كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل السابع عشر: - سمير.. ماذا بك؟! - لا شيء.. لاشيء.. فقط لا أستطيع من النوم من شدّة البرد.. - يمكنك أخذ غطائي الاحتياطي.. لا حاجة لي به.. - لا، لا عليك.. - أنت ترتجف.. آه.. أنت تبكي.. ما الأمر؟! يعتدل سمير جالسا وهو يمسح خده المبتل بكمّه. رفيق زنزانة جديد هو. تجاوز ربيعه الثامن عشر بشهور فقط. قال لخالد أنهم ضبطوه، ومن كان معه، يحاول الهجرة سرّا في قارب مطاطي.. تمكنوا منهم قبل حتى أن يزأر محرك القارب. حكي له كيف أنه دفع 10 آلاف درهم لسمسار كي يمكنّه من "الحريك" نحو إسبانيا، لكن حظه العاثر جعل خبر عمليتهم يصل بشكل ما لحرس الحدود الذين وجدوهم يبتسمون في وجوههم بمجرّد صعودهم إلى القارب. آثار الحياة الطيبة بل والمرفهة نوعا ما واضحة على وجهه. علم خالد منه أنه لم يكن في حاجة حقيقية إلى "الحريك"، فهو لازال يعيش مع والديه وأمامه المستقبل بكامله كي يشتغل أو حتّى يبحث عن طرق أخرى للهجرة الشرعية. لكن سمير لم يكن يطيق الانتظار. يقول لخالد: - أنت لا تفهم. أنا لم أفكر يوما في هذا.. لكن ما العمل أمام مجتمع لا يرحم مثل هذا؟! يعود أصدقاؤك وأفراد عائلتك بسيارات فارهة من أوروبا، ويجدونك لازلت تحسب القطع النقدية في يدك لتتمكن من دفع ثمن قهوتك، بينما هم يمتلكون الكريديت كارد ويحوّلون الأورو إلى العملة المحلية فتصبح الحفنة رُزما! لقد أصبحوا رجالا بينما أنت لازلت تعيش في كنف والديك كطفل. يعودون وقد نجحوا بينما أنت لازلت تحمل ذات النظرة المنكسرة المنهزمة الباحثة عن أمل ما.. يوما ما.. أيّ قساوة تحملها نظرة إعجاب والديك برفاق دربك.. أي مذلة تشعرُها وهما ينظران إليك بحنان مشوب بقلق متسائل: متى تصبح مثلهم؟! - هكذا قرّرت أن الحل هو الحريك؟ - نعم.. كان هو أقرب الطرق وأسهلها.. - طريق يحمل الموت في منعرجاته.. - لم أفكر في هذا وقتها.. اعتقدته حلا ّ.. - أنت تجني الآن ثمار تهورك للأسف.. - أعترف طبعا.. كان خالد قد لاحظ أن سمير يتحرك – في باحة السجن - بارتباك شديد. دون أن يحاول إظهار ذلك، كان يبقى بجانبه أغلب الأوقات. اعتقد خالد وقتها أن سمير فقط يلتمس الأمان بقربه باعتباره رفيق زنزانة، وكذا لأنه الوحيد الذي تواصل معه لحدّ الآن.. يسأل خالد سمير عن سبب بكائه الحقيقي، فيقول: - جماعة ذلك المدعوّ " المسموم".. إنهم يتحرشون بي.. - هه.. كيف ذلك؟ - كلما مررت بجانبهم تحدثوا عن العروسة التي يريدون أن يحتفلوا بها..!! - يقصدونك؟ - نعم.. - الكلاب! - ......... - لا عليك، حاول أن نبقى معا طوال الوقت.. يجب أن تفهم أنك في غابة حقيقية هنا. ضعفك هذا لا ينبغي أن يظهر لهم إطلاقا. بالنسبة لأولئك الساديين فضعفك لا يدفع للشفقة، بل لمزيد من الاعتداء والقهر. - أحاول ذلك ولا أعتقد أنني أنجح.. - ابقَ بقربي مؤقتا حتى نرى حلا أو يقضي الله أمرا كان مفعولا.. - هو ذاك.. شعر سمير ببعض الطمأنينة فتمدّد مجددا، ثم نام حتى علا