تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    النقابة المستقلة للأطباء تمدد الاحتجاج        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الإيليزي يستعد لإعلان حكومة بايرو    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار والتيارات السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. محاولة لمقاربة جديدة
نشر في بيان اليوم يوم 25 - 04 - 2017

استضاف موقع «الحوار المتمدن» المناضل السياسي الأستاذ عبد الصادقي بومدين عضو اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية، ضمن محور «مقابلات وحوارات»، التي يجريها الموقع من أجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات الموقع على الانترنت من جهة أخرى، بهدف تعزيز التفاعل الإيجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء..
وتقوم مؤسسة الحوار المتمدن بإجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام. وضمن هذا السياق يندرج مقال الأستاذ عبد الصادقي بومدين الذي يشكل أهم الخلاصات والأفكار التي دارت في حواره مع الموقع حول موضوع: «اليسار والتيارات السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا: محاولة لمقاربة جديدة..».
ونظرا لأهمية ما جاء فيه وتعميما للفائدة وتحفيزا على النقاش وتبادل وجهات النظر، ارتأت بيان اليوم إعادة نشر المقال نقلا عن موقع «الحوار المتمدن».
محاولة لفهم الواقع
ثمة واقع لا يرتفع في كل هذه المنطقة المسماة "العالم العربي"، وأفضل تسميتها بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هو الحضور القوي لتيارات سياسية إسلامية في المشهد السياسي والواقع الاجتماعي…
واقع يفرض قراءة جدية عميقة ورصينة من طرف قوى اليسار بكل مكوناته، وبشكل خاص من طرف مثقفيه و"منظريه"، ليس انطلاقا من مقولات وتصنيفات وأحكام مسبقة التي يلجأ إليها السياسي عادة لاتخاذ مواقف وردود فعل (وحتى انفعال) ظرفية، بل انطلاقا من تحليل علمي أو قريب من العلم، لفهم هذا الواقع فهما سليما، كما هو وليس كما يريد اليساري ببداهته أن يكون. فهم الواقع في كل تعقيداته كمنتوج للتاريخ المادي والروحي، وتراكم وتفاعل داخلي وخارجي، هو الذي يزود الفاعل السياسي بخلفية فكرية وبمعطيات تمكنه من اتخاذ الموقف السليم، الناجع والفاعل في حركية التاريخ والمجتمع….
هل قام اليسار، بمكونيه الفكري والسياسي، بمثل هذا التحليل متعدد الأبعاد (تاريخي، اجتماعي، سياسي، ثقافي..) لظاهرة ما يسمى ب "الإسلام السياسي"؟ لمكوناته، لخلفيته التاريخية والاجتماعية، لطبيعة تمثيليته الطبقية، للتركيبة الطبقية لهياكله وتنظيماته، لنوعية المصالح التي يعبر عنها اعتبارا لكون الصراع السياسي هو، في نهاية المطاف، تعبير عن صراع مصالح طبقية؟
هل استعمل اليسار، في مكونه الفكري، المنهج المادي الجدلي وأدواته التحليلية بما فيه الكفاية وبشكل خلاق ومبدع ومطور، للمنهج والأدوات معا، بالنظر لما راكمه الفكر البشري من اجتهادات وما تنتجه جدلية الواقع والفكر من إمكانيات الاستيعاب والفهم؟ وعندما أحيل إلى المادية التاريخية فلا أحيل إلى قوالب ومقولات جاهزة وأحكام مسبقة، بل إلى منهج قريب من العلمية، منهج جدلي، بمعنى أنه يقر منذ البداية بجدلية الفكر والواقع، وتطور الفكر بناء وتفاعلا مع تطور الواقع، ومن ثمة تطور المقولات والأحكام المتضمنة في المادية الجدلية نفسها؟ فلا يمكن أن يتطور الواقع ويتحول باستمرار دون أن يتطور الفكر الذي يستوعبه ويحلله ويسعى إلى التأثير فيه؟
فعلا هي إشكالية أكبر من اليسار العربي، هي إشكالية اليسار كونيا، غير أن عدم استحضارها، على الأقل، من طرف مفكري اليسار العربي (أو اليسار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) يجعل قراءته لواقع محدد وإشكالية محددة (التيارات السياسية الإسلامية في موضوعنا) قد تتسم بتطبيق ميكانيكي للنظرية مما ينتج عنه قصور في استيعاب الإشكالية وبالأحرى الحديث عن حلها.
