اساس المطالبة بالمحافظة على الدين والدعوة إليه. يشير بنكيران هنا إلى أن الإشكالية تتمثل في مدى حضور برنامج كفيل بتحقيق هذه الغاية لدى الإسلاميين. في هذا الإطار تأتي المراجعة الكبرى للإسلاميين لترسوا في الأخير على خيار المشاركة السياسية للإسلاميين كمدخل للتمكين للدين في المغرب. يتجلى هذا الإختيار من خلال عبارة بنكيران: "هل اجتماع الحركة الإسلامية على الإسلام أم على الدولة الإسلامية. هل هي حركة سياسية إديولوجيتها الإسلام؟ أم أنها حركة إسلامية تمارس السياسة؟. يجيب الأستاذ بأنهم كانوا_وكثير من الحركات الإسلامية_ إلى المعنى الأول أقرب." يبدو أن هذا الموقف ينعكس جليا في موقف الحركة الإسلامية من عدة قضايا، فقضية الأحزاب السياسية والمشاركة في الإنتخابات، تم الحسم فيها على أن الأحزاب تختلف في درجة قربها وتبنيها للإسلام في برامجها إلا أن ذلك لا يمنع من التعاون والعمل المشترك معها. وهذا لا يعني أن الإسلاميين يقدمون تنازلات على حساب الدين، بل الأصح أنهم يقدمون مساومات ومناورات سياسية تخدم الدين في الأخير. وهذا اقتداء بما حدث في واقعة صلح الحديبية في كتابة عبارة بسم الله الرحمن الرحيم. فمن هذا المنطلق يصح القول أن الحركة الإسلامية تعتبر السياسة وسيلة للتمكين للدين وليست غاية في حد ذاتها، كما جاء مرة على لسان الشيخ الغنوشي: "ماذا ينفعني أن تقوم دولة إسلامية في تونس إذا كنت سوف أدخل النار". من جهة أخرى، و باعتبار أن الحركة الإسلامية جزء من الأمة وليست طائفة داخلها، فالأصل هو أن تشارك الرأي العام في كل ما يقوم به وليس الإعراض عنه. ولا شك أن لهذه المشاركة مصالح دينية ودنيوية تصل إلى درجة وجوب ممارسة السياسة شرعا. هذا بالإضافة إلى أنها تجعل الإسلاميين محصنين بالقانون عوض أن يبقو خارجه وفي مراكز القرار عوض أن يبقو في الهامش. يبقى المطلوب من الحركة الإسلامية هو انتاج اجتهادات سياسية تلائم المرحلة وتحقق المبتغى. يصل الأستاذ بنكيران في الأخير إلى فصل سماه "الحركات الإسلامية: إخفاقات متكررة" يعرض فيه بعض تجارب الإسلاميين التي انطبعت بالفشل نتيجة أخطاء إما في المنهج أو في التقدير. فبالنسبة للنموذج الأفغاني كان مشكلهم أنهم حصروا الإشكالية مع الحكام في الغلبة والتنافس على الحكم، فجعلوا منهجم منهجا تصادميا وفكرهم ضيقا بدون اجتهادات، هذا بالإضافة إلى دور المؤامرة الأجنبية في توجيه الأمور. أما في الجزائر، فقد كان سوء تقدير الجيش الجزائري للأوضاع سببا أدى إلى تواجهه مع الشعب الذي كان راغبا بشدة في حكم الإسلاميين، وبالمقابل كان هناك سوء تقدير من طرف الإسلاميين في الموازنة بين حقهم المبدئي في الحكم مع الإمكانات الحقيقية المتاحة لهم. من خلال مدارسة الكتاب الذي بين أيدينا يمكن للقارئ أن يسجل بعض الملاحظات والإشكالات التي تتمحور حوله. فأول ما يلفت النظر هو طبيعة الكاتب والكتاب والتي تحيل إلى مدى التقاء العمل الميداني بالعمل التنظيري. فبنكيران لطالما عرف بالرجل الصارم في العمل الميداني بامتياز، رغم ذلك فإنه، عندما سنحت له الفرصة، عبر في هذا الكتاب عن التصورات والمبادئ التي تحكم سلوكاته السياسية في الميدان. وقد يبدوا جليا مدى تطابق أفكار هذا الأخير مع ما تعيشه الحركة الإسلامية اليوم. وإذا كان بنكيران قد توفق في الإجابة عن أهم الإشكالات التي تخص مسأله الحركة الإسلامية وإشكالية المنهج ، فإن القارئ لابد أن يسجل بعض الملاحظات في هذا الإطار. أولها أن كتاب بنكيران يعتبر حالة شاذة إذا ما قورن بمعظم الكتب التي تتناول موضوع الحركة الإسلامية، حيث أنها غالبا ما تستند إلى كتابا وإسهامات سابقة لرواد هذا المجال، فيحين أن بنكيران اعتمد بشكل كبير على الخطاب الشعبي والمباشر النابع من قلب الواقع، الشئ الذي جعله أقرب للقارئ ليغوص فيه ويفهمه ببساطة. من جهة أخرى، يلاحظ أن بنكيران وقع في هفوة كبيرة عندما لم يأت على ذكر اسم أي مكون من مكونات الحركة الإسلامية بالمغرب في الكتاب، بل ووضعها جميعا في سلة واحدة تحت اسم الحركة الإسلامية في عموميتها رغم أنه كان يتكلم عن تجربة التنظيم الذي ينتمي إليه فقط. بقى في الأخير أن نذكر أن كتاب "الحركة الإسلامية وإشكالية المنهج" لبنكيران يعد ثمرة خبرة وتجربة ميدانية ساقها في مجموعة من الإشكاليات المؤرقة حاول الإجابة عنها في مضمون الكتاب من خلال منهج وصفي ونقدي برر فيه مواقف ومراجعات الإخوان في التنظيم. والحقيقية أنه لايمكن إنكار دور هذه المواقف والمراجعات على واقع وآفاق الحركة الإسلامية بالمغرب، على اعتبار أنها اليوم تقود مشعل التغيير وتتحمل مسؤولية الخطاب والتطبيق لمنهج الإسلاميين على أرض الواقع. *باحث وناشط حقوقي