حين أطلق المكتب الوطني للسكك الحديدية اسم "البُراق" على القطار فائق السرعة- الأول من نوعه في إفريقيا- الذي يصعد من الدارالبيضاء إلى طنجة، وجدتُ الاسم موفّقًا إلى حدٍّ كبير. فطنجة يُلقّبها المغاربة بالعالية. أو على الأقل، هكذا تقول الأغنية: "طنجة يا العالية/ عالية باسوارِها". ولأنها مدينة اختارت العلياء مسكنًا، فالحجّ إليها صعودٌ وارتقاء. ارتقاءٌ ألفيتُه سعيدًا رغيدًا وأنا أستقلُّ "البُراق" في أسفاري الأخيرة إلى طنجة. لكنّ طنجةَ الصّيف تحتاج وُجوبًا إلى سيارة. هكذا يصير التجوالُ داخل المدينة مُتاحًا والتنقلُ سلسًا ما بين شواطئها الشمالية الشرقية على ضفة الأبيض المتوسط والجنوبية الغربية على الساحل الأطلسي. من عجائب الاتفاق أنني ما إن بلغتُ طنجة حتى وصلتني رسالة عبر الواتساب من صديقي الشاعر العماني سيف الرحبي. كان في جبل سراييفو. لم يختَرْ سيف وجهته بأريحية. لكنه مُكرَهًا كان، عديمَ الحيلة. فسلطنة عمان مصنّفةٌ وبائيًّا في الدائرة الحمراء، وسراييفو هي الملاذ الوحيد المفتوح في وجوههم. الغريب أن سراييفو ظلت فاتحةً حدودها في وجه الجميع. كأنّ كوفيد 19 مجرد إشاعة. والناس في سراييفو لا يرتدون كمامات ولا يأخذون أيّ احتياط، والأغرب أنّ الوباء ظل يُهادنهم، وكأنه على علم بكل ما كابدَتْه المدينة عبر تاريخها المعاصر من ويلات فقرَّر أن يجبُر بخاطرها ويكون مرورُه بها خفيفا. تمنيتُ لسيف عطلة سعيدة، فجاء ردُّه على تحيتي هدية جميلة. بعث لي عبر الواتساب نسخة من إصداره الأخير "بومة منيرفا". كان كتاب رحلات. بادرت إلى تصفُّحِه على الهاتف وأنا أتمشَّى على الكورنيش، فإذا بي أفاجَأ بالكتاب يُفتتح بمادة جميلة حول "طنجة: مغيب المغرب العربي الكبير". قرأتُ مباشرةً: "من رأس سبارطيل أرى المحيط أمامي منبسطًا خاشعًا كصلاةِ أقوامٍ على وشك الإبادة وأرى المتوسط فضاء غيُوبٍ محتشدًا بالأسرار". فهمتُ لماذا بعث لي سيف كتابه. لأنّي قلت له: "أنا في طنجة". هكذا استقبلني وهو في سراييفو بنص عن مدينة البوغاز. شكرا أيها الشاعر على حفاوة الاستقبال. لكن، لِمَ لا أذهب إلى "رأس سبارطيل"؟ على الأقل، لأكون عند حسن ظنّ القصيدة. أخذتُ طريق غابة الرميلات المتاخمة لطنجة، والتي تمتدّ على مساحة 67 هكتارًا. توقفتُ بمُنتزهها الفاتن. تصوَّرتُ عبوري به سريعًا فإذا بالغابة تستدرجني إلى دغلها الكثيف بالداخل. أشجار البلوط الفليني. أشجار الزان. أشجار الغار. الصنوبر المثمر. السّنط على الأنواع: سنط الفصول الأربعة. السنط الشتوي. وسنط الكارو المزهر. سنطٌ كثيفُ الأزهار وآخر أقلُّ يُنوعًا. كل أصناف الأكاسيا هنا. وأنا لست خبيرًا لأميِّز الميموزا عن هذه الأصناف الطَّلحية التي تملأ الرحب. لكنْ كلُّها أشجار سنطٍ مهما اختلفت التسميات وتعدّدت. لا، هناك الأوكالبتوس أيضًا. لأول مرة أكتشف الأوكالبتوس الليموني ذا الزهرة الحمراء البديعة. كان أهالي طنجة موزّعين تلك الصبيحة على المجالس المريحة المشغولة من جذوع الأشجار والمبثوثة في مختلف جنبات المُنتزه. كانوا يتناولون فطورهم المتأخر على عادة الطنجيّين الذين يفطرون في الضُّحى عادةً. روادٌ آخرون، من زوّار المدينة على الأرجح، التحقوا بالفضاء المُخصَّص للمشاوي. طفقوا يشوون اللحوم الطازجة هناك في مشواة جماعية عملاقة نُصِبت في عمق الغابة. بينهم مَن كانوا يبحثون لطواجينهم عن هوامش غير ملتهبة وسط المشواة. لم أكن جوعان مثلهم. لذا غادرتُ باتجاه قصر برديكاريس، الديبلوماسي الأمريكي يونانيُّ الأصل الذي قصد غابة الرميلات وشيّد بها قصره الشامخ من أجل عيون زوجته المريضة بداء السُّل. سمعتُ أن القصر جرى ترميمه، فأحببت أن أرى مآلهُ بعد الترميم. وأنا أهبط باتجاهه عبر ممشى ظليل تذكرت القصة الرومانسية المشوقة. كان هذا الممشى ضمن مسارات أخرى اجترحها الدبلوماسي الأمريكي