التراكم النظري لليسار العربي وأسئلة الراهن السياسي
لا نعدم تراكما نظريا يستحق التنويه والاعتبار، وأعمالا جليلة يمكن تجميع خلاصاتها بتكامل وخيط ناظم. أذكر منها أعمال شيخ اليسار العربي وأحد أبرز مفكريه الراحل حسين مروة ومؤلفه الضخم "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وأعمال الراحل مهدي عامل وبشكل خاص "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في الوطن العربي"، واجتهادات طيب تيزيني لإنجاز "رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط"، وكتاب محمود اسماعيل "الحركات السرية في الإسلام".. والإنتاجات الفكرية المتميزة للمفكر والقائد اليساري المغربي الراحل عزيز بلال ومقاربته ل "العوامل غير الاقتصادية للتنمية" (مع الأسف عير معروف عند قراء العربية لأنه كان يؤلف باللغة الفرنسية وقد سبق أن قدمت ملخصا لأعماله في مجلة الطريق العدد 10 صيف 2014)، وحتى أعمال حسن حنفي عندما كان قريبا من اليسار ومحاولته التأسيس ل "اليسار الإسلامي". إنها نماذج لأعمال فكرية جليلة ورائدة.. فهل استثمرها اليسار كفاية لبلورة تحليل للواقع في كل تجلياته وباعتباره منتوجا تاريخيا في مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية ثم بناء مواقف وفعل سياسي ناجع وفاعل؟
هل استوعب اليسار جيدا مفهوم النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، وفي تاريخ الإسلام عموما، وركز عليها لإبرازها واعتمادها كأحد المصادر لبناء مقاربته النظرية والسياسية حتى يرتبط بواقعه الفعلي وليس بواقع افتراضي نظري؟
هل قام اليسار بقراءة معمقة ل "الحركات السرية في الإسلام" واعتبارها حركات سياسية "إسلام سياسي" وقراءة تجربة القرامطة كتجربة شبه اشتراكية بمعايير عصرها لبناء جسور مع الماضي ومن ثمة "المصالحة" مع التاريخ والواقع في نهاية المطاف؟
هل استثمرت أطروحات عزيز بلال حول العوامل غير الاقتصادية في التنمية ومنها أن نزوع الجماهير نحو الموروث الثقافي (الإسلام) هو رد فعل على الصدمة الحضارية التي خلفها الاستعمار وفرض قيمه الرأسمالية الليبرالية والتي هي منتوج لمسار تاريخي مختلف عن مسار شعوبنا، وهي أطروحة ثمينة تمكننا من فهم الحاضر وفهم أسباب هذا الحضور لما يسمى ب "الإسلام السياسي"؟
هل قرأ اليسار القرآن نفسه بدون أحكام مسبقة وبدون موقف مسبق من الدين لاستخراج "التوجه الاجتماعي" المتضمن في الكتاب المقدس عند المسلمين من قبيل الزكاة، الصدقة، التضامن، ومعاني الآية "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " وما تضمنه من انحياز للمستضعفين؟
لا أظن أن اليسار، عموما، وخاصة في الشرق، قام بجهد كبير لتركيب كل هذه المناحي والأبعاد لبناء ذاته وهويته التي لا بد أن تكون متميزة عن تجارب يسارية أخرى عبر العالم ولها خصوصية مرتبطة بالإطار الحضاري العام الذي يشتغل فيه. أتصور أن التجربة الصينية ما كان لها أن تنجح لولا القيم الحضارية والدينية للشعب والحضارة الصينية التي تعود إلى آلاف السنين.
وأستحضر تجربة اليسار في أمريكا اللاتينية وإبداع مفهوم لاهوت التحرير دون أي عقدة تجاه الدين ولا موقف مسبق منه. ونجاح تجارب يسارية في أمريكا اللاتنية راجع، في جزء منه، إلى استيعاب واقع متميز وذي خصوصية أدركها اليسار ونتج عنها تطبيق خلاق لفكره وقيمه.
أستحضر أيضا مفهوم الكتلة التاريخية التي دعا إليها غرامشي، التي لا تستثني الأحزاب المسيحية بل تدمج كل القيم الاجتماعية في الدين المسيحي.
