والله إن هذه الخيانة لَخيانتي 1 ما الّذي يحدثُ أثناء نقل وتحويل مفاهيم دقيقة من لغةٍ نحو أخرى؟ ما مقدار الأمانة لدى النّاقل وما حدودُ خيانته للأصل؟ ثمّ من ناحية أخرى ما مدى حضور الخيال المرتبط بذات المترجِم أثناء الكتابة الثانية؟ وهل يراعي تمثلات المترجم منه أثناء خيانته هذه؟ أسئلة من ضمن أخرى راودتنا ولازمتنا طيلة ارتكابنا للخيانة الضرورية، حين أقدَمنا على ترجمة كتاب: La psychanalyse en terre d'islam لصاحبه جليل بناني، والذي هو في طبعته المزيدة والمعدلة عن كتاب La psychanalyse au pays des saints. أُنجزَ الكتابُ في الأصل بلغة موليير الفرنسية، والترجمة هي للغة العربية. كلُّ كتابة هي مغامرةٌ نحو المجهول، بما أنّها تتوجّه لقارئ محتمل يصعُب التّكهن برَدَّة فعله تُجاه المكتوب. وكلُّ ترجمة هي مغامرةٌ مزدوجةٌ لارتباطها بخيانة النصّ الأصلي، وهي خيانةٌ ضرورية على كلِّ حال. بين اللغة الفرنسية (الأصل هنا)، وهي لسان المترَجم منه، وبين اللغة العربية لسان المترجِم إليه، تقاطعاتٌ وتباينات لابدّ من مُراعاتها قبل الإقدام على عمل كهذا، وهو عملٌ شاقٌّ ومتعِبٌ ولذيذٌ مع ذلك لعدة اعتبارات ستتضح من خلال هذا العرض. ولعلّ أهمّها الرّغبةُ في التّحدّي، والرغبة في المغامرة المعرفية. نحن ظاهرياً أمام مفارقات: مؤلِّفٌ مغربي عربي الأصل (جليل بناني)، يتقن اللغة الفرنسية والدّارجة المغربية ويشتغل بهما كمحلل نفساني وكطبيب مُمارِس. وهو في الوقت نفسه مؤلّف ومحاضر ومنظم لعدة ندوات ومشارك في مؤتمرات ومعارض دولية في مجال العلوم النفسية والإنسانية، وخاصة مجال التحليل النّفسي. والمؤلَّف هنا يخوض في أحوال المسلمين المتحدثين بالعربية والمتشبثين بمخيالها الأدبي والديني. وتبدو المفارقة هي حديثٌ بلسان فرنسي عن أفراد ينتسبون للسان عربي في موضوع يتّخذ من الحمولة الدينية تيمته الرئيسة. المخيال هنا يثمِّن الذات ويُبخس الآخر، فما الّذي سيحدث في مجال التّرجمة في حالتنا؟ هل من اللازم على المترِجم أن ينتقل كل مرة من مخيال محدد يوجد داخل كل لغة حين تكون محملة بلغة دينية، نحو متخيال مختلف يرتبط برأي الآخر النّاظر للأمور بحمولات أخرى غير دينية مثلا؟ 2 هل نراعي في الترجمة اللغةَ أم الفكر الذي تحمله هذه اللغة المنقولة؟ لنشر أولاً إلى الشّروط الأربعة لكل ترجمة، والتي هي: "إجادة اللسان المترجَم منه، واللسان المترجم إليه، وموضوع التّرجمة، ثم الإحاطة بآليات الترجمة وشرائطها وقوانينها". وتبقى إشكالية المُتلقّي حاضرة بقوة باعتبار كونه هنا هو العربي المسلم. وما سيقال له عن ذاته كفرد يعرفه على طريقته وحسب ما تلّقاه من الوسطاء، وهم الفقهاء وهنا ستبرز أولى المقاومات التي لن تغيب عن المترِجم بدوره الذي ينتمي لهذه الفئة. تلك صعوبة ومفارقة في الوقت نفسه. فهل هناك انفصام بين اللغة والفكر؟ نحن نخوض هنا في عالم جديد نسبيًّا بالنسبة للمثقف العربي (نقصد المتحدث باللغة العربية بغض النظر عن أصله). إنه مجال التحليل النفسي في ارتباطه بالمقدس، في بعده المستند إلى نص القرآن والسنة وتأويلات الفقهاء واجتهاداتهم، وكذا كل ما سيحيط بذلك من بعد شعبي مرتبط بالتمثلات التي يخلّفها مخيال الأفراد انطلاقاً من الحمولة التي ترتبط بالمقدس. 