كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل الخامس والعشرون - لقد نجا يا معاذ.. لقد نجا! يأتي معاذ قادما من المطبخ وهو يمسح يديه في قميص ممزق لفه كيفما اتفق حول خصره اتقاءً لمياه غير مرغوب فيها.. - كيف عرفت ذلك..؟!! - أحد المواقع الإخبارية الخاصة بمدينة كاديس نشر خبرا مفصلا عن الموضوع.. - هل لك أن تلخص لي المكتوب هناك فعلاقتي مع اللغة الإسبانية لم تكن يوما علاقة مودّة.. - ولا أنا.. لكن الشيخ العارف جوجل قام بمهمّة الترجمة عني.. - اللهم بارك لنا في شيخنا.. الخلاصة؟ - يقولون أن كاميرات المستشفى رصدت مجهولا قام بوضع رضيع قرب باب المستشفى قبل أن يكسر بابه الزجاجي ويفرّ.. الرضيع كان في حالة اختناق بسبب قطعة حلوى ذابت وتسربت من منديل صُنع على شكل مصاصة.. ثوان فقط كانت تفصله عن الموت لكنهم استطاعوا إنقاذه أخيرا.. - لقد أحييْت الناس جميعا.. - بل أنت من فعل ذلك مرّتين.. رحلة ذهاب وإياب مدتها ثلاثة أيام تقريبا بين بروكسيل وكاديس والعكس فقط لإحضار صديق "حرّاك" لا تدري إن كان سينجو أم لا.. ثم التورّط في قضية هذا الرّضيع معي.. والتي كان يمكن أن تخسر معها كل شيء فعلا لو تم ضبطنا.. - لم تقل لي بالمناسبة، هل تعرفوا على ملامحك أو أشاروا إلى ذلك؟ - لا زلت تكره المديح كما عهدتك.. طيب، محاولة إخفاء وجهي وكفيّ كانت ناجحة على ما يبدو.. هم يشكون أن من فعل ذلك هو والده أو أحد أقاربه على الأقل.. طبعا لم يجدوا صعوبة في الربط بين الموضوع وبين الإفريقية التي وجدوها ميتة في شاطئ لا بولونيا.. تقرير الطبيب الشرعي يفيد فعلا أنها توفيت فعلا قبل ولادة الجنين!! اللهم لك الحمد.. - الحمد لله.. والله قصة غريبة جدا يا خالد.. لو حكيتها لأحد لاتهمك بالخرَف أو الجنون.. ولولا أنني عشت جزءا منها معك لكان لك نصيب من شكّي أيضا.. - أعرف أنك لا تجامل.. - صديقك من صدَقك لا من صدّقك.. سأنهي هذه الأواني وستدع ذلك الجهاز قليلا وتذهب معي لمقر عملي كي تغيّر الأجواء قليلا.. - تعتقد أنها فكرة صائبة؟ - جدّا.. ستستمتع بالتشفي في صديقك معاذ المجاز في القانون الدولي وهو يغسل الصحون في المطعم.. - هذا ما لا أستطيع عليه صبرا.. المغاربة كُثر في بروكسيل. شارع "برابون" ذكر خالد ب"بوليبار" طنجة، حيث الحركة الدائبة التي لا تنتهي.. رغم مرور يوم كامل على قدومه لازال خالد غير مصدق أنه قد فعلها أخيرا وتمكن من تحقيق المرحلة الأولى من خطته. لا يدري أكانت الأصعب أم الأسهل؟ الأيام القادمة وحدها تمتلك الجواب. "الساحة الكبرى" ببروكسيل تمتلأ حياة. أناس وسياح من كل الأجناس. بعضهم يعرض مواهبه وبعضهم يتمشى وآخرون يجلسون بمقاهي محيطة بالساحة. شمس مارس الدافئة تغري الأوروبيين خصوصا بنزع نصف ملابسهم.. بالنسبة لهم، همُ الذين ألفوا برودة الجوّ، هذا دفء.. بالنسبة له هو، الذي تعوّد على اعتدال الجوّ، فالتخلص من الملابس يعني نزلة برد.. يمرّان عبر مجموعة دروب تحفها المطاعم من كل جانب.. أخيرا يلج معاذ أحد المطاعم فيتبعه خالد. - لن يطردك صاحب المطعم لأنك حوّلت المطبخ إلى مزار سياحي ل"الحاركين"؟ - " بيتر" يهمّه أكثر عدد الأوروات التي سيعدّها ليلا.. يمكن أن تحضر هنا وحيد قرن ٍ ولن يمانع إن كنت ستؤدي عملك على أكمل وجه.. لم تختلف الأجواء كثيرا بالداخل. العاملون بالمطبخ جاؤوا من كل بقاع الدنيا باحثين عن فرصة.. عن أمل.. عن حياة أفضل.. لا يبالون كثيرا بوجود خالد إلا عندما يبدأ معاذ عملية التعارف. يفكر خالد أن الناس هنا ملّوا الآخرين. كل ما يريدونه على ما يبدو هو أن يُتركوا وشأنهم.. المبدأ واضح جدا: عش حياتك ودعني أعش حياتي.. ولكل وجهة هو مُولّيها.. جنسياتهم مختلفة.. طالب بلجيكي يعد البيتزا.. منظفة بلغارية.. وطباخ جزائري.. يتعاونون بشكل جيّد. تشعر أن هناك جمودا في المشاعر رغم بعض النكات المتبادلة ومحاولات التظرف. هؤلاء الناس واقعيون إلى درجة البراجماتية. يمزحون ويتعايشون مادام في ذلك خير لهم، لكنهم بمجرد ما يغادروا المكان يوما فلن يتذكر أحدهم الآخر أكثر من ثانية أو ثانية ونصف. صوت شبيه بالجرس يأتي من مكان ما.. معاذ يضرب الأرض بقدمه ويسب أشياء كثيرة وأناسا أكثر.. - ماذا هناك؟ لم كل هذا الغضب؟ - صوت هذا الجرس يعني أن دفعة جديدة من الأواني قد أرسلت من الأسفل.. أنظر إلى هذا الجمال.. يرفع معاذ ما يشبه النافذة الحديدية فتكشفُ عن أوان متراكمة متسخة.. - أساعدك؟ - أبدا.. لقد تعوّدت.. - هذا واضح.. يواصل معاذ عملية التنظيف وهو يلعن.. يلعن الأواني.. يسبّ المطعم.. يشتم "كارلا"، الفتاة التي ترسل له الأواني.. يلعن الجامعة.. يسبّ القانون الدولي.. ويشتم الدراسة كلها.. - قل لي بالله عليك ما جدوى كل ذلك التعب و الكلل ما دمنا في الأخير سنغسل الأواني مثلما يعرف أيّ شخص أخرق آخر أن يفعل... يصمت خالد ولا يجيب.. تعلّمَ أن كل ما ستقوله لشخص يُعاني لا يساوي شيئا.. كل حكمك ونظرتك للحياة احتفظ بها لنفسك أفضل لأنك ستحتاج أن تطبقها يوما عندما ستجد نفسك في موقف مشابه.. وغالبا ستفشل في التطبيق.. لذا أطبق شفتيك أفضل.. من يده في النار ليس كمن يده في الماء.. هو، في كل الأحوال، يعلم أن معاذ لا ينتظر إجابة.. هو يفرّغ غضبه كي لا ينفجر.. وغالبا، لو لم يكن خالد معه لقام بتوجيه الحديث إلى الأواني أو أي شيء يجده أمامه... - إذن، فهدى تلك هي من وراء كل هذه المصائب.. أستغرب كيف لم تخبرني من قبل؟ - لم يكن ذلك ممكنا سوى عبر رسائل السجن، والتي – كما تعلم – تُُقرأ كلها.. وأنا لم أكن وقتها أريد توريطها في أية مشكلة.. لهذا لم أشر إليها لا من قريب ولا من بعيد.. - وماذا أنت فاعلٌ الآن؟ - لديّ بضع مخططات في ذهني لكنني محتاجٌ لئلا أتسرّع.. لقد بذلت كل هذا الجهد فقط لأنني لا أريد أن أقوم بأية حركة متشنجة متسرعة تكشف تحركاتي فيفرّ من يفرّ.. أو يقومون بأخذ الاحتياطات.. فأظل عاضّا على يدي من الغيظ ما تبقى من حياتي.. لقد قام هؤلاء بواحدة من أفضل السرقات التي رأيت في حياتي وذلك بتطبيق مبدأ "إن كنت تريد أن تحتفظ بما سرقت فأقنع من سرقته أن بضاعته ردّت إليه..".. - الغريب أنك لازلت تحتفظ بصفاء الذهن هذا رغم ما مررت به.. - المحن تعصرك.. فإما تفرز منك زيتا ينفع نفسه والبلاد والعباد، أو قشورا تذروها الرياح.. تصوّر معي أنه كان في مخططي أن أنتقم من هدى بأبشع الطرق التي قد يبدعها عقلي وشيطان نفسي، فإذا بطفل إفريقي يولد بين يديّ يقضي على تلك الرغبة تماما.. لقد رأيت بنفسي أيّ جناح بعوضة هي هذه الحياة.. لقد زهدت في الانتقام لكنني لم أزهد في رغبتي في استعادة طنجتي.. أقصد لوحة "زهرليزا".. - وكيف ستفعل ذلك؟ - أمامي طريقتان، الأولى عن طريق إيجاد هدى شخصيا،.. والثانية عن طريق التسلل لبريدها الإلكتروني الذي أعرف حسابه من خلال هاتفها.. - الخيار الثاني كان ممكنا من طنجة ولم يكن يتطلب السفر.. - طبعا لا.. أنت تعرف أن شركات البريد الإلكتروني تحتاط لهذا الأمر.. سيرصد برنامجهم أنني من دولة أخرى، وسيحاولون التحقق من شخصيتي قبل السماح لي بالدخول، وهو ما سأفشل فيه طبعا.. وعندها سيرسلون رسالة تحذيرية لهدى مفادها أن هناك من يريد التسلل لبريدها وسيحددون لها المنطقة بالضبط.. وسأكون عندها قد سقطت في المطبّ الذي لا أرغب فيه إطلاقا.. أما هنا، فالبرنامج لن يطلب شيئا ما دمنا نستعمل البريد من نفس المنطقة.. وحتى لو طلب فمعي واحد من أخطر مخترقي البريد الإلكتروني في العالم... السي معاذ!! - لا أدري إن كنت لا زلت أتقن ذلك الهراء.. - أنت أبرع من يفعل ذلك.. و لازلت بالتأكيد.. - أخجلتم تواضعي.. ينهي معاذ عمله. الساحة الكبرى بدأت تخلو تدريجيا من مرتاديها إذ يقترب الليل من الانتصاف. يتمشيان الهوينى وخالد يجول ببصره فيما حوله. بروكسيل لا تبدو نظيفة جدا رغم ألقها الأوروبي الذي لا يخفى على العين. ليلها جميل وذو ألق. كل المحلات التجارية أغلقت أبوابها. هي إذن ليست مدينة ساهرة كطنجة. معاذ قال له أن السهر هنا له أماكنه الخاصة. من أراده فليقصده. تذكر أن طنجة تسهر بدون حسيب ولا رقيب. الكلّ يسهر في كلّ مكان وفي أيّ وقت دون ضابط للأسف. شقة معاذ صغيرة وأنيقة. يبتسم خالد إذ يرى الحالة التي تركا عليها الشقة قبل المغادرة.. أحيانا تحتاج الخروج والابتعاد لتكتشف أي فوضى تتركها وراءك. يجلسان إلى الجهاز. يسلم خالد حساب هدى لمعاذ. هذا الأخير يقوم بأكثر من عملية.. يندمج تماما في عالم يبدو أنه كان مشتاقا له فعلا.. يصدر أصواتا غريبة من فمه وكأنه يتلذذ بطعم ما.. - كأنك تستعيد طعم ذكرى ما.. - والله هو ذلك.. اشتقت إلى هذا الشغب الإلكتروني... حسنا.. دقيقة...هووووب... إفتح يا سمسم... البريد الإلكتروني لهدى يراود خالد عن نفسه.. يدعوه ليغوص ويعرف الحقيقة، كل الحقيقة.. بينما خالد، المتوتر كنُشّاب قوس، يجاهد بالكاد لمنع كفه اليسرى من الارتجاف هو يتساءل: - ألا زلت تحتفظ لي بمفاجأة أخرى أيها القدر؟ .. (يتبع) لقراءة الفصل السابق: خالد يقدم على قرار مجنون! *روائي مغربي | [email protected]