وسط الغابة ليُتيح لمحبوبته العليلة التجوُّل السّلس بين أحراش الغابة وأشجارها الباسقة أنّى شاءت في فترة نقاهتها. لكن ما لم يخطر قط ببال إيون برديكاريس هو أن صقرًا من صقور تلك الجبال سيتربّص بحمامته الوديعة. ينقضُّ عليها انقضاضا ثم يطير بها في غفلة منه. لم يكن هذا الصقر سوى الشريف أحمد الريسوني زعيم قبيلة بني عروس الذي تحوّل إلى قائد عسكري محنك لُقِّب فيما بعد ب"ثعلب جبالة"، وثائر كبير ضدّ السلطة المركزية والوجود الإسباني على حدٍّ سواء. سبق أن اطَّلعتُ على أكثر من صورة للشريف الريسوني على الإنترنت وفي الصحافة المغربية، لكنني لم أتعاطف مع أيٍّ من تلك الصور التي يظهر فيها الرجل سمينا كث اللحية. بما لأن ملامح الشريف الريسوني تمازجَتْ في ذاكرتي ووجداني تمامًا بملامح شين كونري. كنت قد شاهدتُ فيلم "العاصفة والأسد" منذ سنوات، حيث تقمّص شين كونري دور الريسوني وحمل اسمه في الفيلم الذي أخرجه جون ميليوس سنة 1975. في الفيلم بدا الريسوني (شين كونري) بطلا نبيلا ذا سؤدَدٍ ونبالة. أمّا السيناريو الذي كتبه ميليوس بنفسه فظل ملتصقا بالحدث التاريخي في واقعيته: كانت ثورة الريسوني في حاجةٍ للزاد والعتاد، لذا قرّرَ الزعيم في أحد أيام شهر ماي 1904 الإغارة على غابة الرميلات لاختطاف زوجة المليونير الأمريكي برديكاريس وابنه كرومويل قبل مطالبته بفدية قدرُها سبعون ألف قطعة ذهبية. وكان قبل ذلك قد اختطف والتر هاريس مراسل صحيفة "التايمز" في طنجة، ولم يطلق سراحه إلا بعد الحصول على فدية مُجزِية. جرّب برديكاريس كل السُّبل الممكنة لتحرير زوجته وابنه. اتصل بالسلطان مولاي عبد العزيز أوّلًا، دون جدوى، ثم بالرئيس الأمريكي روزفلت فيما بعد. هذا الأخير أرسل فرقاطة بحرية لإرهاب الريسوني، لكنه استهان بالتهديد وبعث للرئيس الأمريكي رسالة تحد ساخرة يدعوه فيها إلى الصعود بفرقاطته إلى الجبال إذا أراد النّيل منه. الرسالة بالضبط تمَّ الاشتغال عليها بشكل بديع في الفيلم. لا أنسى قط كيف قرأ روزفلت الرسالة في نهاية الفيلم بعين واحدة، كما لا أنسى تنكيلَ كاميرا ميليوس به وهي ترجع إلى الوراء ليتضاءل الرئيس حتى بدا للمشاهدين ضائعا ضعيف الحيلة في نهاية المشهد. هل حقَّا أغرِمَت الخطيفة بخاطفها كما يزعم فيلم "العاصفة والأسد"؟ لا أدري. أو على الأقل لم أطَّلع في المصادر التاريخية على ما يُفيد ذلك. لكن ما سيحفظه التاريخ الذي أشهد عليه اليوم هو أنّ قريبًا للريسوني الكبير، الذي تقمَّص شين كونري دوره ببراعة في الفيلم، ظل يخوض إلى حدود أيام قليلة إضرابا عن الطعام في أحد سجوننا الوطنية لمدة تجاوزت 120 يومًا، بعدما كاد الفيلم المغربي الجديد، الذي يلعب صديقي بطولته رغم أنفه، ينتهي نهاية دراماتيكية. البطولة في عالم اليوم هي أن تحافظ على الحدّ الأدنى من حرّيتك ومن حقك في التعبير. البطولةُ صارَتْ مجرّد حكايةٍ تُروى في كتاب أو فيلم. قرّرتُ إعادة مشاهدة "العاصفة والأسد" إذا كان متاحًا على اليوتيوب، ثم غادرتُ الرميلات باتجاه رأس سبارطيل وأبياتُ سيف الرحبي الشعرية في البال. بدت المنارة شامخةً هناك فوق ذلك النتوء الجبلي الصخري الذي يتجاوز علوُّه الثلاثمائة متر، والمقابل مباشرةً لرأس طرف الغار شمال مدخل مضيق جبل طارق. فهذه المنارة التي أمر ببنائها السلطان العلوي محمد الرابع (محمد بن عبد الرحمان) في أقصى نقطة في شمال الساحل الأطلسي للقارة السمراء، تعدُّ أقدم منارة بحرية في المغرب، بل وواحدة من أقدم منارات العالم، إذ سطع نورها في منتصف شهر أكتوبر 1864 حيث تمَّ الشروع في استخدامها في الخامس عشر منه بالضبط. كلما زرتُ رأس سبارطيل توقفتُ دقائق قد تطول أحيانًا وأنا أحاول عبثًا البحث عن شواهد لونية أتبيّن من خلالها الحدود التي تفصل البحر عن المحيط؟ أين تنتهي هذه البحيرة العملاقة، بحيرة الحروب الدينية والسياسية عبر التاريخ التي كان القدامى يسمونها البحرَ الزُّقاق؟ وأين يبدأ المحيط الهادر الذي أطلقوا عليه بحرَ الظلمات؟ أعرف أن "مرَجَ البحرين يلتقيان، بينهما برزخٌ لا يبغيان". فأين البرزخ إذن؟ تحت أيّ صخرة يتخفّى؟ وفي بطن أيٍّ من هذه الموجات المصطخبة يعانقُ الماءُ الماء؟ سمعتُ مرّةً داعيةً سعوديًّا يحكي أن مجمع البحرين المذكور في القرآن ليس سوى هذا الالتقاء العجيب للمتوسط بالأطلسي في طنجة، أمّا الخضر عليه السلام فمغربيٌّ قحّ. سمعت الحكاية في شريط، وإلا لو أتيح لي أن أجالس الخطيب المفوَّه لسألته: هل كان الخضر أمازيغيا أم لعله جبلي من بني عروس؟ كأني بالعرب إذن عاشوا في هذه البلاد قبل عقبة بن نافع وموسى بن نصير، بل قبل أن يصير للعرب رسولٌ من أنفسهم عزيزٌ عليه عنَتُهُم حريصٌ عليهم. انتبهتُ بعد لحظات وأنا أتمشى أسفل الصخرة خارج مدار المنار إلى شاهد خشبي طريف يقف الخلق في طابور طويل أمامه ليلتقطوا صورًا بجانبه. فماذا هناك؟ لم يكن الأمر يتعلق سوى بلوحين خشبيّين مشدودين إلى وتد. اللوح الأول يشير شمالا إلى البحر الأبيض المتوسط فيما ييمّم اللوح أسفله جنوبا وقد نُقِش عليه اسم المحيط الأطلسي. كانت الأرضية التي غُرست فيها هذه المنشأة الخشبية قد رصِّفت وبُلِّطت بشكل جيد. قلت يا لها من فكرة بسيطة بمليون جنيه، على حدّ تعبير أشقائنا المصريين. منشأة صغيرة نُصبت هناك بوتد ولوحين خشبيّين تصير معلمًا سياحيًّا يبزُّ المنار العتيق ويضاهيه، حتى أنّ صفَّ من يطلب التقاط صور إزاءه يضاعف عدد المُتحلقين حول المنار. كنت في الطابور أنتظر دوري لالتقاط صورة أمام اللوح السياحي الطريف حين رنّ هاتفي. كانت الأديبة الفلسطينية الصديقة رجاء بكرية تسأل عن مادة تحتاجها في بحث لها وتطلبها من أرشيفي. أخبرتُها أنني بعيد عن هذا الأرشيف، فأنا الآن في طنجة. يا الله طنجة؟ هل تعرف أنّ هذه المدينة بالنسبة لي أشبه بحلم؟ فهل ستقبض لنا على حلم طنجة في نصٍّ جديد؟ مرَّ ببالي البيت القديم عن "الكرى وخلسة المختلس". حلمُنا كان على الدوام أندلسيا. وطنجة بنت الأندلس. بل هي جزء لا يتجزّأ من ذاكرة الأندلس الباقية، تلك الذاكرة التي بموجبها تصير طنجةوتطوان وشفشاون ومعها غرناطة وقرطبة وطليطلة أشقّاء وتوائم، بل وجوهٌ لنفس العملة. عملة الأندلس العتيقة التي لم تعد قابلة للصَّرف إلا في سوق الأدب والفن، المجالين اللذين سيحفظان الأندلس القديمة حيّةً أبدًا في الذاكرة والوجدان. أمّا السياسة والمصالح فقد فرّقت الإخوة الأشقاء، فما بالك بالجيران الغُرَماء. لكنني لستُ مستعدًّا للكتابة ولا متحفّزًا لها. جئت طنجة هذا الصيف بمزاج سيّئ. جئتها لاجئًا من مدينة موبوءة. كان الحرُّ في مراكش لا يطاق. حرٌّ شديد خانق. انضاف له قهرُ الحجر الصّارم الذي يُلزِم ساكنة الحمراء بأن يغلقوا عليهم أبواب مساكنهم بدْءًا من التاسعة مساء. مراكش قاهرةٌ في الصيف، وليلُها ملاذنا الوحيد. أمّا وَقد صُودِر ليلُ المدينة، فيما الحرُّ لا يني يشتدُّ والوباء يستفحل، فقد استحالت المدينة سجنًا لأهلها، أو كأنَّها السجن. هكذا صار الهروب مطلب الجميع، لكن لمن استطاع إليه سبيلا. كنت قد أخذت جرعتَيْ اللقاح الصيني "سينوفارم" وحصلتُ على جواز التلقيح. الجوازُ كافٍ للسفر، لكنني خشيت مع ذلك من أيّ قرار فجائي يزيد من تضييق الخناق علينا بعدما بدأ الداء يستشري في المدينة وبلغت طاقة أقسام الإنعاش أقصاها ولم تعد قادرة على تلبية الضغط الحاصل، فصار المرضى في حالات حرجة ينتظرون دورهم أمام أبواب المستشفيات. هكذا التمستُ على عجل وثيقة إدارية تأذنُ لي بالتنقل حتى طنجة، ثم يمّمتُ شمالًا. كانت طنجة الحضن والملاذ. وكنت أحتاج بضعة أيام هنا لأشفى قليلًا من مراكش وممّا أصابها من كدر ووحشة تلبَّسا المدينة وتسرَّبا إلى أرواح أهلها. كانت مراكش قد عاشت فورة