3 هل ما دفعنا للمغامرة في الخوض في أسرار هذه الخيانة الترجمية هو الرغبة أم الطلب؟ نعرف أن الرغبة Désire حسب فرويد هي الرغبة اللاواعية التي تميل إلى سدّ التجارب الأولى، إنها أحد أطراف الصراع الدفاعي عند غياب الإشباع ، وبالنسبة للاكان تعتبر الرغبة نتيجة النفص الجوهري الذي يعيشه الطفل المفصول عن أمه وتتلخص لديه في تأكيده على كون رغبة الإنسان هي رغبة الآخر. ويرتبط الطلب بالرعبة عند لاكان، وهو يأتي نتيجة اكتساب اللغة. والطلب يشكل الآخر على أن يمتلك بالفعل امتياز إشباع الحاجات. والطلب هو تعبير عن العقل الباطن الذي يخلّف بقايا الرغبة التي تقع على الطلب. طلب ورغبة ومغامرة. هذا ما حصل، بمفاهيم المحللين النفسانيين، بيني وبين محمد بنيس من جهة، وبيني وبين كتابات جليل بناني، التي اشتغلت عليها كثيراً، من جهة أخرى. هل هذا تفسير كافٍ للإقدام على هذه الخيانة الجميلة؟ أظن ذلك، وللقارئ أن يقارن ويؤول حسب مرجعياته، فالمهم هو نقل هذا المكتوب من لغة إلى أخرى بالمشاركة اللذيذة التي تُعتبر هدفاً من أهداف كل خيانة في الكتابة أو في الترجمة. لقد ارتبطت الرغبة بالطلب في حالتنا، رغبة المترجم وطلب المترجم له. ففي صباح يوم جميل، اتصل بي عبر الهاتف الصديق الشاعر محمد بنيس ليخبرني عن رغبة دار توبقال في ترجمة أعمال المحلل النفساني المغربي جليل بناني للعربية. وأكد لي أن من سيقوم بهذا العمل هو أنا. وقد طلب مني أن أختار أهم كتاب له ليكون بداية نقل مجال التحليل النفسي للغة العربية من خلال كتابات جليل بناني التي هي كلها بالفرنسية. ترددتُ بعض الوقت، فالأمر صعب بالنسبة لي لسببين، صعوبة كتابات جليل بناني والذين اشتغل عليهم من محللين نفسانيين فرنسيين، وصعوبة مفاهيم التحليل النفسي المرتبطة بلغة وغموض المدرسة اللاكانية. إلّا أن رغبتي فاقت الطلب، وعزمتُ على خوض المغامرة أنا المتشبّع باللغة العربية وأصولها وما تحمله من تراث، رغم قلة زادي في مجال الكتابة باللغة الفرنسية رغم قراءتي بها. من أين سأبدأ؟ وقد كان الشاعر محمد ننيس قد هنأني شخصياً على فوزي بالجائزة التي تمنحها جهة الدارالبيضاءسطات في فرع الترجمة دورة الطيب الصديقي سنة 2019، عن ترجمة كتاب Un psy dans la citée محلل نفساني في المدينة، وهو حوار وترجمة مع المحلل النفساني جليل بناني صدر عن دار ملتقى الطرق بالبيضاء في نسخته الفرنسية سنة 2013 وفي طبعته العربية سنة 2018. أعرف أن الأمر سيكون شاقًّا بالنسبة لي أنا المتعوّد نسبيا عن ترجمة الشعر وبعض المقالات الأدبية القصيرة. لعلها رغبة دفينة في التحدي وفي مشاركة الآخر لمكتوب هام مهما اختلفنا حول بعض تفاصيله. استمرت الترجمة ما يزيد عن سنتين كانت فيها بعض التوقفات للتأمل والتباعد والمراجعة واستشارة أهل الاختصاص في الترجمة وفي مجال التحليل النفسي. اتصلت مباشرة بجليل بناني وأخبرته بما جرى بيني وبين محمد بنيس، لتبتدئ لقاءات متواصلة بيننا. أخذٌ وردٌّ وانتقال بين لغتين وتصورين وفكرين. وحدثت خانة أخرى حين تصرفنا بإضافة ودمج فصول أخرى من الكتاب الأصلي. ولكن ألم يحدث هذا برغبةٍ وطلبٍ مشتركين بيني وبين مؤلِّف النص الأصلي؟ 