إن الحديث عن الترجمة، عن وضعها وآفاقها، هنا والآن، لا يستقيم دون تقديم معطيات موضوعية، وجرد لمجالات وتشكيلات الخطاب الترجمي.لكن هذا لا يعني أن الملاحظات العامة تخلو من كل قيمة وورود. وفي حقيقة الأمر الترجمة في المغرب، كما في أوطان أخرى، ترجمات، تتنوع وتختلف حسب الفترة الزمنية واللغة المنقول منها وإليها، وحسب مجالات الدرس، من علوم حقة وعلوم انسانية، إجمالا.وبما أن النفس أقرب إلى الحديث عن الصنف الثاني، بحكم الاشتغال، فسوف أحصر ملاحظاتي فيه، أي الترجمة المتعلقة بالأجناس الأدبية، وخاصة السردية منها، وتلك التي تنتمي لحقل الدراسات الفكرية، كما لن أتطرق للترجمة من اللغة العربية إلى لغات العالم، إذ نعلم أنها رهينة الفعل الفردي للكاتب المغربي، أو مؤسسات غربية لا تدخل الترجمة من العربية في استراتيجيتها، إلا من باب المجاملة، بالطبع هناك دور نشر غربية تقوم بذلك، وهذا شأن آخر. من منظور زمني، لعل الدارس يقف عند فترة مفصلية في تاريخ المغرب، ودون إطناب، أقصد وضع المغرب في سياق الحماية ثم الاستعمار، والاستقلال، أخيرا. وضع خلق بالضرورة ما يسمى بالتجاذب بين لغة المستعمِر ولغة المستعمَر، في شمال البلاد ووسطها وجنوبها، وما نتج عن هذا الوضع المزدوج ونتائجه السياسية والاقتصادية وتداعياته الثقافية التي تخصنا بالدرجة الأولى، أي التعبير اللغوي المزدوج في الإدارات وفي الجامعات وفي الابداع. إلا أن المتأمل لهذا الوضع المركب، لا بد وأن ينتبه لحقيقة أن الترجمة كانت حاضرة بقوة، وباستعجال، لضرورات بناء الدولة الوطنية، فكان الورش الأكبر هو التعريب في كل ما يتعلق بشؤون الحياة الإدارية، العملية، مع استمرار اللغات الأجنبية في الحضور، داخل الجامعات والمدارس. لكن هذه العملية ظلت ناقصة إلى اليوم، حيث أن هناك إرث استعماري هائل لم يترجم منه إلا القليل (الكتابات الكولونيالية )، وتوجهت الجامعة المغربية إلى ترجمة العلوم والمعارف الأكاديمية، بالاستعجال نفسه، وبغير قليل من النفعية. والجهود كانت دائما فردية، أو بمبادرات فردية، وقد يتبادر إلى الذهن حضور بعض المؤسسات التي تعنى بالترجمة، لكنها في نظري، مثل المؤسسات الاخرى تُخرِج عاملين وموظفين في المجال.وهي عندي لا تختلف عن باقي الإدارات التائهة في بيروقراطيتها، والمتعيشة منها . إلا أن هناك جانبا مشرقا، رغم ذلك، وهو أن الترجمة ظلت حاضرة، .وسوف أتحدث عن الفترة التي شهدتها شخصيا، أي ثمانينيات القرن الماضي، التي عرفت موجة من الإقبال على الترجمة في مجال العلوم الانسانية خصوصا، كان هاجسها الأساس نقل ما تم إنتاجه غربيا في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، والنقد الأدبي. وهذا الانهمام اضطلع به أفراد وإن ألَّف بينهم عالم المهنة والبحث الأكاديمي الذاتي (جامعة، أو صحافة، أو هما معا)، ويبقى أن الثابت هو الجهد الفردي، الذي تغيب عنه المؤسسات الداعمة ماليا.أذكر مثلا تجربة صحيفة الجامعة، المحور الثقافي والجامعي، والملاحق الثقافية لجرائد بارزة آنذاك، العلم الثقافي وملحق الاتحاد الاشتراكي، ومقالات قليلة من مجلة هنا وأخرى هناك، مثل ‘بيت الحكمة' وغيرها. وتوالت الكتابات الترجمية التي ظلت منحصرة في المجال النقدي الفكري عموما، وصارت أسماء بعينها متداولة بكثرة، حد الإشباع: بارت، تودروف، كريستيفا، غريماس، فوكو، دريدا، غولدمان، إلخ.