دوغمائية أو أصولية من نوع آخر
أعتقد أن ثمة قصورا، وأجازف بالقول أن ثمة "أصولية" لدى اليسار العربي، فالأصولية لا تحيل بالضرورة إلى تيارات سياسية إسلامية، بل الأصولية تعني الارتباط الدوغمائي بالأصول التي تبقى في نظر أي أصولي أسمى من كل اجتهاد أو تطوير لاحق، وهي في حالة اليسار إنتاجات ماركس وإنجلز ولينين. لقد تحدث روجية غارودي، عندما كان مفكرا يساريا، عن أصوليات وليس أصولية واحدة، واعتقد أن كثيرا من الحركات اليسارية هي "أصولية" بمعنى ما وسلفية لأنها تحيل إلى خلاصات السلف الصالح وليس فقط إلى منهجية في التحليل للوصول لهذه الخلاصات، والسلف الصالح هنا هو "ماركس، انجلز ولينين" رغم أن هؤلاء مهما كانت عبقريتهم فهم بشر مرتبطون بواقعهم ومستوى التطور الاقتصادي في عصرهم ومستوى تطور الفكر والعلم والعقل البشري عموما…
لنأخذ مثلا مقولة "الدين أفيون الشعوب"، فماركس درس تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا، ودرس تأثير المسيحية في خط تطور أوروبا ودور الكنيسة الرجعي في حماية الإقطاعية، كما درس نمط الإنتاج الأسيوي انطلاقا من الهند ودور الديانات الهندية الرجعية فعلا، واستنتج انطلاقا من ذلك مقولته تلك، ولا أظنه درس تجربة القرامطة ومجمل الحركات السياسية / الدينية في الإسلام، فالعقل البشري الواحد محدود وعمر البشر محدود كذلك، وما كان بالإمكان بناء مفهوم "لاهوت التحرير" انطلاقا من مقولة لها سياقها التاريخي ونسبية في نهاية المطاف كأي إنتاج فكري بشري.
ضرورة الحفر في مفهوم "الإسلام السياسي"
ارتأيت أنه لا بد من هذه "المقدمات النظرية" لمقاربة الإشكالية التي يطرحها هذا المقال ولو على شكل مساءلات وتساؤلات، لأجل محاولة فهم الحضور القوي للتيارات السياسية الإسلامية فيما يسمى ب "العالم العربي" والذي أسميه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لاعتبارات ليس موضوع هذا المقال التفصيل فيها.
في تصوري لا بد من مساءلة مفهوم "الإسلام السياسي".. فما هو الإسلام السياسي تحديدا؟ وهل هو تيار موحد ومنسجم في أطروحاته وممارساته ومشاريعه؟ هل نضع في سلة واحدة تنظيمات إرهابية متطرفة لغتها الوحيدة هي القتل، وتنظيمات سياسية لغتها الخطاب والممارسة السياسية بغض النظر عن وجودها القانوني؟ هل نساوي بين داعش أو النصرة مع حركة النهضة بتونس أو حزب العدالة والتنمية بالمغرب مثلا؟ إن مثل هذه المقاربة التي تضع كل التيارات الإسلامية في سلة واحدة تشبه المقاربة التي روجتها القوى الرجعية حول اليسار في وقت سابق دون تمييز بين تنظيمات متطرفة فعلا وأسلوبها هو الاغتيال وأحزاب سياسية تؤمن بالعمل السياسي واعتبرت وروجت أن كل اليسار إرهابي ومتطرف دون اعتبار للتمايزات الواضحة بين ما سماه مهدي عامل ب "اليسار الحقيقي واليسار المغامر".