4 هل يحق لمترجِمٍ أن يتصرف في جزء من كتاب عمد إلى ترجمته إذا كان الكتاب الأصل في طبعة أولى، وهو اختار طبعة ثانية منقحة ومعدلة نسبياً؟ وأكثر من هذا، هل يَحقُّ التآمر بين المؤلِّف الأصلي (جليل بناني هنا) وبين المترجِم (أحمد العمراوي) بتعديل وتنقيح الكتاب الأصل بالإضافة والنقص؟ ما الوجه القانوني لهذه الفعلة؟ وبما أن الترجمة في الأصل هي خيانة، فإن ما يحدث هنا هو خيانة مزدوجة: خيانة أولى وخيانة ثانية. يعمد المترجِم عادة إلى الالتصاق بالكتاب الأصل بغض النظر عن مؤلِّفه. وإذا تم الاتفاق بين الكاتب والمترجم على الخيانة فإن الأمر يصبح مبرَّرا ربما. بين المترجِم والمترجم له علاقة متشابكة قد يكتنفها غموض أو تآمر قبل أن نقول علاقة محبة. لا محبة في الترجمة بما أنها فعل خيانة. خيانة لا جزاء عليها سوى المدح إذا كان المترجِم متفوقاً في نقل مشاعر المترجم له. أو ذمًّا إذا أخل المترجِم بشرط الأمانة في الخيانة. غرابة هي الأمانة في الخيانة، ولْنَستعِرْ من البلاغيين بعض مفاهيمهم لتبرير فعلتنا الهائلة هنا. وإذا كان الصيني "بان فو" قد حدد سنة 1898 ثلاثة مبادئ للترجمة هي: الأمانة، والمفهومية، والرشاقة، فإن الأمر سيتغير بعدَه ليُصبح للترجمة عدة شروط من أهمها الإحاطة بآليات الترجمة وشرائطها وقوانينها. وبما أن الترجمة هي عملية نقل نص معبر عنه في لغة (L1 ) إلى نص معبر عنه في لغة أخرى (L2 ) ، فيبقى معيار سلامة الترجمة هو تكافؤ المعنى الدلالي للسيميائية الأصلية (اللسان المترجم منه) مع المعنى الدلالي للسميائية الهدف (اللسان المترجم إليه)، وتبقى كل التصنيفات الأخرى تابعة لهذا، بما أن المهم هو تبليغ مضامين النص الأصلي للفئة المستهدفة. وقد يبدو بعض التنافر لدى بعض المترجمين بين امتلاكهم وتخصصه في الترجمة وبين تطبيقهم على ذلك في مجال محدد كمجال التحليل النفسي في عملنا. هل راعينا الشروط؟ هل تم تبليغ المضامين بأقل ما يمكن من الخسارات من اللسان الفرنسي إلى اللسان العربي الذي ندعي امتلاكه نسبيا؟ نستعير من عبد الفتاح كليطو حديثه عن الترجمان في ما يلي لمحاولة مقاربة ما أقدمنا عليه. يقول: " هل يستطيع المرء امتلاك لغتين؟ هل بإمكانه أن يبرع فيهما معا؟ قد لا نهتدي إلى جواب ما لم نطرح سؤالا آخر: هل يمتلك المرء لغة من اللغات؟ أتذكر أنني سمعت كلاماً لم أعثر بعد على مرجعه، فيقول: "هزمتها فهزمتني، ثم هزمتها فهزمتني"، مشيراً إلى أن علاقته متوترة، وأن الحرب بينهما سجال، مرة له ومرة عليه، ولكن الكلمة الأخيرة لها، لهذه الكائنة الشرسة التي تأبى الخضوع والانقياد. ينتهي القتال دائما بانتصارها، ولا يجد المرء بُدًّا من مهادنتها ومسالمتها والاستسلام لها، وإن على مضض". هل يكفي هذا للاستعارة الجميلة التي صدرّنا بها عنوان هذه الترجمة؟ نعني القسَم المستعار من عبد الفتاح كليطو: "والله إن هذه الترجمة لَترجمتي" ، حين عبر هو في روايته الأخيرة : "والله إن هذه الحكاية لحكايتي". هو قسم ليس مقصوداً لذاته، وإنّما استعارة تبيِّن ارتباط المترجِم بالمترجَم له، نعني النص الفرنسي والنص العربي، من خلال نفض الغبار عن علاقتي باللغة العربية، تماماً كما يفعل المبدع الكبير عبد الفتاح كليطو. وهكذا "تفترض الترجمة إذن وجود نص أصلي يحمل معنى واحداً ويحصره. كما تسلِّم أن هذا النص كُتب من أجل حفظ المعنى وصيانته وتبليغه... يحس المترجم (هنا) بمسؤولية أخلاقية... فعليه أن يكتب النص باسم كاتبه، أن يكتبه للمرة الثانية، أن يكتبه دون أن يكتبه، أن يتدخل دون أن يتدخل، وأن يظهر ليختفي". ولكن كيف السبيل للمحافظة على الكتابة الأولى؟ " الترجمة ككل هي كتابة، هي فعالية وتحويل وإعادة إنتاج...هي نقل للنصوص وتحويل لها. وهي تجويل للغتين معاً: اللغة المترجِمة واللغة المترجَمة... إن اللغة المترجمة لا تخون اللغة المترجمة فحسب. وإنما تخون ذاتها. ولولا هذه الخيانة المزدوجة لما كانت هناك ترجمة، بل لما كانت هناك كتابة". هكذا أنقدني المفكر الخبير في المتخيل وفي الترجمة عبد السلام بنعبد العالي من مأزق التفكير في مدى نجاعة أو عدم نجاعة الترجمة في ميدان أغامرُ فيه بكل ما أملك من التحدي. بقول عبد السلام بنعبد العالي:" كل مقدم على الترجمة ( ) يعرف مسبقاً أن ترجمته ليست نهائية. ولن تكون نسخة طبق الأصل، أن تكون ذات الآخر ( Le même de l'autre ). ذلك أن الترجمة إذا سعت إلى أن تكون نهائية زاعمة أنها تضع نسخة طبق الأصل، فتجعل من اللغة المترجِمة مرآة تعكس النص الأصلي، فإنها تكون قد استعملت حالة معينة للغة، وحالة معينة للفكر، تلك الحالة التي لا بد وأن تتحول". رغبة المترجِم، وقدرته على ركوب المغامرة رغم استعصاء اللسان المترجم إلية، بحكم اختلاف المفاهيم بين اللغتين، أو حداثة الحقل الذي يشتغل عليه النص الأصلي، وعدم مواكبة اللسان المترجم إليه لهذه الحداثة. " فليست مسؤولية التحويل التي يتعرض له النص ملقاة على المترجِم وحده، بل إن اللغة تتحمل القسط الأوفر منها، فاللغة التي يترجم إليها النص لها طقوسها وشروطها الخاصة... وأحياناً ترفض اللغة أي تعاون معه (المترجِم) وتتسلى بعجزه وشلل حركته". هذه مغامرتنا غير المكتملة، والتي سيتمها القارئ الذي قربنا له العمل وظروف نزوله. ولتكتمل الصورة لدى المقبل على قراءة هذا العمل، نسوق فيما يلي المقدمة التي صدّرنا بها عملنا هذا، لتقريب العمل من القارئ أكثر. 5 مقدمة المترجم التحويل والخيانة الهائلة تنقلنا الترجمة من ثقافة إلى أخرى بخيانة ضرورية يُجازى مرتكبها بعكس ما اقترفه إذا أحسن فعل الخيانة. هي نقل وتحويل بأداة أساسية هي اللغة. واللغة ميزة الإنسان الذي هو الكائن الوحيد الذي يمتلكها كما عبر عن ذلك جاك لاكان، الأب الحديث للتحليل النفسي، وموجّه جليل بناني في ممارسته وكتاباته إلى جانب سيجموند فرويد ومصطفى صفوان. فما الذي يتبقى من الأصل حين يتم الانتقال من لغة إلى أخرى؟ وما الذي سيطرأ على التابع الذي سيصبح أصلاً ثانياً بعد الخيانة اللذيذة؟ لغة التحكم. لغة الأم. اللغة الأم. لغة رغبة الأم. مفاهيم تبقى حاضرة، بوعي أو بلا وعي، في الكلام وفي الكتابة وخلال الانتقال من لغة إلى أخرى شفهياً وكتابياً. ويبقى مجال التحليل النفسي مجالاً إشكالياً في الترجمة أثناء نقل ما تم في الممارسة، وأثناء نقل هذه الممارسة كتابياً للآخر. هذا ما يُواجه المقبل على ترجمة مجال يشتغل باللغة، ومن خلالها يؤول ليعيد بناء الشخصية، فيفكك ويحول. تحويلٌ حسب التحليل النفسي هو: "عملية نفسية تحصل في العلاج التحليلي على غير علم من المتحلِّل، تجعله يُحوِّل إلى شخص المحلل صفات ومشاعر حِبّية أو عدوانية" (فرويد)، ولكنّه حسب لاكان "لا ينطلق من المشاعر تجاه المحلل، وإنما من المعرفة على اعتبار أن هذا الأخير يُمثّل بالنسبة للمتحلِّل الشخصَ المفترَض، وعلى هذا الأساس يبدأ المتحلل بالكلام بالتعريف عن نفسه كي يلقى من الآخر مزيداً من المعرفة" نسوق هذا الكلام هنا لنبين بعض الصعوبات التي واجهتنا في ترجمة كتاب "التحليل النفسي في البلدان الإسلامية" (نقصد لغة التحليل النفسي في المرحلة الاستعمارية خاصة)، فكيف تم تجاوز هذه الصعوبة لمقاربة عالَم الكاتب ومعه مقاربة تاريخ منسي هو تاريخ الفرد، بآلامه وأفراحه، برغباته ومكبوتاته، بتطوره وتراجعه للخلف؟ تتغير رؤيتُكَ لمكتوب إذا وطّدتَ علاقتك بصاحبه. فأنت هنا تقترب أكثر من القائل لفك شفرات المقروء وخاصة في مجال التحليل النفسي. وتعود علاقتي بجليل بناني لأزيد من خمسة عشر سنة. ابتدأت بلقاء ثقافي لتبادل المعارف بمكتبه بالرباط، ثم بمنزله وبفضاءات أخرى بعد ذلك. لقاءات تمت بطلب منه في البداية في استشارات حول اللغة العربية التي أنحدر منها وأُتقنها لفهم ما يرتبط بأصولها تراثاً وديناً وفلسفة. جليل بناني يتحكم في اللغة الفرنسية ويكتب بها، لذلك تواصلَ التبادل بين ثقافتين ولغتين ومجالين مختلفين ولكن متكاملين، برغبة وحاجة ثم طلب. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع علاقتي به، فأثمرت هذه اللقاءات أولى حواراتي معه، تلك المتعلقة بندوة هامة عُقدتْ بالرباط في أواخر سنة 2006 كان لي شرف حضورها والاقتراب أكثر من عالم التحليل النفسي بالالتقاء المباشر بأهم أعلامه من غربيين وعرب. ثم استمر الحوار بعد ذلك ليُسفر عن منتوج هو: كتاب dans la citée psy Un في نسخة فرنسية سنتيْ 2013 و2014، والذي أصدرنا نسخته العربية تحت عنوان محلل نفساني في المدينة سنة 2018. هو تحويل بالمعنى اللغوي انطلاقاً من خبايا التحليل النفسي. وستستمر مغامرتي في عالم التحليل النفسي الذي يستهوي الشّعراء من خلال الاقتراح الهائل للشاعر محمد بنيس، بترجمة أعمال جليل بناني من اللسان الفرنسي إلى اللسان العربي. لم أَتردّدْ رغم هيْبتي من هذا الأمر الّذي ابتدأناه بهذا الكتاب. قبلتُ بهذه المهمة لأن لغة التّحكم لديّ هي اللغة العربية من جهة، ثم لسعادتي بدخول عالم يستهويني ومعه دار نشر توبقال المتميزة. في ركوب هذه المغامرة كان هناك أخذ ورد في الكثير مما اقترحته من مفاهيم تلائم القارئ العربي وتحتاج إلى تدقيق أكثر، وقد يتداخل فيها الموضوعي بالذّاتي، ويتعارض فيها الرأي الشخصي مع الأصل، سواءٌ تعلق الأمر بجليل بناني أم بجماعة المحللين النفسانيين الفرنسيين في