كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل العاشر: - دعوة للسفر إلى أنتويرب؟! يسأل منير خالد وهو يجاهد كي تبقى لقمة الخبر المغموسة في أكلة "البيصار" بين شدقيه.. - نعم يا صديقي.. أنا أيضا تفاجأت تماما عندما أخبرتني هدى أمس عبر الفيسبوك. قالت إنها ستتوصل اليوم أو غدا بدعوة، باسمي، من إحدى الجمعيات المعترف بها من وزارة الثقافة هناك.. الدعوة – والعهدة على هدى – تشير إلى أن الجمعية تتحمل مصاريف السفر والإقامة والأكل أيضا... - نعمَ المفاجآت هذه..كم أنت محظوظ، مع أنك لا تكفّ تلعن الكتابة لأنها لم تعطك شيئا وتنسى أنك سافرت بسببها أكثر من مرة.. - هذه المرة الوضع مختلف يا منير.. لم يسبق لي أن سافرت إلى أوروبا، وأنت تعرف أن الحصول على تأشيرة بلجيكا يقتضي منك تعبا كثيرا لا أحبّه ولا أطيقه.. - آآآرا واحد الزلافة د البيصار ن هاد الرّاجل الكبير... يقاطعهما الصوت الممطوط المرتفع لنادل المطعم وهو يمر أمامهما مستعرضا طلبات الزبائن. بضع غيوم سوداء تلوح في الأفق تنذر بمساء ممطر. سوق "كاساباراطا" ضاجّ بالحياة. المطعم ممتلئ عن آخره بتجار السوق وعمّال أتوا من أقاصي المدينة لينعموا بإفطار تمتزج فيه البيصار بكأس الشاي المنعنع. هنا يشعر خالد أنه في بيئته التي يرتاح لها.. يعشق البساطة حتى النخاع.. البسطاء، أيّا كانت مساوئهم، صادقون ويتصرفون بالسليقة. مع هدى كان يختلف الأمر لأنه لا يستطيع أن يدعوها طبعا إلى مقهى أو مطعم شعبي، فقبل أن يكمل جلسته معها ستكون النظرات قد التهمتها وانتهى الأمر. ميزانيته تتضاءل تدريجيا، لكنه مُرغم على دعوتها لأماكن خاصة جدا، كي تكون وحدَها شغله الشاغل.. ولكي لا ينشغل بمطاردة النظرات الفضولية.. - .. ولديك بطاقة اتحاد كتاب المغرب.. أعتقد أن الأمور لن تكون بتلك الصعوبة. يستيقظ من شروده منتبها إلى أن منير كان لازال يواصل حديثا بدأه، فيجيب: - إيه.. نعم.. عندما تتكفل الجهة الداعية بكل شيء تكون الأمور سهلة. هذا ما قالوه لي.. لكنني لا زلت أعتبر الوقوف في طابور طويل من أجل تأشيرة أمرا مذلا.. الخروج من طنجة عذاب في حدّ ذاته.. وهاهم يريدون تأشيرة كي يتركوني أغادر حبيبتي.. كأنني أفعل ذلك والسعادة تغمرني.. المفروض أن يطلب من يريد زيارة طنجة التأشيرة وليس العكس، ولو أن طنجة نفسها لن ترضى هذا لأنها احتضنت الجميع منذ بدء التاريخ ولم تلفظ أحدا يوما. - تشبثك بطنجة غريب يا خالد.. الأمر يشبه أن تتشبث بقطعة خشب عائمة لمجرّد أنها جميلة وتترك السفينة التي تنتظر إنقاذك.. - وهل أنا أغرق؟ - تقريبا يا خالد.. الأيام تمضي.. المستقبل هنا غامض ضبابي كما ترى، وأنت تحاول أن تلعب دور فارس يحارب طواحين الهواء.. أنت لن تعيش على المكافآت التي تنالها مقابل كتاباتك.. هذه فرصة حقيقة لك. أشعر أن هدى لن تتركك تعود.. - وكيف ستفعل ذلك أيها المحقق "كولومبو"؟ - لن تفعل شيئا. هي تنتظرك أنت أن تبادر.. مهما كانت جرأتها فهناك حدود ستقف عندها.. خصوصا أنك تصف نشأتها بالمغربية الأصيلة. هذه فرصتك الذهبية كي تطلب منها الزواج وتقيم هناك إلى الأبد.. - لا أعتقد أن هدى تفكر بهذا الشكل السطحي.. - لا أعتقد أنني رأيت أجبن منك.. - لا تنس أن أشجع الشجعان عبر التاريخ هم مجرد أشخاص خافوا أن يصفهم الآخرون بالجبناء.. وأنا لا أريد أن أكون منهم. قمة الشجاعة أن تعترف أحيانا بجبنك.. - فلسفة فارغة تبرر بها ترددك.. يغادر خالد وصديقه المطعم. منير يمسح على بطنه وهو يتلمظ. يوصل خالد بسيارته إلى بيته. - متى تغيّر هذه المصيبة التي تركبها بأخرى تستحق إسم "سيارة"؟ - لو قلت هذا قبل أن تركب لأجبتك.. الآن وقد أكلت الغلّة.. إلعن الملّة براحتك.. - بالتوفيق. - اعتن بنفسك. يدخل خالد إلى العمارة. العجوز رحمة تواصل العناية بالعمارة بإصرار لا محيد عنه. يقبّل يدها ويسألها عن أحوالها فتجيب أنها بخير. ومتى كانت إجابتها غير "الحمد لله"؟ لا يذكر أن هذا حدث يوما. يقلب شقته الصغيرة رأسا على عقب بحثا عن الوثائق التي يحتاجها لطلب التأشيرة. معركة طويلة ممزوجة بلهاث وعرق وغبار وتعب استمرت لساعة تقريبا قبل أن يستطيع خالد الانتهاء منها. أخيرا، لديه كل ما يلزم لتقديم طلبه. الحقيقة أنه كان مبالِغا عندما تحدث لمنير عن الطوابير. الأمور تطورت وكل شيء يتم تقريبا عبر الشبكة العنكبوتية إلا مرحلة أو مرحلتين. هدى قالت له أن صاحبة جمعية "أدباء من كل مكان" صديقتها، وهي التي طلبت منها أن تقوم بدعوته باعتباره قام بترجمة رواية "لوأوغلا" للكاتب الفرنسي"جاي دي موبسان" إلى العربية، والذي ستكون محاور الملتقى حول أعماله. اتصال هاتفي بالقنصلية البلجيكية لتحديد موعد خاصّ باعتباره ملزما بتاريخ الملتقى، ورقة حساب بنكي والدعوة التي ستجلبها هدى. هذا كل ما ينقصه الآن لتقديم طلب التأشيرة. يشعر بإثارة كبيرة رغم تردده المبدئي. بينه وبين نفسه يعرف أن منير كان صادقا. إن كان من شيء جناه من الكتابة فهو بضع مكافآت مالية وأسفار. لا بد من مؤتمر أو ملتقى أدبي هنا أو هناك من حين لآخر يعتقد أنه جدير بحضوره فيبعث له الدعوة. القاهرة، الاسكندرية، حماة.. والآن هو على موعد مع أنتويرب ومع هدى، إن لم يكن للقنصلية البلجيكية رأي آخر.. وإن لم يكن للقدر مفاجأة جديدة ! لقراءة الفصل السابق: هدى تظهر من جديد .. في أنتويرب ! *روائي مغربي | [email protected]