رغم أن نهاية العالم لم تأت في التوقيت الذي توقعه تقويم حضارة المايا البائدة، وكسبت الإنسانية برمتها عمرا جديدا، يصر البعض على تكدير صفو ما ربحناه من أيام إضافية (على غرار الأشواط الإضافية) في هذا الكون، فلا يرى في ما يحيط بنا إلا السواد، مثله في ذلك مثل رسام مغربي اشتهر في الأوساط الفنية البيضاوية قبل ربع قرن، كان كلما دعي إلى عرس أو فرح إلا وانتحى مكانا معزولا عن الناس وأسقط رأسه على صدره ثم شرع يضرب كفا بكف وهو يقول: «مون ديوه، مون ديوه» (إلهي، إلهي) ويكررها مرات عديدة إلى أن يبعث اليأس في من يحيطون به ويفقدهم الرغبة في الحياة وفي دعوته إلى أفراحهم من جديد حتى «اختفى من التداول» بالمرة. آخر ما تفتقت عنه قريحة هؤلاء «السوداويين» سعيهم إلى تكدير فرحة البيضاويين بمقدم «الترامواي»، حيث عبّروا عن استغرابهم تخصيص أزيد من أربعمائة وخمسين رجل أمن لتأمين مسار وسيلة النقل الجديدة هذه من نقطة انطلاقها إلى «التيرمينوس»، وهو ما يعني -بحسبهم- أن «الترامواي» يتحرك في وسط يكرهه ومعادٍ له بالمرة، الشيء الذي يبعث على التخوف والقلق. لكن هذا التخوف لا محل له من الإعراب، حيث يمكن اعتبار هذه الكراهية المحيطة، في حال صحتها، شيئا إيجابيا يبعث على السرور والانشراح، وذلك لأنها تجعلنا نعيش في الواقع أمرا كنا نشاهده في السينما فحسب، وتحديدا في أفلام «الويسترن» الأمريكية، التي تمتلئ بمشاهد العراك بين «ليزانديان» وواضعي خطوط السكة الحديدية أو راكبي القطارات البخارية، بل ويمكن استغلال هذا «المخيال» السينمائي لخلق فرجة يومية فعلية في محيط «الترامواي» من شأنها أن تحوّل المدينة إلى مزار سياحي على المستوى الدولي، حيث يمكننا -مثلا- أن نواكب سير عربات الترامواي بقوافل موازية لسيارات الأجرة يصدر سائقوها أصواتا شبيهة بصرخات الحرب لدى «ليزانديان»، تعبر عن إصرارهم الدائم إلى حد الساعة على رفض وسيلة النقل الجديدة هذه، التي تم وضعها «دون التشاور معهم وأخذ رأيهم»، هم «أصحاب الطريق الأصليون» التي اعتدى «الترامواي» عليها وعليهم ظلما وعدوانا، مهددا بتعريض سياراتهم، وخاصة الحمراء منها، لنفس المصير الذي تعرض له الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليون. وهنا ينبغي الاعتراف، فعلا، بأن سيارات الأجرة الحمراء، التي تيمّن واضعو «الترامواي» بلونها، هي من أغرب سيارات الأجرة في العالم، (يمكن أن نطلق عليها نعت «طاكسيات لا مثيل لها») ومن هنا قدرتها على إنعاش المدينة بجلب المزيد من السياح الأجانب: حيث يرفض سائقوها وضع حزام السلامة، لهم ولركابهم، على أساس أن «الأعمار بيد الله»، ويصرون على الوقوف في وسط الطريق وتعطيل المرور قصد حمل الركاب، ويقدمون نموذجا ثوريا لباقي السائقين حين يقفون أمام محطات القطار ويحددون هم (وليس الركاب) الوجهة التي يتعين الذهاب إليها، ب»السيف» (ربما لهذا السبب يكتب على سياراتهم: «طاكسي صغير»، أي «ما تدّيش عليه»). وهذه أمور «أصيلة» لا تتوفر في «الترامواي» الذي يوجد ما يماثله في كثير من بلدان العالم. وإذا كان هناك من يزايد على «طاكسياتنا الصغيرة» في «أصالتها» هذه فهو حافلاتنا البيضاوية الخضراء التي تعرف أنها الوحيدة في الكون بأسره التي تسير في أقصى يسار الطريق ولا تقف عند إشارات النور الحمراء؛ ولا يمكن أن يعاقبها أحد على ذلك لأنها «مريضة بالعَصاب» وإذا جودلت يمكن أن «يتقطع ليها الفران» فتسوق العباد والممتلكات معا؛ تستوي في ذلك الحافلات المصنوعة محليا مع الحافلات «بون أوكازيون» المستوردة من خردة باريس والتي سرعان ما تكيفت مع بيئتنا المحلية فأنستها كلّ ما تربّت فيه من عز ومعاصرة. ألا يمثل هذا ثروة سياحية لا تقدر بثمن؟ يتعين فقط على أصحاب السياحة أن يحسنوا تسويقها في الخارج، وحينها ستصبح العاصمة الاقتصادية الوجهة الأولى لكل من يسيح متجها نحو «أجمل بلد في العالم».