تعدّ غابة الرميلات واحدة من الوجهات المفضلة لساكنة طنجة للتريّض والترويح عن النفس واستنشاق هواء نقي، يزيدُ من جاذبيتها قربُها من المدار الحضري وإطلالتها على البحر. يزدحم منتزه الغابة "برديكاريس" أيام العطل ونهاية الأسبوع؛ حيث تحلّ العائلات الطنجاوية بالمكان لقضاء يوم كامل، في الغالب يبدأ بالإفطار الجاهز، ثمّ بإعداد الغذاء، الطاجين خصوصا، على النار الموقَدة بأغصان الأشجار وورقها الجافّ، قبل أن يتحوّل معظمهم إلى المقاهي المحاذية للغابة لإنهاء اليوم بكوب شايٍ ترافقه أجبان ومُحَلّيات في وجبة تعرف لدى أهل طنجة ب"الميريندا". بيئيّا، تُعرف الغابة بتنوعها البيولوجي المتفرّد لما تزخر به من نباتات وحيوانات، وهي واحدة من أهمّ "بالوعات الكربون Carbon Sinks" بالمدينة، لا يعكّر صفوَ أهميتها سوى ما يتهددها من عواملَ أغلبها للبشر يدٌ فيها، للأسف. ترويحٌ عن النفس وتلوّثٌ سمعي يقول لنا "عبد السلام.ف" (43 سنة): "آتي إلى هنا أنا وأسرتي كما ترى لنقضي يوم السبت كاملا، ونأخذ لنا مكانا فوق هذه الكراسي الجاهزة حيث نكون قد حملنا معنا فطورنا جاهزا، بينما لا يحلو الغذاء إلا بتجهيزه على النّار التي نتعاون معا لإيقادها". وعن سبب تفضيله للمنتزه، يوضح عبد السلام: "هنا كل ما نحتاجه بعد أسبوع شاق، فالمناظر خلاّبة، والهواء نقيّ جدا، وأمام الأطفال مساحات كافية للّعب". سألنا عبد السلام عن هذا الضجيج الذي تحدثه مجموعة مراهقين، والذي جعلنا بالكاد نستطيع سماعه، فأجاب: "أعترف لكم أنه مزعج جدا، فكما ترى هم يحملون معهم طبولا وكل ما يلزم لإحداث أكبر ضجيج ممكن دون أي نسق، فالمهم بالنسبة لهم هو إثارة ولفت الانتباه، وهذا قد يكون أمرا عاديا في المراهقين عموما، لكن لا ينبغي أن يسمح لهم بهذا في محميةٍ طبيعية تحضرها أسرٌ.. هذا نوع من التلوث السمعي الذي نهرب منه فنجده أمامنا للأسف". ورغم أن مدخل المنتزه يعرف وجود لافتة كبيرة تحمل ستة محاذير لا ينبغي على زائر المنتزه أن يقوم بها، على رأسها جملة "لا أحدث الضجيج"، إلا أن هذا لا يبدو مؤثرا على بعض الزوّار والمرتادين ولا حتى حرّاس الغابة الذين يفترض فيهم الحرص على تطبيق تلك النصائح من طرف الزوار. يضمّ مدخل المنتزه مكانا مجهزا بشكل جيد لممارسة أنواع مختلفة من الرياضات وكذا ألعاب الأطفال، بينما تتواجد عدد من المقاعد والموائد المصنوعة من الخشب، أو من جذوع الأشجار، والتي تتحلّق الأسر حولها دون حاجة للجلوس أرضا أو إحضار لوازم معهم من البيت. ثروة بيئية وأخطارٌ مُحدِقة تمتد غابة الرميلات على مساحة 67 هكتارا، وتتميز بتنوع بيولوجي؛ هامّ بحيث تضم أشجار البلوط الفليني وأشجارا تمّ استيرادها وزرعها في بدايات القرن العشرين، كالأكلبتوس والصنوبر المثمر. يقول عبد الرؤوف بريطل، مهندس بالمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر بطنجة: "أهمّ ما يميز غابة الرميلات وجود أشجار (تاشت Chêne zéen)، وهو نوع من أشجار البلوط لا ينمو إلا على ارتفاعات كبيرة تتجاوز 700 متر، لكنه في غابة الرميلات ينمو على ارتفاع منخفض جدا وقريب من سطح البحر، والغريب أن هذا حدث بشكل طبيعي، ولعلها واحدة من الحالات النادرة في العالم فعلا". تضمّ الغابة أيضا أصنافا حيوانية متنوّعة؛ حيث يعيش بالمنتزه، بحسب تقريرٍ للمندوبية، 