وأصبح لدينا ثلة من المترجمين، من خارج المؤسسات التي تحمل في هويتها الاسمية كلمة ترجمة، إلا فيما ندر.إذ مقارنة مع عدد المتخرجين منها، المفروض أن تكون هذه الأسماء حاضرة بنسبة محترمة في المجال الذي نتحدث عنه، لكن القلة القادمة من خارج التخصص هي التي أسست للوضع الاعتباري للترجمة المتصلة بالنقد الأدبي، والفلسفة خاصة، وكان لاستمرار الوتيرة على ذلك المنوال تداعيات مسَّت تموقع الترجمة المغربية، عربيا، وانتبه المشرق إلى تلك الأعمال الوافدة من الغرب، الغرب العربي طبعا، ومغربيا، تأثير الخطابات النقدية الترجمية في مجالات وأنواع أدبية بعينها، في النقد، في الرواية وفي الشعر، التي كانت بمثابة زوبعة، لا بد منها، لكن خرجت من علبة باندورا الابداع شياطين تعدد الساردين والأصوات، وعفاريت إدماج أجناس خطابية متنوعة بل ومتنافرة في النص الواحد، وأرخت كاليغرافيا أبولينير وغيره بظلالها على نصوص راجع، وبنيس والسرغيني وبنطلحة الشعرية وصار النقد الأدبي للنصوص أقرب إلى خطاطات وطلاسم منه إلى التحليل والتأويل، وتاه النص بين الرؤية والتبئير ووجهة النظر رغم أن المدلول واحد، وضللنا الطريق إلى النص، بعد قتل المؤلف، والسياق، وعلِق الكثيرون في شراك مربعات غريماس ولوغارتماته. وبتأثير من ترجمة نصوص المدارس الشكلية إذن، أصبحنا أمام نقد هو نقل للمعرفة أكثر منه إنتاج لها، وبالتدرج تخلص النقد مع مطلع الألفية الثالثة من أغلال النقد الشكلاني، والسيميائي في مظهره الخطاطاتي. وقد نتلمس هذا التخلص المتدرج في نموذج نقدي مغربي، مثلا لو أخذنا الناقد عبد الفتاح كليطو، وتتبعنا أعماله النقدية لوجدنا أن ‘الأدب والغرابة' مثلا قد كتب تحت سطوة، بل سلطة، النقد الشكلاني في صيغته الفرنسية، ويكفي تصفح الكتاب للوقوف على كثافة المصطلحات والاقتناع بأننا أمام تطبيق عملي لمفاهيم نظرية، وحضور لافت ووازن للترجمة، لكن شيئا فشيئا تخلص كليطو من نفوذ المصطلح الفرنسي في ‘المقامات' وما جاء بعدها من كتب، وإن استمر في الكتابة باللغة الفرنسية، على منوال النقد الموضوعاتي، الممزوج بالذاتي، الذي لا نستطيع إزاءه الفصل بين لغة الدارس ووجدانه ولغة المؤلف قيد الدرس ووجدانه.. وأثر الترجمة ظاهر في أعمال محمد مفتاح أيضا، الذي لم يتخلص، في نظرنا، كثيرا من سطوة النص الغربي المترجم. وقس على ذلك في مجال الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى. قد يتبادر إلى ذهن البعض ما دخل الترجمة، في كل ذلك ؟ إنها، أي الترجمة، بمثابة ذلك القريب الفقير، الذي يعتمد عليه في الشدة، وينسى ويتجاهل في الرخاء، لولا الترجمة لما تقدم النقد والبحث الفلسفي عندنا والإبداع الروائي والقصصي، في جزء كبير منه.فالترجمة حاضرة دوما، سواء كان ذلك بصيغة تامة، ترجمة العمل بأكمله، أو من خلال التصرف، عرضا وتلخيصا.