كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل الثاني عشر: ابتسامة للبيع.. هكذا بدت له ابتسامة مضيفة الطائرة وهي ترحب به بحرارة باردة على باب الطائرة. كم تساوي ابتسامتها؟ تساءل. المشكلة أنها حنّطت ابتسامتها على شفتيها حتى غدت تبدو كتكشيرة. هي تبيع ابتسامتها وهو يبيع قصصه. لا فرق. الكل يبيع ما يملك في هذا الزمن.. وكل شيء قابل للبيع.. إبداعات.. ابتسامات.. أجساد.. الحقيقة أن خالد لم يبذل جهدا ليبادلها الابتسام لأنه فعلا كان لازال يغالب ابتسامة ً أصرّت على مرافقته حتى جلوسه على مقعده في الطائرة. لقد ظل المهدي ومنير يمازحانه حتى آخر لحظة عناق. يقول له منير: - ألا تخجل يا خالد؟ تهرّب علب شكولاطة من نوع "ماروخا"؟ - وجهوا سؤالكم لصديقنا "معاد"، فهو الذي لا يخجل.. لقد طلب مني أن أحضر له عشرَ علب كاملة من هذا النوع الذي يهرّب من مدينة سبتة نحو طنجة.. لا أفهم كيف أن شخصا قضى سنوات طوال بإسبانيا، ثم هاجر بسبب الأزمة نحو بلجيكا، لازال يحنّ إلى شكولاطة مهرّبة! - الحقيقة أن طعمها مميز جدا.. لن يفهم هذا إلا طنجاوي.. - صدقت.. - المصيبة أن شكلها فعلا يبدو فعلا كمكعبات الحشيش.. لقد اعتقد رجل أمن المطار أنه ظفر بغنيمة. - هيا.. اجعلا منها حكاية أيها المتخلّفان.. سأعود من سفري وأنتما لازلتما تقصّان ما حدث لبعضكما البعض وكأنه حدث للتّو.. - لك أن تراهن على ذلك.. يدير خالد وجهه ليواجه النافذة محاولا تجنب الضجيج الكبير الذي يحدثه المسافرون. كان هناك الكثير من الدّوس على الأقدام واللعاب المتطاير، وبضع مشاجرات هنا وهناك من باب التسلية وتكملة المشهد. في الأخير أقلعت الطائرة وقد أنهك الجميع بعد أن أدّوا واجبهم السّفري. السفر قطعة من الجحيم.. سواء كان في طائرة أو صاروخ أو حتى كان انتقالا آنيا كالذي قام به الذي عنده علمٌ من الكتاب. السفر هو السفر.. قلقٌ.. اكتئابٌ.. اضطراب في المعدة .. نسيان جواز السفر أو تذكرة الطائرة.. و لا بأس بقطعة شكولاطة بالحقيبة تبدو كقطعة حشيش كي تصبح الأمور مثيرة للبهجة أكثر! المطرب "حاجي السريفي" يصدح في سماعتي أذنيه بأغان ٍ جبلية تزيد من لوعة الفراق.. " لحبيبة يا طنجة.. كانشوفك كا نتفاجا.. وتا حبيبي هاهو جا... لحبيبة يا طنجة" طنجة تلوّح له وفي عينيها نظرة شوق وعتاب وتساؤل: - ستعود أيها العاشق؟ - ليس قبل أن أعرف إن كنت تبادلينني حبّا بحبّ.. - حبّك لي هو نفسه حبّي لك.. - كيف؟ - عشاقي كُثر.. لذا، فعليك أن تكتفي بحبّك للحبّ الذي تحبّه لي.. - تناورين يا طنجة.. - ما الذي يجعل الحبّ جميلا غير العذاب الذي يرافقه؟ - لست ماسوشيا لتقولي لي ذلك.. - من وما أدراك؟ - أعرف نفسي.. وأعرف أكثر أنني أحبّك هكذا بلا شروط.. حبّي لك ليس تقمصا لدور ما.. ليس افتعالا.. حبّي لك أمر واقع محسوم ولا يد لي فيه إطلاقا.. لذا أستسلم في كل مرة أحاورك.. - هناك أخرى؟ - تغارين؟ - ليس تماما.. مكاني في قلبك محجوز ولا تزاحمه أخرى.. قد تجاوره نعم لكنها لا تزاحمه.. - صدقت طنجتي.. - اعتني بنفسك.. - أحبّك.. - .................. في مقلتيه دمع. أضواء طنجة تبتعد تدريجيا. لماذا كلّما غادرها شعر أنها حزينة فعلا.. جبالها.. بحرها..هواؤها.. كلهم مثقلون بحزن جميل.. حزن يعد بلقاء آتٍ حتما. عندما نزل من الطائرة شعر ببرد قارس يلفح وجهه. محظوظ لأنه استعد للأمر بجبال من الثياب بعضها فوق بعض.. هدى تقف هناك، في بهو مطار "شارل لوروا"، بملابس شتوية هي أيضا زادتها ألقا وجمالا. ترحب به بحرارة. يقول لها: - زادتك اللمسة "الأنتويربية" حُسنا.. - أغزلٌ هو؟ لو كنت أعلم أن أنتويرب ستزيد جرأتك لدعوتك منذ أول يوم.. - مادامت القيامة لم تقم فأمامك الفرصة لتكرري الدعوة دائما.. تبتسم وهي تساعده في وضع حقيبته في سيارتها. لاحظ أن سيارتها تشبه تلك السيارة التي كانت تكتريها في طنجة.. الطريق إلى أنتويرب استمرت ساعة ونصف تقريبا. سألته هدى عن أحواله وعن جديده، فحكى لها ما حدث بالمطار. - يا إلهي.. رغم أن كل شيء مرّ بسلام كما تقول إلا أنني أشعر بالرّعب متخيّلة ردة فعلي لو كنت مكانك.. - لا أعتقد أنه كان سيشكّ لحظة في هذه الرّقة المجسّدة.. - لا تنس أن بعض الأفاعي جميلة جدّا، بينما لو لمستها لقتلتك لدغتها.. - غاب هذا عن ذهني.. وقل ربّ زدني علما. كانا، الآن، قد دخلا مدينة أنتويرب. بدت له هادئة جدا. يعشق الطراز الأوروبي في البناء.. المباني الصغيرة المتلاصقة..الممرات المصنوعة من حجارة مرصوصة.. الشوارع المضاءة كلها دون استثناء حتى الجانبية منها.. - ياله من هدوء يصيب بالصّمم.. - لا يتغير الأمر كثيرا حتى في النهار.. إلا في الشوارع الرئيسية.. - روعة.. سبعة أيام هنا كافية لكتابة رواية إذن؟ - سيكون لديك فعلا وقت فراغ كافٍ لذلك.. لم يجبها.. شعر أن في الجملة إساءة ما. المفروض أن تحتفي به في وقت فراغه لا أن تتركه يكتب رواية! حاول التغاضي عن الأمر وهو يصعد ببصره في تلك البناية التي توقفا بقربها. نفس الطراز الذي يروقه.. عدد طوابقها لا يتجاوز الأربعة. الشقة صغيرة لكنها جميلة وتُؤلف بسرعة. قالت له هدى: - هذا هو مفتاح الشقة. استأذنت رئيسة الجمعية بأخذه منها لأحظى بشرف إيصالك إلى هنا بنفسي.. باقي المحاضرين بالملتقى يقيمون هم أيضا هنا معك بالشقق المجاورة.. قاعة الندوات ليست بعيدة عن هنا.. خمس دقائق سيرا على الأقدام.. غدا صباحا أطلعك على خريطة المكان.. والآن، إرتحْ من وعثاء السفر.. عمت مساء.. كانت تتحدث وكأنها ترغب في الانتهاء ممّا ستقوله بسرعة.. أخشيتْ من وجودها معه في شقة واحدة؟ هو يقرّ أنه ليس ملاكا، لكنه أيضا ليس شيطانا.. حيّره الأمر كثيرا وكاد يسرق النوم من عينيه لولا أن تكالب عليه تعب السفر وسلطان النوم فتراخت جفونه وفي داخله صوت خافت يتساءل: - ماذا هناك يا هدى؟! .. (يتبع) لقراءة الفصل السابق: الشرطة تستوقف خالد في المطار ! *روائي مغربي | [email protected]