سياحية قبيل عيد الأضحى وأثناء عطلة العيد. بدا كما لو أنّ المدينة عادت إلى سالف حيويتها. الحياة تتواصل حتى الحادية عشرة ليلا، وزوار المدينة يقصدونها من كل جهات المغرب. أبناء الجالية ومعهم وفود من السياح يحجّون إليها من مختلف العواصم الأوروبية. جامع الفنا عادت إلى فتح مطاعمها في وجه الزبناء ليلا، وأسواق الجِوار انتعشت، والصخب اللذيذ عاد إلى سابق سحره. لكنها كانت مجرد سحابة صيف سرعان ما انقشعت قبل أن تمطر. إذ استفحل الوباء مثل جمرة خبيثة خبَتْ لهنيهةٍ ثم عادت إلى الاشتعال بلهب أكثر اضطرامًا. فبدأ الزوار يغادرون تباعًا، ثم ها نحن نلحق بهم فارِّين من مدينة أطبق عليها الوباء ونال من بهجتها. لكنك الآن في طنجة. فعُد إلى الأزرق صافِحْهُ بعينيك وتوغّل في المدينة هنا لتنسى قليلا شجون الحمراء. قالت لي لطيفة الحمود- ابنة طنجة التي تمثّل الجالية في البرلمان كما تمثّل طنجة أيضًا لأنها لم تعرف كيف تتخلص من طنجويتها الراسخة- إن طنجة ستتغيّر عليك رغم أنك كنت بها منذ سنتين فقط. وفعلًا، فالمدينة توسّعت بشكل مدهش. بل ازدادت علوًّا. البنايات الشاهقة. المساحات الخضراء. الطرق المرتَّبة حسنة التّرصيف. تأهيل الطريق الروماني ابتداءً من منطقة مرقالة. إحداث طريق "مجمع البحرين" الالتفَافِيّ لربط المحيط بالمتوسط. أنفاق جديدة في مداخل المدينة جعلت الولوج إليها سلسًا، سواء عبر طريق الرباط أو مدخل تطوان، وأخرى وسط المدينة تضمن انسيابية حركة السير والجولان بالمدينة وتساهم في التخفيف من حدّة الاكتظاظ الذي تعرفه في موسم الاصطياف. أما مشكل طنجة الروتيني المتعلق بركن السيارات، فقد تمَّ تجاوزه بإنشاء مواقف تحت أرضية في أهم مفاصل المدينة. بل إن مواقف الكورنيش وحدها تبلغ طاقتُها الاستيعابية 3000 سيارة يمكن دفنها في بطن الأرض بسلاسة، ممّا أعاد للكورنيش رونقه، فصرتَ تذرعُهُ والمدى يمتدّ أمامك رحبًا: الأزرق المتوسط ينام في حضن الذَّهب الرَّملي من جهة، وبنايات طنجة النظيفة البيضاء تتسامق في الجهة الأخرى. أما السيارات فتعبر في انسيابية، بعدما اختفى صفُّ السيارات المركونة مثل سلسلة حديدية تكبّل كورنيش طنجة. بما كان يرافق ركن هذه السيارات من عرقلة لحركة السير على الكورنيش، وما كان يصاحبها من مشادّات بين أرباب السيارات والحرّاس العشوائيين. ها قد صفا الجو في كورنيش طنجة. صفا الجو أرضًا وسماءً، وصارت المارينا تظهر لمن يغذُّ السير على الكورنيش يدًا عظيمة ممدودة نحو الشمال، نحو إسبانيا القريبة. يدًا رطيبة تطفو فوق ماء المتوسط الناعم، وصلبةً في نفس الآن، كأنما قُدّت من حديد. يقول البعض إن هذا الميناء الترفيهي كمَنَ للبحر فاصطاده واستدرجه ليجلبه إلى المدينة، لكنَّ المدينة بحرٌ مُذْ كانَتْ، بل بحران. فقد عرفت المارينا كيف تجرُّ البحر لتغرسه في قلب عروس الشمال، خصوصا بعدما تمَّ هدمُ جانبٍ من السور ومعه بعض المباني المتآكلة ممّا جعل الميناء يتّصل بالقصبة العتيقة بعدما غدا سفحُها ممهَّدًا، مكشوفًا لزوّار المارينا. وهو ما سهّل على أهالي القصبة والمدينة العتيقة ارتياد المارينا، لينال صفُّ المقاهي والمطاعم المتراصة على طولها حظّه من صخب طنجة وحيويتها. أمّا ميناء الصيد البحري جنب المارينا فقد تمّت توسعتُه. وصار يتوفّر على 2537 مترا من الأرصفة و11 هكتارا من الأحواض موزَّعة ما بين مراكب الصيد التقليدي وتلك المخصَّصة للصيد في أعالي البحار، وهو ما يناهز ثلاثة أضعاف الطاقة الاستيعابية للميناء القديم. ولأنّ موانئ المغرب لا تكتمل إلا بمطاعم السمك الشعبية المجاورة لها، فقد تمت تهيئة فضاء نظيف جنب الميناء في طريق مرقالة فُتحَ في وجه العموم. المشروع تمَّ دعمه من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. كان الفضاء مزدحما. إنه وقت الغداء، وأبناء طنجة وزوّارُها يصطفّون في طوابير للفوز بحيِّزٍ وسط طاولات هذا المطعم الشعبي المفتوح. لكن، ما بال أصحاب المطاعم هنا مُجمِعون على طرد السردين من حظيرة أسماكهم؟ كل ما تريده موجود. كل أنواع السمك مشويةً أو مقلية، اللي حبّت خاطرك، فماذا تريد؟ وفعلًا، صينية السمك المشكَّل تضمُّ كل ما تحب النفس وتشتهيه من أسماك وفواكه بحر. لكنَّ شوايةَ سردينٍ تنضاف لهذه الصينية العظيمة لن تضرَّكم في شيء يا أخي. فكيف تحرموننا منها؟ لا مع الأسف. هنا لا نقدِّم السردين. أَلِأنّه رخيص؟ لم يجبني صاحب المحل الأول ولا صاحبة المحل الثاني. كأن هناك اتفاقًا غير معلن يقضي، صارمًا، بعدم تقديم السردين للزّبائن. حتى في مطاعم خمس نجوم هنا في طنجة يُقدَّم السردين لطالبيه، فما بال مطاعم الميناء الشعبية تحرمنا من سمكتنا الوطنية المجيدة؟ سمكة الفقراء. سمكة الشعب المغربي الأولى: الأرخص والأوفر والألذ. لحسن الحظ أنّ لطيفة الحمود كانت معي. فتدخّلت بطريقتها لحسم الموضوع. استعملت لطفها أولًا، وبعضًا من نفوذها الناعم ثانيًا، وحصلَتْ لنا استثناءً على المطلوب. لكن ما إن وُضِعت أمامنا شواية السردين حتى صوّبت الخلائقُ أنظارها إلينا. كان البعض يُحدّقون في شوّايتنا الطارئة بغبطة، فيما كان هناك من يلسعنا بنظرات حانقة وكأنّ الذي أمامنا صحن كافيار فاخر لا شواية سردين زهيدة. لم أعرف كيف أواجه السخط الصامت من حولي. ولا أملك هاتف أحمد المرواني، رئيس فرع الجمعية المغربية لحماية المستهلك بطنجة، لكي أطلب تدخُّله للدّفاع عن حقّ زبناء مطاعم الميناء في شوَّايات السردين. رغم أنّني مقتنعٌ بأنّ المستهلك في بلادنا مغلوبٌ على أمره. فالكلُّ يتواطأ ضدّه من كبريات شركات المحروقات وشركات التأمين إلى باعة السمك البسطاء في الأسواق الشعبية. إنّما، ما علينا. ألم يُفِدْنا المسيح في الإنجيل: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"؟ لنقِسْ على ذلك إذن: ليس بالسردين وحده. ولا بأس من تذوُّق باقي أصناف السمك في مطاعم الميناء بطنجة. وميناء "المضيق" ليس بعيدًا لمن لا يستطيع على السردين صبرا. لذلك ذهبت حتى المضيق. من أجل السردين وحده. وأعرف أنّ الكثيرين غيري يقصدون ميناء المضيق من طنجة والفنيدق ومارتيل وتطوان من أجل سردينه الذي لا يُضاهى، لكنَّ القوم في مطاعم الميناء بطنجة لا يعلمون. ولجتُ ميناء المضيق ظهرًا. بصعوبة وجدتُ حيِّزًا لركن السيارة داخل الميناء. طلبت شواية سردين وبصلا مشويا وصحن بيصارة الجلبانة (البازلاء). لم أقض بالمضيق الجميلة الفاتنة أكثر من الوقت الذي قضيته أمام شواية السردين، ثم عدت أدراجي. في الطريق إلى المضيق، أخذت الطريق الساحلي. كانت فرصة سانحة للتوقف أمام ميناء طنجة المتوسط، "طنجة ميد"، الذي يضم مساحة اقتصادية تفوق 200 هكتار، في موقع استراتيجي قبالة مضيق جبل طارق، ويحوز لوحده 95 بالمئة من المبادلات التجارية للمغرب مع دول العالم. هذا الميناء الذي حوّل المغرب إلى أهم المناطق اللوجستية في إفريقيا، حيث يصنَّف الأولَ على مستوى القارة في قطاع المُناولة والتّحميل البحري، أضحى اليوم بفضل بنيته التحتية وطاقته الاستيعابية أهم منشأة مينائية في حوض البحر الأبيض المتوسط في مجال معالجة الحاويات والبضائع سنة 2020، متجاوِزًا ميناءَيْ فالنسيا والجزيرة الخضراء الإسبانيين. بل إن دور هذا الميناء الضخم كان حاسمًا في تشجيع المستثمرين الأجانب على توطين استثماراتهم بالبلد، خاصة في مناطق الشمال، التي احتضنت مشاريع مهمة من قبيل صناعة السيارات، التي صارت اليوم أهم صادرات المغرب، متقدّمة على الصادرات التقليدية مثل الفوسفات والمنتوجات الزراعية الغذائية. وها هو المغرب يُعتبر اليوم بفضل مصانع "رونو نيسان" بطنجة أهم مُنتِج للسيارات في كلِّ العالم العربي. وأنا أستأنف السياقة في الطريق الساحلي بعد مغادرة "طنجة ميد" انتبهت إلى علامة على اليمين تشير إلى سد "طنجة المتوسط". عجبًا. لمن أكن أعرف أن لهذا الميناء الضخم سدٌّ يحميه ويؤمِّن له احتياجاته من المياه؟ انعطفتُ وراء الإشارة باتجاه مسلكٍ ضيق صاعدًا جبلا صغيرا وعرًا. وما إن بلغت القمة حتى بدت لي بُحيرة السّدِّ راقدة في دَعة مثل حيوان خارق يحرس المكان ويؤمّن لهذا المركّب المينائي حاجته من الماء الشَّروب والصِّناعي، إضافة إلى دور السد في وقاية "طنجة ميد" من أية سورة غضبٍ لوادي الرّمل الذي يخترق منطقة الميناء. والحقيقة أن طنجة تبقى من أكثر مدن المغرب اطمئنانًا إلى تعدُّد وتنوُّع مواردها المائية. خلال هذه الزيارة القصيرة فقط، زرتُ أكثر من سدٍّ وأنا في الطريق إلى ضريح الولي الصالح مولاي عبد السلام بن امشيش، شيخ أبي الحسن الشاذلي ومعلِّمه. سلكتُ طريق "دار الشاوي" فإذا بي أمام بحيرة سدّ ابن بطوطة. كان واضحًا أن تعلية السَّد التي تمّت مؤخّرا قد آتت أكلها، إذ ارتفعت حقينته من جرّاء ذلك ثلاث مرات. ففي ماي الماضي فقط، بلغ المخزون المائي لسدّ ابن بطوطة 28.6 مليون متر مكعب بنسبة ملء تبلغ 98.2 في المائة. لكن فيما كنت عائدا من زيارة ابن مشيش، وجدتُني في لحظةٍ أتيه بين الجبال، وبقيت في تيهي أتبع طريقًا كأنها تتجه نحو العرائش، فإذا بالطريق تغرق في ماء لا أعرف من أين هجم علينا. لم يكن سيلًا عارمًا، بل بحيرة عظيمة انتهت إليها الطريق. أوقفتُ سيارتي ونزلت. كانت هناك شجيرات تين وزيتون يابسة تمامًا وسط البحيرة. كنت أعرف اليباس الذي يسبِّبُه القحط وشحُّ المطر، فإذا بي أرى اليوم كيف أن الماء أيضًا يُصيب الشجر باليباس. غير بعيد كان هناك حقل قنب هندي يتفقدّه فلاح شاب. اتجهت نحوه أسأله عن الطريق التي ابتلعَتْها البحيرة، فأكّد لي أنها طريق العرائش، وأنّ البحيرة لسد الخروب. سألته عن الأشجار التي يبست وسط البحيرة فشرح لي أنها أراضيهم الفلاحية، قبل أن يستطرد: "بل حتى الأرض التي نقف عليها الآن ستغمرها المياه بعد أسابيع قليلة. فبحيرة السدِّ ما زالت تتسع وتتسع". طلبت منه أن يلتقط لي صورة وسط حقل القنب الهندي الذي سيصير قريبًا في خبر كان. ثم مازحته قائلا: لا تجنِ هذا المحصول رجاءً، بل اتركه لأسماك البحيرة، فقد تجد فيه بعد الغمْرِ ما يروِّق مزاجها وهي تحتفل بسطو الماء على هذه القطعة من اليابسة. أكد لي الفلاح الشاب أن السّد كُتِبَ عليهم، ولا رادّ لقضاء الله. لذا فهم غير معترضين. لكن التعويض الذي تقترحه الدولة ليس كافيًا، والساكنة تشعر بالغبن جرَّاء ذلك. فكَّرتُ أن لكل المشاريع الكبرى ضحايا، ربما في كل مكان. كأنها سُنّة الحياة. لكنَّ سد الخروب الذي يبعد عن طنجة ب 45 كلم فقط، يُعَدُّ مع ذلك مكسبًا استراتيجيًّا لكل المنطقة. فهذه المنشأة المائية، التي تبلغ طاقتها التخزينية 185 مليون متر مكعب، ستتمكن من تحقيق حقينة سنوية منتظمة قدرها 40 مليون متر مكعب من المياه. جزء من هذه الذخيرة المائية سيُوجَّه لحسن الحظ لاستصلاح الغابات المجاورة على مساحة 8 آلاف هكتار. تركتُ بحيرة سدّ الخروب تتوسع على مهلها وقفلتُ راجعًا أبحث عن طريق بديل سالك باتجاه طنجة. وكان أول ما فعلته بعد العودة من زيارة ابن مشيش هو لقاء بهاء الطود، صاحب رواية "أبو حيان في طنجة". اختار بهاء ورفيقته للِّقاء مقهى دافئًا حميمًا اسمه "باج إي بلوم" (صفحة وقلم). كان مكانًا أنيقًا حسن الترتيب. مقهى ومكتبة وقاعة عروض بمنصة صغيرة تتصدَّر المجلس. قلت لبهاء: فاجأتني طنجة هذه المرة. المدينة تغيرت بشكل رهيب خلال سنتي الحجر الصحي. هذا المقهى مثلا، لم أكن أعرفه. شرح لي بهاء أن المكتبة قديمة، لكن الفضاء جديد فعلا. ثم إن طنجة فعلًا تغيّرت. ويسعدني أنني تابعت تطوّرها في السنوات الأخيرة. جئتها مرة للمشاركة في نشاط إعلامي احتضنه "بيت الصحافة" بُعَيْد افتتاحه، وهو بيت النقابة الوطنية