كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل السادس والعشرون يقيم الدكتور "برنار جانسنز" في بلدة واترلو البلجيكية. يمتلك فيلا صغيرة أنيقة. وهو رغم وحدته يبدو سعيدا، راضيا عن حياته في نظر الجميع.. في نظر جيرانه.. في نظر بقية باقية من أقربائه.. وفي نظر طلبته في الكلية حيث يدرّس مادة التاريخ.. الحقيقة أن "برنار" لم يكن كذلك منذ شهور خلت، بل كان قلقا مضطرب النفس ساهم الفكر على الدوام. كان هناك ما يشغله بقوّة، لكنه، مثل قليلٍ من خلق الله، كان من النوع القادر على إخفاء مشاعره خلف قناع من الوقار والهدوء يجعل مهمة استكشاف ما يدور بخلده من رابع المستحيلات. "برنار" هو "برنار".. سواء فاز فريق "إف سي بروكسيل" الذي يشجعه أو انهزم.. سواء ترقى في عمله أو تجاوزه قطار الترقيات..سواء سمع بوفاة قريب أو ولادة آخر. الحقيقة أن برنار مثال حيّ للقاتل المتسلسل الذي لا يشك فيه أحد، والذي يقول الجميع بعد أن يسمع حقيقة ما فعله يوما: " مستحيل أن يفعل برنار الطيّب ذلك".. لكن برنار لم يكن قاتلا متسلسلا.. بل لم يكن مجرما يوما.. فقط كانت هناك مشكلة واحدة تؤرقه وتشغل باله على الدوام: لوحة الموناليزا.. كان فقط يتمنى أن يمتلكها، أن يجلس أمامها في غرفة التحف في فيلته منتظرا أن تبوح له بكل أسرارها.. وقتها، فقط، يكفّ عن القلق والتفكير ويعتبر نفسه امبراطور هذا العالم.. لقد ظلت هذه اللوحة تشغله منذ بدأ يهتم باللوحات الفنية الأثرية منذ عقود. امتلك الكثير من اللوحات.. بعضها ثمين.. وبعضُها أوهمه نصابون أنها كذلك..وبعضها اشتراها بثمن بخس فاتضح أنها ذات قيمة تاريخية لا بأس بها.. لكن برنار، في كل الأحوال، إنسان واقعي. وهو يعرف أنه من المستحيل أن تغادر الموناليزا مكانها حيث تقبع آمنة مطمئنة في متحف اللوفر بباريس.. لهذا اكتفى بقراءة كل كتاب ومشاهدة كل فيديو عن اللوحة.. الخلاصة أن دافنشي نفسه كان سينحني إجلالا أمام كمّ المعلومات التي يملكها برنار.. كل هذا كان قبل أن يكتشف برنار بمحض المصادفة، أثناء أحد بحوثه العديدة، أن هناك لوحة أخرى في العالم تحمل ذات الاسم لتشابهٍ ما لاحظه أحدهم بين اللوحتين.. لوحة ٌ اسمها "الموناليزا المغربية"، رسمها الفنان الاسكتلندي الشهير الراحل جيمس ماكباي.. لقد تغيرت حياة برنار منذ تلك اللحظة. طبعا لم يلاحظ أحد هذا. كل مشاعره كانت تغلي مثل حمم بركانية تحت أرض ٍ تحسبها جامدة.. وبمبدأ "ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه" اتخذ برنار واحدا من أصعب وأخطر القرارات في حياته بعد أن قرأ كل التفاصيل الدقيقة عن "الموناليزا المغربية".. وهاهو ذا برنار يجالس هدى، الفتاة الطنجاوية، ويعرض عليها فكرته بعد أن رسم كل الخطة في ذهنه. إن كان عاجزا عن فعل ذلك مع الموناليزا الشهيرة.. فلا أحد يتوقع أن هناك من سيقوم بكل هذه المغامرة من أجل سرقة الموناليزا المغربية.. لم يكن اختياره لهدى عبثيا طبعا.. لقد راجع سيَر كل طلبته الحاليين والسابقين، فلم يجد سوى عدد قليل ينحدر من مدينة طنجة، حيث تقبع اللوحة في المتحف الأمريكي، يعدّون على رؤوس الأصابع.. وهدى كانت الأنسب. لقد اطلع على سيرتها وقام ببحث مطول عنها وعرف أي فتاة طموحة هي.. أي طاقة مدفونة بداخلها تنتظر الانفجار لكن قلة الإمكانيات تقمعها قمعا.. تذكر أيضا أنها كانت كثيرة الأسئلة. بعضها كان له علاقة بالدراسة فعلا وبعضها الآخر أسئلة فضولية تشفّ عن رغبتها في تحقيق قفزات سريعة ناجحة بدل الانتظار مع كل هذا الجيش الطلابي.. - إذن – سيد جانسنز - مهمتي ستكون فقط أن أعبر بالحقيبة، أو أمنحها لأحد أصدقاء حارس المتحف الأمريكي كي يعبر بها؟! - فقط هذا.. - لا مخدّرات.. لا دسائس في الموضوع..؟! - إطلاقا.. أعدك.. - مقابل 25 ألف أورو؟ - بالتمام والكمال.. - لا يبدو هذا منطقيا.. - هو منطقي، لأن تلك اللوحة لا تهم الجميع..هي فقط قيّمة بالنسبة لي أنا.. - وأنت تفضل أن أعبر بها أنا أو أستعمل الشخص الآخر.. - إن كنت تريدين الهبوط بنسبة المخاطرة إلى الصفر فعلا، فاستعملي الشخص الآخر، لكن بشرط واحد: إن وقع أي خطأ حينها في الخطة فستتحملين مسؤوليته.. ولست مستعدا إطلاقا لإخبارك بنتائج ذاك الخطأ في الحقيقة.. تنظر هدى إلى السقف وهي تفكر.. أو تفتعل التفكير. يعرف أنها ستوافق. عيناها تقولان أنها قد وافقت بمجرد ذكره المبلغ.. لكنها تتمنّع. تتمنع وهي الراغبة. تطلب مهلة للتفكير فيوافق وهو يبتسم لكل ثقة. ستتصل به بعد ساعات أو على أكثر تقدير في الغد لتقول له أنها فكرت جيدا واقتنعت بالفكرة، وسيقول لها هو كلاما كثيرا عن ثقته بها وعن براعتها.. براعتها في ماذا؟ لا يعلم في الحقيقة. لكنه سيجاملها حتى تشعر بالملل.. عندها سيضع الهاتف ويكمل الترتيبات اللازمة لخطته.. وقد كان له ذلك. استأجر عصابة متخصصة في هذا النوع من السرقات، مقابل 150 ألف أورو. هذه العملية أخذت منه وقتا كبيرا جدا لأنه كان خائفا ومتوجسا من أن يضع رأسه تحت مقصلة هذه العصابات التي تعشق الابتزاز.. لكنه نجح أخيرا في إيجاد شخص يعرفه من بعيد عرّفه على شخص آخر قال إنه يثق به تماما. هذا الأخير، كان يرأس عصابة مكونة من ثلاثة أشخاص: بلجيكي وبولونيان.. قال له أنهم يتقنون عملهم إلى درجة أنه لحدّ الآن لم يتم سوى ضبط واحد منهم فقط وبسبب خطأ فردي منه وليس في خططهم الجماعية.. شرح لهم خطته هو.. سيسافرون بشكل متفرق.. اثنان إلى أكادير.. وآخر إلى مراكش، قبل أن يجتمعوا في طنجة لتنفيذ العملية.. بعد أن يتنكروا بشكل متقن.. سيخطفون اللوحة باستعمال غاز مخدر غير مرئي، بدون إراقة الدماء، ثم يحتفظون بها حتى يطلب منهم هو أن يعودوا بها.. أثناء ذلك ستكون هدى قد تدبرت مسألة سفر صديق الحارس بحقيبة كبيرة يسع قياسها قياس اللوحة.. والذي سيكون بالضرورة قد جاء إلى المتحف، أو إلى المستشفى، للاطمئنان على صديقه.. فالمجرم، أيّ مجرم، يحوم حول مكان جريمته طبعا..!! نظرا للمواصفات التي قرأها عن اللوحة فهو يعرف فنانا قادرا على تزويرها بشكل متقن جدا.. عندما يحضر صديق الحارس إلى بلجيكا، سيقومون بوضع اللوحة في حقيبته ثم يخبرون الشرطة الدولية عن الأمر، وكأنه قد هربها فعلا.. ثم يأتي الجزء الأخير من الخطة.. وهو العبور باللوحة الحقيقية تحت أعين الجميع، باعتبار أن نسخا عديدة أصبحت تباع في الشوارع كتذكار.. والتي سيقوم بتكليف شخص بطبعها والترويج لها في طنجة.. ولمزيد من الاحتياط، سيقوم بتفكيك إطار اللوحة، المصنوع في إسبانيا في القرن السابع عشر، كي يتم العبور بالنسخة الورقية فقط من اللوحة إلى جوار نسخ أخرى وكأنه تم اقتناء الجميع كتذكار سياحي فقط.. ثم العبور بالإطار مفككا وهو ما لن يثير شك أحد طبعا، خصوصا أن اللوحة عادت فعلا إلى المتحف.. هدى ستنتهي مهمتها حال وصول صديق حارس المتحف إلى بلجيكا وتسليمهم مفتاح شقته إن استطاعت.. كي لا يضطروا إلى اقتحامها بشكل أو بآخر.. هكذا، يحصل هو على اللوحة الحقيقية.. يتم الإمساك بالمجرم.. تعود اللوحة إلى المتحف الأمريكي.. هكذا، لا ينقص الجميع سوى أن يكونوا عائلة واحدة سعيدة ويغنوا جميعا " وي آر ذ وورلد".. يجلس برنار وهو يتذكر كل هذا ، محاطا بلوحاته وتحفه، ، متأملا ذلك الانحراف الذي يعشقه في سواد عين "الموناليزا المغربية" اليمنى.. لقد نجحت خطته رغم أنها كلفته 300 ألف أورو تقريبا. هذا لا يهم. المهم أنه حقق جزءا كبيرا من حلمه.. يخاطب الموناليزا المغربية قائلا: - أي أسرار تخبئين أنت أيتها الموناليزا المغربية .. ومتى تكشفين لي عن جزء منها؟!! (يتبع) لقراءة الفصل السابق: خالد يخترق بريد هدى! *روائي مغربي | [email protected]