ثم أن المفهوم نفسه غير دقيق، فهل يعني أن الإسلام كدين غير سياسي؟ في تصوري أن الإسلام منذ البداية دين وسياسة، فلم يكن النبي محمد مجرد داعية لقيم الإسلام وتعاليمه بل أسس دولة وقادها سياسيا وعسكريا، وهذا هو الفرق الجوهري بين الإسلام وباقي الديانات، حيث النبي أو المبشر أو الداعي لدين جديد مجرد داعية يلقي تعاليمه ويمضي كما هو شأن المسيح مثلا؟
إن الانطباع الذي يخلقه مفهوم الإسلام السياسي هو أن هذه التيارات السياسية في الإسلام أمر جديد وسلبي بالمطلق، وأعتقد أنه انطباع خاطئ، فالخوارج والقرامطة والشيعة وغيرهم هي تيارات إسلامية سياسية (إسلام سياسي)، وحتى التيارات ذات البعد الفكري أو الفلسفي مثل المعتزلة والمرجئة هي تيارات سياسية في العمق، والمذاهب الصوفية المتأثرة بالتدين الأسيوي والداعية إلى الابتعاد عن السياسة تحمل في عمقها موقفا سياسيا يدعم السلطة القائمة، والنماذج كثيرة في الماضي وحتى في الحاضر.
مساءلة المفهوم إذن تبدو لي حتمية لبلورة مقاربة جديدة لهذا الذي يسمى ب "الإسلام السياسي" وبلورة الموقف أو المواقف من تياراته المتنوعة.
أتحدث تحديدا عن تيارات سياسية إسلامية أو ذات مرجعية إسلامية وليس عن التنظيمات الإرهابية المتطرفة، فهذه الأخيرة لا تندرج ضمن موضوعنا والموقف منها لا يحتاج إلى كثير نقاش وهو الرفض والإدانة، ولا مجال لأي تعامل معها شأن أي تنظيم إرهابي أيا كان زمانه ومكانه ومرجعياته. أتحدث عن تيارات سياسية إسلامية بصيغة التعدد. ومقاربتي تنبني على التمييز بين هذه التيارات بين المتطرفة والمعتدلة من جهة، وعلى فكرة الاعتراف المتبادل بين اليسار وهذه التيارات عوض الإقصاء المتبادل من جهة أخرى.
أمامنا دروس التاريخ ومفادها أن في تاريخ الإسلام تيارات سياسية على اليسار الذي يعيش في بيئة إسلامية أن يستأنس بها حتى لا ينفصل عن تاريخ بيئته، وأن يكون امتدادا، بشكل ما، لكل الحركات ذات الطابع الثوري والبعد الاجتماعي في تاريخ الإسلام.
وأمامنا تجارب من التاريخ الحديث: تجربة الحزب الشيوعي اللبناني مع حزب الله، وتجربة الحزب الشيوعي السوداني مع جبهة الترابي، وتجربة اليسار مع حركة النهضة بتونس أيام بنعلي، وتجربة حزب التقدم والاشتراكية مع حزب العدالة والتنمية بالمغرب، واليسار الجذري مع جماعة العدل والإحسان في المغرب كذلك…
إن قراءة هذه التجارب تؤكد أن ليس هناك طريقة واحدة وموحدة جاهزة لتعامل اليسار مع الحركات الإسلامية، فالموقف يتحدد انطلاقا من واقع كل بلد، بطبيعة الصراع السياسي فيه، وطبيعة المهام المطروحة على قوى اليسار، وبلغة أخرى نوعية التناقض الرئيس في كل بلد. تحديد التناقض الرئيس أمر جوهري في منهجية التحليل السياسي الجدلي لقوى اليسار، دونه تتضبب الرؤيا وتضعف نجاعة الفعل السياسي إن لم أقل غياب النجاعة والدوران في حلقة مفرغة.
هل الإشكالية إيديولوجية أم سياسية؟
ويطرح سؤال جوهري بخصوص تحديد التناقض الرئيس: هل الإشكالية التي تواجهها بلداننا (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) إشكالية إيديولوجية أم سياسية؟ طبعا لا يمكن الفصل المطلق بين البعدين غير أن الأسبقية في العمل السياسي تطرح نفسها موضوعيا لأجل نجاعته وقدرته على التأثير.