للصحافة المغربية اختيرت له طنجة مركزًا ومقرًّا وأسنِدت إدارته للإذاعي الصديق سعيد كوبريت. ومرة لتوقيع روايتي "هوت ماروك" في مطعم "الخبز الحافي"، نفس المطعم الذي كنت أزور فيه محمد شكري وفيه أجريتُ معه الحوار الشهير الذي نشرته في "زوايا" اللبنانية قبل إصابة الراحل بالداء البغيض الذي أودى بحياته. نفس المطعم الذي كنت تخلو فيه بكأسك يا شكري صار يحمل اسم روايتك الشهيرة، وصار الزوار من الشرق والغرب يقصدونه لكي يلتقوك رغم الغياب. ومرة للمشاركة في نشاط احتضنه "المركز الثقافي أحمد بوكماخ" حين كانت تديره الشاعرة وداد بنموسى، وفيه قادتني وداد إلى قاعةٍ فيها خزانةُ الراحل الكبير والمكتب الذي كان يكتب عليه. "اقرأ" عنوان كتاب بوكماخ الشهير الذي تعلمنا فيه اللغة العربية على امتداد سنوات الابتدائي نحن تلاميذ السبعينيات تمّ إطلاقه على المكتبة الوسائطية الكبرى التي شُيّدت على مساحة تتجاوز 3 آلاف متر بمنطقة الزياتن. وبجوار المكتبة ذات التصميم المعماري الفريد تنتصب بناية ذات معمار بسيط وجميل هي "دار الآلة". وتبقى طنجة، إلى جانب تطوان، أجدر المدن المغربية باحتضان هذا المركز، فدَوْر طنجةوتطوان في الحفاظ على النَّوبات الأندلسية وفي حماية طرب الآلة الأندلسي من الاندثار جديرٌ بالاعتبار. والفضل في ذلك يعود لجمعيات هواة الطرب الأندلسي في الحاضرتين. فالأصل في معارك الحفاظ على التراث، رمزيا كان أو ماديا، هو الشغف الإنساني. نحتاج طبعًا إدارة راشدة تشتغل وفق تصور واضح وتبرمج مخططات طويلة الأمد، لكن كل ذلك لا يكفي ما لم يكن الإنسان الشغوف في صلب الفكرة، في قلب المشروع. أذكر مثلًا، حين كنت بطنجة قبل الزمن الكوروني في صيف 2019، رفقة أخي طه والمسرحي العراقي الصديق جواد الأسدي، كنا يوميا نرافق الكاتب المسرحي الزبير بن بوشتى إلى شاطئ روبنسون بمنطقة أشقار، غير بعيد عن المغارة الأسطورية: مغارة هرقل. أطلال منتجع روبنسون السياحي المهجور المنتصب خلفنا بين الصخور تضفي بعض الوحشة على المكان خصوصا بُعَيد الغروب. لكن الزبير يعرف كيف يُعيد الألفة إلى جلساتنا بحديثه المتواصل عن مسكنه الرمزي "رياض السلطان". وحينما زُرنا هذا الرياض حينئذٍ في قلب "القصبة"، وجدناه فضاءً مُوحِشًا، بعضُ جنباته عبارة عن أطلال. لكن ما سرُّ شغفك بالأطلال والفضاءات المهجورة يا صديقي؟ سألتُ الزبير. ما بال أيامك موزّعة فقط بين أطلال هذه البناية المتآكلة هنا في القصبة وأطلال فندق روبنسون المهجور هناك على شاطئ أشقار؟ ضحك الزبير حينها. لكن نظرته ظلت مُتّقدة تشعُّ إصرارًا. لذا ما إن عدتُ إلى طنجة هذه الأيام حتى دعاني إلى رياض السلطان. صباحًا طرقتُ الباب فانفتح عن بهوٍ جميل مرتَّب وحديقة حسنة التنسيق لا علاقة لهما بما رأيت قبل سنتين. لقد كسب الزبير الرِّهان. عرف كيف يترافع من أجل البناية العتيقة التابعة لوزارة الثقافة التي كان يتّخذُها مقرًّا لجمعيته المسرحية "باب البحر" لدى مجلس الجهة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وها هي اليوم تتحوّل إلى مسرح فريد من نوعه. لعله أول مسرحٍ للجيب في المغرب. مسرحٌ للجيب. مسرحٌ للقُرب. مسرحٌ للشغف. صحيح أن طنجة تعزّزت مؤخرا بقصر للفنون والثقافات بمنطقة مالاباطا به مسرح يسع 1400 متفرج، لكنَّ شغف المسرح يبدأ من الفضاءات الحميمة القريبة من الناس. لذا ما إن طلب مني الزبير أن أقترح على زملائي في مسرح أنفاس أن نشارك معه في الأيام الافتتاحية لفضاء "رياض السلطان" بعملنا المسرحي الجديد "المدينة لي"، حتى أكّدتُ له أن دعوته تشرِّفنا. فقط أرجو أن يوافق الموعدُ التزامات الفرقة. وإلّا، فليس هناك ما هو أجمل من أن تساهم في افتتاح كهذا. ما أجمل أن تفتتح حلما. حلمٌ ناضل من أجله الزبير، ولأنّه صادقٌ صدّقه الجميع وآمنوا بمشروعه. هكذا ربحت طنجة معه مسرحًا أليفًا