"لكل جديد دهشة", وتختلف الدهشة وحِدَّتها حسب الجديد ونوع الجديد وأيضا شكل هذا الجديد.. أما الجديد في مدينة البيضاء فكما تعلمون ويعلم الجميع هو "الترامواي" (علما أنه ليس بالجديد الجديد فقد تم فض بكارته وهتك عرضه), الذي أصبح يخيط شوارعها ويتزحلق فيها كثعبان يتلوى من شدة الفرح.. ولأن المغاربة غير معتادون على مثل هاته الوسيلة التواصلية -الأنيقة-, ترى على وجوههم الدهشة والانبهار عندما يقفون أمام "الترام" أو يحاولون صعوده, ربما لأنهم اعتادوا الحافلات المدكوكة بالركاب الغاصة بالعباد... البعض تتسمر عيناه في جحريهما وهو ينظر إليه كأنه يشاهد ملك الموت يمشي فوق الأرض؟ والبعض الآخر بمجرد أن يهم بالصعود حتى ترتعد كل أطرافه وتهتز كل جوارحه وكأنه سيركب مكوكا فضائيا أو طائرة نفاثة؟؟؟ أما بعض الفئات والتي تحاول إخفاء دهشتها وقمعها -كأنها من مواليد مدينة الضباب وليس البيضاء- فيُفضح أمرها ويُكشف سرها ما أن تلج بطن "الترام" فتُدَوِّخُها الأناقة الفتاكة والرفاهية المحبكة بعناية فيصبحون كالبُلهان في ليلة دخلتهم... راعني الأمر عندما شاهدت النزر اليسير من الأشخاص يتهافتون من أجل أخد صورة بجانبه وكأنهم يأخذون صورة تذكارية مع أحد مشاهير هوليود؟ أو أنهم يصطفون وراء لوحة فنية شهيرة رسمها ليوناردو دافينتشي؟ "سأركبه, أجل سأركبه في يوم من الأيام", هكذا سقطت في أذني-رغما عن أنفها- هاته الجملة بينما كنت راكبا أحد صناديق النقل العمومي عفوا حافلات النقل العمومي. لقد أصبح ركوب "الترامواي" حلما عند البعض وهوسا عند الآخر... قد يقاطعني أحد القراء -في نفسه طبعا- ويقول لي وهل أنت من مواليد مدينة الضباب أيها الكاتب الأحمق البليد حتى تتهكم على البعض وتتندر بالآخر؟ ألم تصعقك دهشة "الترام" أيضا؟... أما إجابتي عن هاته الملاحظة القيمة والتي لا يمكن وصفها إلا أنها ملاحظة في محلها. أنا أيضا أدهشتني وسيلة النقل هاته وأحسست -بالغربة- عندما ركبتها أول مرة –طبعا لأني من أبناء الشعب المزاليط معتاد على صناديق النقل العمومي-. كما أنه لا يمكن لي أن أنكر أن تواجد "الترام" أضفى رونقا على المدينة وحسن مظهرها شيئا ما, بالرغم من بؤس العديد من أحيائها وتراجيدية عيشها... منظر عبثي سريالي ذاك الذي ترمقه عيناك حين تشاهد حمارا يجر عربة يسير بجانب الترام فتختلط أجراس هذا الأخير مع نهيق الأول فيصبح الأمر أشبه بلعبة مجنونة من ألعاب القدر؟ أو تشاهد بعض الشوارع الجد ضيقة المليئة بالحفر والكدمات, الغاصة بالأزبال والنفايات تخترقها طريق الترام المجمَّلة بأبهى الحلل المنمقة بالنخيل الأهيف الأخاذ؟ هناك تساؤلات تطرح نفسها بإلحاح وتبحث عمن يجيب عنها أو على الأقل يحاول التفكير فيها من قبيل : هل اعتلينا صرح الحضارة بمجرد أننا قمنا بانجاز مثل هذا المشروع المكلف؟ وهل الحضارة رهينة فقط بمثل هاته الأشياء المادية مع تغييب كلي للإنسان؟ ألا تعتبر مثل هاته المشاريع خاتما في يد بلد عريان؟ "لحاصول وما فيه أش خاصك أكازا خاصني ترامواي أمولاي"...جف القلم