كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل التاسع: الهواء الصباحي البارد يداعب وجه خالد وهو يحاول ألا يسرع الخطى كي تستطيع هدى مجاراة مشيته. تتأبط ذراعه ببساطة وهي تتحدث. غابة الرميلات تبدو شبه خالية إلا من بعض المتريّضين وبعض الأسر الذين جاؤوا للإفطار هنا هروبا من إفطار روتينيّ بين أربعة جدران. - تعرفين هذا القصر؟ - أعتقد أنني شاهدت صوره يوما، لكنني لأول مرة أجدُني أمامه.. يبدو مهيبا! - هو كذلك.. لقد شهد أحداثا يشيب لهولها الولدان.. اسمه قصر برديكاريس.. - آه.. هذا هو قصر برديكاريس إذن؟! سمعت عنه الكثير.. لكنني لا أعرف قصته بالضبط. - مستعدّة لسماع قصته باختصار مخلّ ؟ تتخذ هدى، ببساطة غير مفتعلة، مجلسا فوق جذع شجرة وتغمض عينيها تاركة لنسيم الغابة والبحر مداعبة وجهها لفترة. - الحقيقة أنني كنت قد اخترت شعبة التاريخ بإحدى جامعات بروكسيل، قبل أن أغير الوجهة نحو الأدب الإنجليزي بعد أن قتلني التاريخ مللا. - الأدب الإنجليزي؟ وكيف يتفق هذا مع عشقك للعربية الفصحى؟ - والدي لعب دورا كبيرا في هذا.. كان يخشى علينا كثيرا من الانصهار الكامل في المجتمع البلجيكي لذا – رغم ولادتي ببلجيكا – كانت طريقة حياتنا مغربية بكل المقاييس.. تربية وتعليما. لا أستطيع أن أدعي أنني مغرمة بطنجة مثلك.. لكنني عندما أ ُسأل عن أصلي أجيب أنني طنجاوية! لعلّك لمست أنني لا أحاول أن أرطن بأية لغة أو لهجة أخرى غير لغتي ولهجتي. - هذا ما يروقني فيك بشدة بصراحة، أنت بهذا تتفوقين حتى على بعض أصحاب الأرض الذين يلوون ألسنتهم محاولين أن يثبتوا أن لغتهم العربية "كليلة".. - مساكين والله.. الشفقة فقط.. هذا ما أحتفظ لهم به. - أضيفيني إلى قائمة المشفقين معك.. يجلس خالد إلى جذع مجاور، وهو يداعب التراب المبلل بقطر الندى بغصن ٍ.. تقترب هرّة منه وتتمسح بقدمه.. يمشط وبرها بأطراف أصابعه .. - تعشق القطط؟ - جدا.. هي الوحيدة التي بقيت وفية لهذا المكان.. يقولون أنها أشباح على شكل قطط! - لا تثر رعبي! - لا عليك.. أعتقد أن الأشباح لديها أمور أخرى مهمة تفعلها غير التجول قرب قصر برديكاريس. - ..الذي لم تحك لي قصته بالمناسبة.. - قلت أنك تكرهين التاريخ.. - ليس عندما يكون عن طنجة.. وليس عندما تحكيه أنت.. يواجهها بنظره فتشيح هدى بوجهها متظاهرة بملاعبة القطة أيضا. لاحظ خالد أن عيونهما لم تلتقيا لحدّ الآن لمدة تتجاوز الثواني. تجاهل هذا وهو يقول: - تبدأ حكاية القصر عندما يعِدُ الثري "إيون برديكاريس"، اليوناني الأصل الأمريكي الجنسية، زوجته بأن يبني لها "أجمل قصر في أجمل مكان في العالم".. طبعا، لم يجد الرجل أفضل من هذا المكان. يقولون أنه كان قنصلا للولايات المتحدةالأمريكيةبطنجة آنذاك. هذا قبل أن تحدث الفاجعة التي زادت من رهبة وأهمية القصر... - هه.. أيّ فاجعة؟! - اختطف المقاوم الجبلي "مولاي أحمد الريسوني"، زوجة وابن برديكاريس طالبا فدية كبيرة.. البعض يقول أن الريسوني كان بطلا مناضلا.. الآخرون يعتبرونه أفّاقا.. لكن المهمّ أنه ترك بصمة كبيرة جدا في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، قامت هوليوود بتخليدها عن طريق فيلم بعنوان " الريح والأسد" قام ببطولته الممثل الشهير "شين كونري".. ذلك أن الفرقاطات الأمريكية التي أرسلها "روزفلت" - الرئيس الأمريكي آنذاك - لم تجد فتيلا مع الريسوني الذي سخر منه، وطلب منه أن يصعد بها الجبال وراءه إن استطاع إلى ذلك سبيلا.. - يا الله!! كل هذا جرى هنا؟ أنت تثير حماستي فعلا.. لا أكاد أصدق.. - صدقيني.. هذا جزء صغير جدا من تاريخ هذه المدينة التي لو تحدثت لصمت العالم مصغيا.. - وهل أعاد الريسوني المخطوفيْن؟ - نعم فعل.. طبعا بعد أن قبض فديته، وبعد أن أعجبت به زوجة برديكاريس حسب بعض الروايات.. ولم ينس أن يرسل رسالة أخيرة لروزفلت يقول له فيها "لأنني أسد، فإنني سأبقى في مكاني.. بينما أنت كالريح، من السهل أن تغادر من مكان إلى مكان".. وهذا هو المقطع الذي ختم به الفيلم الذي صور هذه الواقعة.. - وهل يمكن أن ندخل هذا القصر؟ لم يقل خالد شيئا بل نهض من مكانه مشيرا لها أنْ تعالي. تبعته هدى. دخلا حديقة القصر التي أصبحت جدباء تماما. اقترب خالد من حارس المكان وقال له شيئا وهو يدس في يده ورقة نقدية. ابتسم الحارس وفتح لهما الباب ثم ابتعد.. انقطع الكلام بين الاثنين تماما. من غرفة إلى غرفة كانت أنفاسهما تنحبس. يفكر خالد في الكلام لكنه لايجد له أي معنى.. يصعدان الدرج الأثري، ويدخلان شرفة الطابق الأول.. يتألق سطح البحر تحت ضوء الشمس ومن ورائه تظهر شواطئ إسبانيا وكأنها على مرمى قدم. يتكئان على حاجز الشرفة. يفكر خالد أنه من السهل أن تشعر بالحبّ في مكان كهذا، حتى لو كنت وحيدا، فما بالك ومعك فتاة كهدى. هدى منبهرة تماما وهي تمرر كفها على حافة الشرفة.. - ما رأيك؟ - ششششش.... يغلّفهما الصمت من جديد. صوت الغابة.. صوت البحر.. صوت القلب. أصوات صامتة كثيرة جدا تحوم بالمكان.. يغادران المكان وهما يلتقطان أنفاسهما وكأنهما انتهيا من مشوار عدو طويل.. ظل الصمت يتسيّدهما تماما حتى غادرا الغابة تماما وتوقفا قرب سيارتها. - أعتقد أنك منحتني أفضل صباح تحلم به فتاة.. لذا ستسمح لي أن أمنحك هدية أقل من متواضعة كنت قد اشتريتها لك لمنحك إياها في موعدنا الذي كان مقررا في "فيلا جوزفين".. لم يقل خالد شيئا. الرفض قلة أدب. الموافقة لهفة. الصمت هو الحل الوحيد. تركها تفتح صندوق سيارتها الخلفي وتشير إليه أن يقترب.. - حقيبة سفر؟!! - هي كذلك.. ما الذي قد يليق برجل يعشق طنجة ويعشق السفر إلا حقيبة سفر مضمّخة بعطر أنثوي ؟ نظر إليها بامتنان حنون. هذه المواقف تصيبه في الصميم، و لا يعرف ماذا يمكن أن يقدم أو يؤخر. أنقذته هدى من حرجه وهي تقول.. - أعرف أنك عاشق للسفر كما كنت تكتب على فيسبوكك.. شاهدت صورك في مدينتي حماة السورية والقاهرة.. راقني أنك كتبت يوما " ما الذي قد يزيد حبنا لطنجة سوى فراقنا لها؟"... هذا مفهوم جديد للحب أسمعه لأول مرة.. الاشتياق ملح الحبّ فعلا.. توصل هدى خالد بسيارتها إلى حدود الحي الإسباني حيث يقطن. يتوادعان. تقول هدى: - لم أخبرك بأهم شيء يا خالد. - وهو .... - دع الفيسبوك يجمعنا هذا المساء وستعرف المفاجأة التي أخبّأ لك. - خبيثة لكنك رائعة..! - ذكي لكنك تتغافل..! - اعتن بنفسك. - أنت أيضا.. إلى لقاء.. (يتبع) لقراءة الفصل السابق: هدى تظهر من جديد .. في أنتويرب *روائي مغربي | [email protected]