وعلى العموم، كان ذلك الكم ضروريا، ضم الغث والسمين، تضاربت فيه المصطلحات، وهيمن النص المصدر على النص الهدف، بحيث أذكر جيدا أن النص المترجَم كان يضم من الكلمات المكتوبة بالحروف اللاتينية ما يقارب عددها باللغة العربية، وإن كان في ذلك ما تم تبريره بالرغبة في التأصيل للمصطلح، أو على الأقل تمييزه. هدأت تلك الفورة، وشيئا فشيئا، عاد الكثير من ‘مترجمي المناسبة' إلى قواعده، وانصرف إلى اهتمامات أخرى، أو ‘قلب المعطف'، والبعض الآخر غادر جراء فشل ذريع، وآخرون فضلوا الاستمرار مع التنويع في مجالات النصوص المترجمة.لكن لم يتم غربلة ذلك الكم الترجمي، ولم نخرج منه مثلا بمعاجم محققة، حسب مجالات الابداع :الأدب، النقد، الفلسفة.أي أن التخبط المصطلحي ما يزال ساري المفعول، وإن خفت حدته.مجهودات فردية كبيرة بذلت، لكنها تظل حبيسة الكتب المفردة والدراسات والمقالات، لا تجد من يجمع ذلك الشتات. ومع كل ما قد يتبادر إلى الذهن من أن هناك حركية، فليست بالقدر الذي يجاري ما تنتجه دار نشر اسبانية أو فرنسية واحدة.وهذا إشكال يتجاوز مقدرة المترجمين الأفراد، وهو سؤال سيظل يطوق أعناق الكثير من المؤسسات ذات الصلة. لكن أثناء كل ذلك كان هناك غائب كبير هو الإبداع الخيالي، أي ترجمة النصوص المصنفة في أجناس الرواية، والقصة، والشعر والمسرح. إذ لمدة طويلة ظلت المكتبة المغربية تقتات على ما تجود به الترجمات الوافدة من دور نشر المشرق العربي، على علاتها، وظل المغاربة رهن الفكرة المتداولة، عن مشرق مركز، ومغرب هامش، مشرق الخيال، ومغرب الفقه والفكر، إلى أن حُلَّت هذه العقدة، ودائما بمبادرات فردية ومن دور نشر عربية في الغالب، وصرنا نقرأ لأسماء مغربية تنقل بجودة عالية، وهي قلة، بعض ما أنتجته دور النشر الغربية، الفرنسية منها والاسبانية والانجليزية.مع فارق في هيمنة الأولى. ولعلنا نعيش هذه الأوقات افتتانا بالترجمة، شبيها بالإعجاب الذي شهدته ثمانينيات القرن الماضي بخصوص الأعمال الفكرية. ولا أعرف هل تلك ظاهرة صحية، أم غير ذلك، بحيث أصبحنا موازاة مع هجرة الكثير من الكتاب إلى الرواية، نشهد هجرة مماثلة نحو الترجمة. أكيد أن الحقل مشاع، لكن المؤكد أن للنص الأدبي خصوصيته، والتي قد تغري الكثيرين، ومن تم صعوبته، وهي في نظري الفيصل، بين ترجمة تنقل العلامات اللغوية، وأخرى تدخل إلى أعماق النص، تستنطق قيمه الثقافية، الدينية، الفنية والجمالية، كي تقدم للقارئ العربي، ترجمة أدبية لنص أدبي، وهذا هو الفرق. حيث إذا كان من الممكن مبدئيا أن ننقل نسق لغة إلى نسق آخر من العلامات، وكان هناك منطق مشترك يجمع كل أنساق العلامات، لسان مفترض وحيد، لسان الألسنة، فإن النص لا يمكن ترجمته كليا وبشكل دقيق، لأنه لا وجود لنص النصوص، مفترض، ووحيد.وهكذا يبقى مسعى المترجم، في حالة النص الأدبي، هو الاقتراب أكثر من النص المصدر ومحاولة إعادة كتابته في اللغة الهدف، بالأمانة المطلوبة، دون حذف، أو تأويل.والمقصود بذلك ‘قول الشيء نفسه تقريبا'، بعيدا عن كل تغريب أو تعريب مفرط. التغريب، أي الأثر الذي نجده عند قراءة نص فرنسي بحروف عربية، لكن ليس بروح اللغة العربية، ونشعر كأننا نقرأ خبرا معمما في وكالات الأخبار، إذ ما يهم هو الخبر، وليس صيغة الخبر السليمة؛ والتعريب المفرط، هو التعصب لنقاء اللغة العربية، وترجمة نص فرنسي مثلا، من الألفية الثالثة، بلغة العصور القديمة. إذن لا إفراط ولا تفريط، حيث تلاقح اللغات ضروري، في الصيغ االتركيبية، والمعجمية، بل حتى المجازية أحيانا (في سياق ترجمة الشعر على الأخص، الذي يحفل بالانزياح على وجه الضبط). ولعل الصعوبة التي تواجه مترجم الرواية هي بالذات تلك اللغة المجازية.