أتصور أن الإشكالية الأساسية ذات الأسبقية اليوم هي الإشكالية السياسية، وأقصد مسألة الديمقراطية وإرساء قواعد العمل السياسي السليم. فوحده التنافس الديمقراطي بين كل التيارات السياسية، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، واحترام إرادة الشعب عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة، يمكن من تحرر شعوبنا من تسلط طغم حاكمة بدون سند شعبي ولا شرعية سياسية. الانتخابات وصناديق الاقتراع هي أرقى ما وصلت إليه البشرية لحد الآن كوسيلة لحل إشكالية السلطة وشرعية ممارستها بعدما تبين فشل كل الوسائل الأخرى المتجاوزة تاريخيا…
اليسار غير قادر، موضوعيا وذاتيا، على حل الإشكالية السياسية بمفرده وبمعزل عن قوى أخرى فاعلة ومؤثرة في الواقع والمشهد السياسيين. هنا تطرح مسألة التحالفات التكتيكية المرحلية، وتطرح مسألة إمكانية التحالف أو التآلف المرحلي مع تيارات سياسية إسلامية تقر مبدئيا بالعمل السياسي وتمارسه بقواعد متوافق عليها. في هذا الإطار يسقط بعض اليسار في محاكمة النوايا وهو نفس الإشكال الذي واجهه هو نفسه في مرحلة سابقة عندما كانت القوى الرجعية المتسلطة تحاكم كل التنظيمات اليسارية في نواياها، ومنع بعضها من حق الممارسة السياسية في إطار القانون فقط انطلاقا من اعتبار نية اليسار المفترضة أي السيطرة على السلطة وإنشاء دكتاتورية البروليتاريا. أكيد أن لكل بلد خصوصياته، وتباين جوانب الإشكالية وتباين التيارات السياسية الإسلامية فيه، ولا يمكن بالتالي إصدار حكم جاهز ووصفة جاهزة لكيفية تعامل اليسار مع هذه التيارات بالتحالف أو المواجهة.
إن التركيز على حل الإشكالية السياسية وتجميع أكبر ما يمكن من القوى السياسية، ومنها الإسلامية، لا يعني إلغاء الصراع الفكري والإيديولوجي الذي يبقى مستمرا في مجالاته. فعندما نؤمن بالديمقراطية، كقناعة وكثقافة وكممارسة، نؤمن بالنتيجة بحق الاختلاف وحق الهوية الإيديولوجية لكل طرف سياسي.
على سبيل الخاتمة:
بناء عليه، وانطلاقا مما سبق، أتصور أنه على اليسار أن يقوم ب "مراجعات" عميقة لمقارباته وتحاليله ومواقفه، ليس فقط من التيارات السياسية الإسلامية، بل لمجمل تعامله مع مجتمعه وبيئته وكل القوى الفاعلة والمؤثرة.
أعتقد في ضرورة "المصالحة" مع الواقع والمجتمع والتاريخ، وهو ما يفرض امتلاكا معرفيا لهذا التاريخ وللواقع بكل تعقيداته وعوامل تشكله، وهو ما يمر، بالضرورة، في تقديري، عبر إدماج كل القيم الإيجابية والإنسانية في الموروث الإسلامي وفي الدين الإسلامي نفسه وكل الحركات السياسية الإسلامية في تاريخ الإسلام. تجربة حزب التقدم والاشتراكية بالمغرب جديرة بالدراسة والاستئناس، حيث اعترف منذ 1968 (عندما كان يحمل اسم الحزب الشيوعي المغربي فأصبح اسمه حزب التحرر والاشتراكية بعد مراجعات فكرية وسياسية) بمكونين أساسيين للمغرب: النظام الملكي والدين الإسلامي، ونص قنونه الأساسي منذ ذلك التاريخ على إدماج القيم الإيجابية في تراثنا في أطروحاته وممارساته، وهو ما مكنه من التجذر في الواقع المغربي وحضوره اللافت في المشهد السياسي بل وحتى المساهمة في تدبير الشأن العام. وتجربة تحالفه مع حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية تستحق المتابعة وحتى الاستئناس بها من طرف قوى يسارية تعيش وضعا مشابها فيما يخص تحديد التناقض الرئيس وتقدم الإشكالية السياسية للواجهة.
أعتقد في ضرورة بناء هوية متميزة لليسار في هذه المنطقة (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) اعتبارا لكل ما ورد أعلاه.
أخيرا أرى ضرورة الحوار بين اليسار والتيارات السياسية الإسلامية في أفق اعتراف متبادل عوض الإقصاء المتبادل وهو اعتراف ستنتج عنه آفاق جديدة، وإمكانيات جديدة للفعل المؤثر في المسار السياسي خاصة ومسار تطور مجتمعاتنا بوجه عام.
عن الحوار المتمدن – العدد: 5493 – 2017 / 4 / 16


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.