صوت شخيره. كان النوم قد فرّ من عيون خالد. فكّر أنها فرصة لا بأس بها للاتصال بصديقه المهدي الذي أصبح يشتغل حارسا خاصا بالليل بأحد المصانع بالمنطقة الصناعية بالمدينة.. فرصة هي لتجزية الوقت وسؤاله عن جديده. كان قد عرف الكثير من الأسرار وكشَف الحجب عمّا كان خافيا عنه. تعلّم متى وكيف يستعمل هاتفه المحمول. ثم بعد ذلك "اشترى" رخصة استعماله أنّى أراد. تعلّم كيف يشحن هاتفه بالرصيد عن طريق صديقه المهدي الذي يرسل له أرقام التعبئة. وفي حال الضرورة، كان يعرف من أين يشتريها. العالم الخارجي بكامله موجود بشكل مصغر في السجن، بقوانين مختلفة تماما. فقط، على القادم الجديد أن يتعلمها. يعرف أنه سيرتكب، داخل هذه الغابة، الكثير من الآثام. لكنه مرغم لا بطل. الاختيارات ليست كثيرة في السجن للأسف.. إما أن تكون نعجة أو ذئبا.. لم يكن من ضمن أحلامه أن يكون ذئبا يوما.. لكنه أيضا لا يرغب أن يكون ضمن النعاج.. هكذا، بدأ يكيّف نفسه تدريجيا.. يشعر بذلك الشيطان الداخلي يتضخم ويحكم سيطرته فلا يملك حيلة لردعه أو يهتدي سبيلا.. ساعد في ذلك الأحداث التي مرّ بها مؤخرا والتي غيّرت الكثير في نفسه. - لقد نفذ اعتمادكم.. المرجو تعبئة رصيدكم... الصوت الآلي يجيبه أن هاتف خاو ٍ على عروشه.. يتذكر ذلك الهاتف الذي أحضرته له عزيزة رحمة.. كيف نسيه؟! لو كان لازال به بعض الرصيد فسيكون حلالا عليه.. فليجرّب.. يركّب رقمه الشخصي. يرن هاتفه فيبستم في نشوة وانتصار.. ينظر إلى هاتفه بسرعة فيجد أنه يظهر إسما!! هذا يعني أن الهاتف المجهول الصاحب يوجد ضمن قائمة الأرقام في هاتفه! يقرّبه من عينيه ويقرأ: هدى! يختلط عليه الحلم بالواقع.. لا يفهم بالضبط ما الذي يحدث. يفكر في المناداة على سمير.. ( لماذا يناديه؟).. ينهض.. بطل من نافذة الزنزانة على الممر ذي الإضاءة الكئيبة.. يجلس.. يتمشى.. يتكّئ.. يا لها من مصادفة.. يا لها من مصادفة.. هل هناك من افتعل الأمر؟ لا يعقل هذا لأن هدى كانت قد أخبرته فعلا أن هاتفها قد سرق. إذن فقد سُرق كي يُباع له؟! يتفحص الهاتف من جديد.. يداعب أزراره.. تبدو له إحدى رسائله القصيرة التي كان قد أرسلها لهدى.. تحت رسالته تبدو أولى كلمات رسالة شخص آخر.. يلفت انتباهه أن اسمه موجود هناك.. الرسالة تتحدث عنه على ما يبدو.. يفتحها. يقرأ. تجحظ عيناه. يقرأ باقي الرسائل.. يرتعش ويهتز جسده بقوّة.. ما يقرأه إما كابوس أو حقيقة ستودي به للجنون.. مغص في المعدة.. صوت في الأمعاء.. ثم.. ككككعععع... لم يطق صبرا وأفرغ معدته التي لم تستطع صبرا أمام كلّ هذا الضغط العصبي.. يستفيق من بالزنزانة. يطلّ رجل أمن: - ياك لاباااااااااس؟ - لا.. لا شيء.. لقد تقيّأت، لكنني بخير.. سأتكفل بالتنظيف.. - يجدر بك ذلك. يبدأ التنظيف و صداع شديد يجتاح رأسه وكأن مئات المطارق تضربه... أيّ غر ساذج غبيّ كنت يا خالد؟!!! .. (يتبع) لقراءة الفصل السابق: خالد يتحوّل إلى "وحش آدمي" ! *روائي مغربي | [email protected]