كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل الخامس عشر: الجميع يتحدث عن هدوء يسبق العاصفة.. لا أحد يتحدث عن الهدوء الذي يليها. في زنزانته بالسجن يجلس خالد.. وحيدا.. صامتا.. رفيقاه في الزنزانة نائمان، أو هكذا يبدوان. يفكر خالد في الأحداث العاصفية التي مرّت به. بالكاد يصدق أنه قد مرّت أسابيع معدودة فقط على بداية كل شيء.. يستمتع بوحدته تلك في السجن رغم عذابه الداخلي، بوحدته وبصمت ليل السجن.. يتنهد وهو يتذكر أن الأمر بدأ فعلا بتراجع سبابته على بعد ملمتر واحد فقط عن زر الفأرة. يتساءل: ماذا لو كان مسح هدى فعلا من قائمة أصدقائه على فيسبوك؟ أي حياة أخرى كان سيعيش؟ المهم أنه ما كان ليكون الآن نائما قرب قاتل وقاطع طريق على الأقل! ومن يدري؟ لعلّ النتائج كانت ستكون واحدة في كل الأحوال، وبطرق وأحداث أخرى.. ومن ذا يستطيع الفرار من قدره؟ هدى.. أين هي الآن؟! منذ أوصلته أول يوم إلى الملتقى لم يظهر لها أيّ أثر. أعطى رقمها للمهدي وطلب منه الاتصال بها للاطمئنان عليها وطمأنتها، فوجد – ولازال – هاتفها مقفلا. فيسبوكها أيضا، حسب المهدي، أرضٌ مقفرة.. لا تكتب أي جدارية، ولا تدخل للدردشة.. الغضب والحيرة والقلق.. تمتزج المشاعر في صدر خالد ويضطرب فؤاده.. هل كتب على علاقتنا يا هدى أن تكون هكذا كلّها؟ لقاءات قصيرة متبوعة بغيابات طويلة مجهول السبب؟ في كل الأحوال هي علاقة وئدت في مهدها بدخوله السجن، لكنه على الأقل يريد أن يعرف أنها بخير.. ولتكمل حياتها بدونه بعد ذلك إن شاءت.. ومن الأفضل أن تشاء.. لأن تقليد المسلسلات المكسيكية والتركية ليس في صالحها ولا في صالحه.. دائما لديه هذا الهاجس المتسائل: هل الناس في هذا الزمن يشعرون بالحبّ فعلا أم يتقمصونه؟ وسائل الإعلام الحديثة تكاد تفسد كل المشاعر، تفرض على الناس حتى نوع الحبّ الذي ينبغي أن يشعروا به فيتقمصون الحالة عن وعي أو بدونه.. المرأة تنتظر من الرجل أن يعيش والورود في يده ك"مهنّد".. الرجل ينتظر من المرأة أن تبكي لأجله ليل نهار كي تكون مثل "لميس".. إنهم يفتعلون.. يتقمصون.. أما الحبّ الحقيقي فيمكن أن تسأل عنه عنتر وعبلة وكل أبناء جيلهما.. عندما كان المحبّون أنفسهم يكتشفون الشعور بأنفسهم، ولا يسمعون به أولا ثم يتكلّفونه وكأنه واجب وجداني! أطفِأ ْ التلفاز.. لا تستمع إلى أغنية.. وعندها إن شعرت بالحبّ فهنيئا لك.. لقد فعلتها وحملت لقب العاشق عن جدارة! يعتدل خالد في جلسته إذ يشعر بأن للأفكار وزنا وكأنها تثقل عليه.. رغم الظلام يحاول أن يكتشف ماذا يوجد في القفة التي تضم حاجياته، والتي أحضرتها له العجوز رحمة... تعاوده الأفكار من جديد.. ترى من وضعه في هذه الورطة؟ كلما فكر في الأمر بعمق وبمنطق يشعر أنه سيصاب بلوثة.. يحاول أن يرتب أفكاره على شكل فرضيات يخطّها على ورقة، على ضوء شمعة، كي لا تضيع منه في زحام خواطره التي لا تنتهي.. الفرضية الأولى: هناك من وضع اللوحة في حقيبته، بطريقة ما، في طنجة كي يهرّبها عن طريقه.. والسؤال هنا هو: كيف لم يرصدها الماسح الضوئي للأمن بالمطار؟ لعلهم احتاطوا لذلك فوضعوها عمدا في ذلك الغلاف الرقيق الذي كانت تلتف فيه إذ ضبطوها معه.. ولعلّه وجود شكولاطة "ماروخا" من ألهى رجل الأمن عنها.. الاحتمالان معا قائمان وممكنان مبدئيا، لكنهما يصطدمان بالسؤال الأهم: لماذا لم يأتوا لأخذ اللوحة عندما كان ببلجيكا؟ عصابة من هذا النوع قادرة على دخول شقته دون عناء وأخذ اللوحة وتحقيق هدفها بكل هدوء ودون ضجيج، فلماذا تأخرت كل هذا الوقت حتى حدث ما حدث؟ الفرضية الثانية: هناك من يريد الانتقام منه، وقام بكل هذه الخطة لكي يستمتع برؤيته سجينا، وهي فرضية غير معقولة ولو أنها ليست مستحيلة.. فمن يتحمل كل هذا التعب والعناء فقط كي يراه في السجن؟ هناك طرق أسهل بكثير للوصول إلى هذه النتيجة.. ثم إنه لا يذكر أن له أعداء من هذا النوع، ولم يرتكب جرائم تستحق كل هذا الانتقام.. أكبر جرائمه هو قتل ذباب غرفته في الطفولة.. وسرقة أقلام بعض أصدقائه أيام الدراسة.. هناك أيضا بضعة كتب أقرضها له بعض أصدقائه لازال لم يردّها لحد الآن، تكاسلا فقط وليس عن نيّة مبيّتة.. يبتسمُ ضاحكا من استرساله ويواصل خربشة أفكاره.. الفرضية الأولى تبقى هي الأقوى.. وقد تكون العصابة تأخرت بشكل أو بآخر في القدوم من أجل اللوحة.. فمن يا ترى بلّغ عن الموضوع؟! هذا هو السؤال الغامض المحيّر.. ما موقع هدى من كل هذا؟ هدى بريئة.. لا يريد أن يراها إلا هكذا. ليست مثالة ولا غباءً منه، لكن كل الوقائع تقول ذلك.. لقد كانت أمام هدى أكثر من فرصة لأخذ اللوحة متى أرادت، خصوصا أنها تعلم توقيت الملتقى الأدبي وتعرف بالضبط متى يكون في شقته ومتى يكون خارجها.. لهذا من غير المعقول أن تكون قد تباطأت حتى انتهاء الملتقى وحتى لحظة كشف اللوحة!! كما أن فراسته تخبره أن هدى لا يد لها في الموضوع.. في كل جلساته مع هدى لم يلحظ منها خائنة أعين.. الكذابون، كالعشاق، تفضحهم عيونهم كما يقولون.. لابد من التفاتة.. لابد من ارتباك.. لابد من لحظة يزيغ فيها البصر يمنة أو يسرة فتدرك أن الجالس أمامك ينوي الغدر.. وهو ما لم يصدر عن هدى أبدا.. ينقطع حبل أفكار خالد إذ تصطدم يده بشيء صلب وهو يفتش في القفة فيخرجه فيجده هاتفا من النوع الثمين.. ما هذا الذي أحضرته يا عزيزة رحمة؟ ومن أين أحضرته؟ الحقيقة أن شكل الهاتف ليس غريبا عنه كثيرا.. يعتصر ذاكرته ليستحضر أين رآه، فينجلي الضباب تدريجيا.. يتذكر أنه قد اشتراه يوما بثمن بخس دراهم معدودة من أحد مدمني الحيّ.. كان قد عاد ليلا منهكا، وكان المدمن مصرّا ولجوجا كذبابة.. وليتخلص منه قال له: - سآخذه منك بخمسين درهما فقط.. هه.. ما رأيك؟ فاجأه أن المدمن وافق على الفور رغم أن ثمن ذلك الهاتف يفوق ذلك بمائة مرة تقريبا. فكر وقتها أنه غالبا قد سرقه. اشتراه منه وهو ينوي أن يتصل بصاحبه ليعيده له صباحا.. لكن متى كانت صباحات خالد في الأيام الأخيرة عادية كي يتذكر ذلك؟! الآن، يبدو أن العجوز رحمة وجدته منسيّا مهملا بين حاجياته فأحضرته له.. الهواتف ممنوعة هنا بقانون غير مكتوب.. العجوز رحمة تعرف ماذا تفعل.. لكنه – وهو ابن العصر – لا يعرف ماذا يفعل، ولو شوهد الهاتف معه فقد يطمع فيه أحد الحراس أو أحد السجناء، وهو غير مستعد لأي مواجهة من هذا النوع حاليا.. ضغط زر تشغيل الهاتف وفاجأه وسرّه أنه لا يوجد هناك رقم سرّي.. الهاتف يضيء ظلمة وحدته ويزيح ظلال الشمعة الكئيبة.. سيكون هذا الهاتف تسليته السرّية لأيام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.. يداعب أزراره.. يضغط أيقونة الرسائل القصيرة.. يطلّ ضميره بسرعة من فوق رأسه آمرا: - إمسح.. هذه أسرار ناس. يتجه إبهامه نحو زر "إمسح" بعزم.. تتوقف على بعد ملمتر واحد فقط.. يتراجع ويؤجل العملية إلى وقت لاحق.. لقراءة الفصل السابق: خالد يذوق مرارة السجن لأوّل مرة ! *روائي مغربي | [email protected]