ولطيفًا في قلب المدينة العتيقة. في قلب القصبة. قاعة العرض الخشبية تسَعُ 130 متفرجًا. وهناك فضاء فسيح في الحديقة تمَّت تهيئته ليصير مقهى ثقافيًّا يُفتح في وجه أصدقاء الثقافة والفن بالمدينة وزوار طنجة والعابرين على أن يُقفَل ساعة تقديم العروض المسرحية. يضمّ الرياض أيضًا استوديو للتسجيل، وفضاء لتكوين الممثل يمكن أن يُستعمل أيضا لتعليم الرقص. ولأنّ الزبير كاتب مسرحي أساسًا فهو لم ينس الكتاب. لذلك هيّأ له فضاء خاصا: خزانة مسرحية سيحاول أن يحشد لها أهم الإصدارات المسرحية المغربية والعربية إبداعًا ونقدا وترجمة. ولقد بدأ عملية تجميع الكتب من الآن ويبدو أن العديدين تجاوبوا معه، حيث تشكلت لديه رفوف معتبرة من الكتب المهمة. قال لي الزبير إنه كان يريد أن يطلق على هذه الخزانة المسرحية اسم الناقد المسرحي الكبير حسن المنيعي، لولا أنه فاتح الراحل في الأمر قبل وفاته فلم يُبدِ حماسًا. لو كان لي يا صديقي لأطلقت على هذا الفضاء اسم "خزانة الزبير بن بوشتى"، فأنت اسم مسرحي لامع. ثم إن هذا البيت بيتك. نفختَ فيه من روحك، فما المانع في أن تحمل أحد فضاءاته اسمك؟ هكذا فكّرتُ، لكنني لم أجرؤ على الإفصاح عن فكرتي أمام الزبير. تواضُع الرجل شديد، لذا لن يقبل الفكرة. لكنني سمّيت الخزانة بيني وبين نفسي "خزانة الزبير بن بوشتى"، وعزمتُ أن أختار له من مكتبتي الشخصية عددا من العناوين المسرحية التي أتصوّر أن مرتادي خزانته سيكونون أحوج إليها مني. سأبعثها له فور عودتي إلى مراكش. المدن تكبر بأبنائها. بأحلام أبنائها. وعلى بُعدِ أمتار قليلة من "رياض السلطان" هناك فضاء يحمل اسم حالم كبير من أبناء طنجة. رجل كان يحلم بالسّفر، فحقق حلمه وجاب العالم، ثم عاد لنا ب"تحفة النُّظار". إنه ابن بطوطة الذي كانت الفنانة الراحلة ثريا جبران أول من وافق على إنشاء متحف له في طنجة أيام كانت وزيرة للثقافة استجابة لنداء حار أطلقه المؤرخ والديبلوماسي الراحل عبد الهادي التازي. اليوم تم إعداد برج النعام، أحد أهم أبراج طنجة وتحصيناتها التي تعود إلى العصر الوسيط، ليصير فضاءً لعرض ذاكرة ابن بطوطة. كانت الأشغال متواصلة عند المدخل، فلم أتمكن من ولوجه. لكنني سعيدًا كنتُ وأنا أرى طنجة تنذر واحدا من أهم أبراجها لابن بطوطة، في انتظار أن يتمّ الالتفات لقبره الذي يواجه الإهمال بزنقة الفقيه العبادي في المدينة العتيقة. لا أعرف من هو الفقيه العبادي، فاعذروا جهلي. لكنني لا أفهم كيف يرقد صاحب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" في زقاقٍ يحملُ اسم غيره. والحال أن الزقاق ذاك والمدينة كلها تُعرَّف بك يا محمد بن عبد الله اللواتي، يا طائر طنجة المجنّح. ولحسن الحظ، فكل الطائرات التي تقصد المدينة من مختلف الموانئ الجوية عبر العالم تحطّ في مطار طنجة الدولي الذي يحمل اسمك يا ابن بطوطة. فنم قرير العين يا أمير الرحالة المسلمين. أما أنا فسأشدُّ الرحال غدا إلى مراكش، هل تذكرها؟ هل تذكر ما كتبته عنها في التُّحفة: "وصلتُ إلى مدينة مراكش، وهي من أجمل المدن، فسيحة الأرجاء، متسعة الأقطار، كثيرة الخيرات، بها المساجد الضخمة، كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة، صعدتُها، وظهر لي جميع البلد منها، وقد استولى عليه الخراب". الحمراءُ عامرة يا ابن عبد الله ولا خراب هناك. لكنّ الوباء تفشّى بها واستفحل. لا يا ابن بطوطة. ليس جذامًا ولا طاعونًا أسود. وإنما هو وباء مُستحدَث تسبب فيه فيروس بغيض يزهو باسْمٍ مَلكي ويُدعى كوفيد التاسع عشر، ويُشاع والله أعلم أن خفّاشًا لعينا يُلقّب ب"حدوة الفرس" هو الذي نشره داخل سوق للحيوانات بمدينة صينية تُدعى "يوهان". هل زرتها؟ هل مررت بها؟ فأنت أول من زار الصين من أهل المغرب وأول من كتب عنها من العرب، فقل لي بربّك أيها اللّواتي الطَّنجي: هل مررتَ بيوهان؟