المغرب في الحقبة الاستعمارية وما بعدها، وعلى رأسهم روني لافورج وأتباعه. ينتقل جليل بناني سارداً أحوال الفرد التي قلّما تمّ الاهتمام بها في مجتمعاتنا التي تضحّي كلّ التضحية بالفرد لصالح الجماعة ولو كانت خاطئة. جماعةٌ يؤطِّرها الغيبي الّذي قد يحدّ من طموحاتها في الغالب الأعم. هذا كتاب يؤرّخ لمرحة هامة للمرة الأولى هو تاريخ الفرد وآلامه ورغباته، وانتقاله من الاستعمار إلى الاستقلال مع بقاء كل الحمولات التي رُكِّبتْ حول تاريخ هذا الفرد ووعيه ولاوعيه إبّان هذه المرحلة من قِبَل المحلِّلين الفرنسيين الأوائل، من أمثال: روني لافورج، ومونيك فواسا، وجان بيرجري، ولويس كليمون، وموريس إيجر وغيرهم. ويبقى روني لافورج أهم هؤلاء المحللين باعتباره رائداً مثله مثل فرويد ولاكان ثم صفوان. ويشملُ الكتاب الأصلي أربعة فصول، إلّا أنّ اقتراح جليل بناني لتحيين الكتاب مع المستجدات لكي يبقى راهنياً ومحتفظاً بتاريخيته وسبْقه معاً، سيُحوِّلُ النُّسخة العربية إلى خمسة فصول بإضافة فصل خامس، وحذف التذييل، والاكتفاء بخلاصة مع إضافة كل الراهنية للفصل الخامس. مشكلةُ تحويل المعنى من النص الأصلي وما تحمله من مفاهيم خاصة بمجال التحليل النفسي من اللغة الفرنسية المرتبطة بجاك لاكان الفرنسي وغموضه المعروف، إلى اللغة العربية وما تحمله من موروث ثقافي ديني، عقبةٌ تجاوزناها بالبحث عن تقريب هذا المجال من القارئ العربي بأقصى ما يمكن من التوضيح والشرح وتوضيح المفاهيم الخاصة. فالولي، المجنون، الفقيه، الضريح، المطبب، وغيرها من المفاهيم تختلف أثناء النقل من الفرنسية إلى العربية، وقد قمنا بتوضيح ذلك بهوامش خاصة لكل مصطلح لتقريب المفاهيم للقارئ العربي. كتاب التحليل النفسي في البلدان الإسلامية يعتبر في رأينا الأول من نوعه الذي يخوضُ مغامرة المسكوت عنه في ذات ولاوعي الفرد، ويبين تأثير الممارسات المرتبطة بالتديّن الشعبي الممزوج بالشعوذة واللاعقلانية في أغلب الأحوال، على مسار المجتمع انطلاقاً من حِقبة استعمارية فرنسية خاصة، على اعتبار أن المحلّلين في مرحلة الاستعمار الإسباني في المغرب لم يكن لهم وجودٌ يذكر، لارتباط إسبانيا آنذاك بحكم فرانكو الديكتاتوري. لقد حاولتُ قدر الإمكان أن ألتزم بقضايا التّرجمة في بعدها العلمي، مستعيناً بالصديق المترجم العزيز حميد جسوس الخبير الممارس أكاديمياً في هذا المجال بشكل عام. اختلفناً قليلاً وكانت نقط الاتفاق هي الغالبة على نقاشاتنا. أجدد شكري للصديق حميد جسوس لمراجعته للمعنى في هذا الكتاب، ومقارنة النسخة العربية بالنسخة الفرنسية، وأوجّه الشكر والامتنان للصديق الشاعر محمد بنيس الذي حرص على قراءة هذا الكتاب في نسخته العربية قبل طبعه النهائي، وعلى ما قدمه لي من معلومات وتوضيحات. وأشكر صديقي الدكتور جليل بناني على متابعته وحرصه على أن ترتبط المفاهيم بجانبها العلمي في التحليل النفسي قدر الإمكان. حقاً إن ازدهار التحليل النفسي لا يمكن أن يتم إلا في المجتمعات التي تتمتع بالحدّ الأدنى من الانفتاح. انفتاحٌ يراهن عليه جليل بناني في مساره وفي كتاباته كلّها. الرباط: 25 يونيو 2019.