إذ أن اللغة العربية لها وضع خاص، بصفتها لغة فصحى، لغة مكتوبة، أكثر منها منطوقة على نحو واسع، بخلاف اللغة الفرنسية التي تتعايش فيها لهجات، ورطانات، كما أنها خليط من المستويات والمقامات: العالِم، المعمم، المألوف، الفاحش، وتتجاور فيها لغة الحانة والكنيسة، الشارع والمدرسة. لهذا فالمترجم الحاذق هو الذي يتجاوز مأزق صفاء اللغة المقعدة، التي ألغت اللهجات، أو على الأقل احتوتها، وشذبتها، بالتالي على المترجم أن يميز المقاصد والسياقات، كما لا يمكنه أن يغيب تجربته كقارئ، وناقد أيضا يفكك أساليب الرواية وبنيتها. قارئ ليس في مجال المتخيل الروائي وحده، بل في كل المجالات التي يصادفها في أي رواية.إذن الموسوعية مطلوبة، دون أي ادعاء. وأخيرا، كثيرة هي الاستعارات التي تسعى إلى القبض على ذلك المنفلت الذي هو الترجمة: من بينها الخيانة، العبور، إلخ.شخصيا أحب استعارة نار بروميثيوس، تلك الجمرة الحارقة، التي أود لو أضعها بين يدي القارئ جاحمة، محرقة وأن يناله قسط من حرِّها، لكن بالنظر إلى المسافة الفارقة بين فضاء النص المصدر وفضاء النص الهدف تخبو الجمرة، وأحيانا لا يبقى سوى الرماد. الطريق إذن استعارة أخرى استحسنها، بين النصين، الطريق بصفتها كرنوطوب اللقاء، لقاء الفكر والحوار. لكن الطريق ليست دائما ممهدة، إنها ملتوية، غير مستوية، مليئة بالمنعطفات، فيها الكثير من الحفر، والنتوءات، وبصفة المترجم أحاول السير، أحاور المنعرجات، أحملها على ملاذها، أتحايل أحيانا كثيرة، أستسلم تارة لفتنة مجاز، أو استعارة أو كلمة نابية، أود لو أن أنقل عبارة النص المصدر بما فيها من دم ووحل وبراز، أود أن أنقل عطورا لا أعرف لها ماهية في لغتنا العربية، ثمارا غريبة لم أشهدها على مائدة أو مأدبة، أصناف المأكولات والمشروبات، وأنواع النبيذ والخبز، والجبن، أسماء الملابس وفق الأجيال، والأجناس، أود لو أنقل ذلك بأمانة، وحينما تعجزني كلمة أو عبارة ويتسرب إلي الفتور أستجير بثراء اللغة العربية، وأحدث نفسي: ‘إن هذه اللغة التي تغدق على الشيء الواحد أسماء عديدة لن يعجزها نقل عبارة من لغة موليير إلى لغة الجاحظ ‘، لا أقصد التكييف التغريب، وإنما تطويع اللغة، استلهام إمكاناتها للتعبير بعربية العصر المتداولة عما ضمته لغة المنشأ. إذن استلهام مقدرات العربية في صيغها النحوية، والصرفية والاشتقاقية، ليس إلا. أما عن آفاق الترجمة، أظن أنها سوف تظل دائما محمولة على أكتاف الأفراد، الأكيد أن لدينا ثلة من المترجمين الأكفاء، المطلوب هو تجميع الطاقات، والاعتراف الحقيقي الداعم بوضعها الاعتباري، والإقرار بأن من دونها لا جدوى من الحديث عن الانفتاح والحوار المتبادل مع العالم الخارجي. وأخيرا، إن فترة الافتتان أو هجرة الأقلام نحو الترجمة سوف تعمر بعض الوقت، وأنها لا ريب ستستفيد أكثر من العولمة، التي هي سيف ذو حدين، لكن المؤكد أيضا أن الرصانة، والجودة هما الفيصل في نهاية المطاف، ‘فأما الزبد فيذهب جُفاء'.