16 نوعا من اللبونات، و28 نوعا من الزواحف، إضافة إلى 55 نوعا من الطيور. يوضّح عبد الرؤوف بريطل قائلا: "تكمن أهمية الغابة في كونها أول فضاء طبيعي أخضر تستريح به الطيور المهاجرة العابرة من أوروبا نحو الجنوب، قبل أن تنتقل نحو محمية تهدارت". ولعلّ الطريف في الأنواع الحيوانية الموجودة بغابة الرميلات أن الخنزير البرّي غير المروّض أصبح أليفا ولا يشكل على الزوار أية خطورة، بل إن عملية إطعام صغار الخنازير أصبحت واحدةً من الأنشطة الممتعة لكثير من روّاد الغابة! ككلّ مجالٍ غابوي، فإن الحرائق تتهدّد غابة الرميلات بشدة، خصوصا في فصل الصيف حيث يكثر الإقبال، وتساعد الحرارة المفرطة على اشتعالها وانتقالها، أما آخر حريق ضخم شهدته الغابة فكان في شهر يوليوز من سنة 2013 وأتى على خمسة هكتارات كاملة. عن الاحتياطات المتخذة بهذا الخصوص، يقول رشيد الشبيهي، المدير الإقليمي للمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر بطنجة: "أغلب الحرائق التي تشبّ بالغابة يكون سببها العنصر البشري، خصوصا إيقاد النيران بالمنتزه من أجل الطبخ، وهي المسألة التي نستعدّ لوضع حدّ لها من خلال إعداد مكان خاصّ بالطبخ والشواء (باربيكيو)، يمكن للمرتادين أن يطبخوا فيه دون حاجة للتعامل مع الأمر بشكل فردي ومتهور يشكل خطورة على الغابة". "إضافة إلى هذه العملية"، يضيف الشبيهي، "نقوم حاليا بتنقية الأشجار الميتة والنباتات التي لها قابلية سريعة للاشتعال وتشذيب الأخرى". وبالنسبة لمسألة النظافة، فقد تمّ عموما القضاء على النقاط السوداء بالغابة، بعد أن تم الاتفاق مع الشركة المفوّض لها تدبير النفايات بالمدينة بالتكفل بعملية تنظيف المنتزه من الداخل، كما سيتم بناء مراحيض عمومية داخل المنتزه، بحسب الشبيهي دائما. برديكاريس.. حكايةُ قصر من النادر أن تجتمع ثروة بيئية وأخرى أثرية في المكان نفسه، لكن هذا حدث في منتزه برديكاريس؛ حيث يتواجد القصر المهيب الذي بناه الدبلوماسي الثري اليوناني الأصل الأمريكي الجنسية إيون برديكاريس (1840-1925). وفي هذا القصر وحوله دارت حكاياتٌ لا تكاد تحدث إلا في الأساطير، فقصة بنائه نفسها مثيرة للاهتمام؛ حيث كان برديكاريس قد وعد زوجته التي كان يعشقها بأن يبني لها قصرا "في أجمل مكان في العالم"، قبل أن يستقر رأيه على غابة الرميلات ويبدأ بناء القصر بموادّ أغلبها استورده من أماكن مختلفة حول العالم. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ لأن تميز الثروة البيئية التي تزخر بها المنطقة حاليا يعود الكثير من الفضل فيه لبرديكاريس الذي أحضر عددا من النباتات والأزهار النادرة وقام بزرعها هناك. وفي تاريخ السياسة، نجد أن عملية خطف برديكاريس (أو زوجته وابنه) من طرف "ثعلب جبالة" مولاي أحمد الريسوني، تعرف باسم "عملية برديكاريس" أو Perdicaris Affair، والتي خلفت أيضا قولة شهيرة للرئيس الأمريكي آنذاك ثيودور روزفلت وهي "برديكاريس حيّا أو الريسوني ميّتا". وفي السينما، سنة 1975، تم إنتاج فيلم خاص بهذا الحدث حمل عنوان "الأسد والريح"، أدى فيه دور البطولة الممثل "شين كونري" المعروف بأدائه لأدوار جيمس بوند. حاليا، يتم ترميم قصر برديكاريس في إطار مشاريع طنجة الكبرى الثقافية، وهي العملية التي ينتظر الكثير من المهتمّين والجمعويين انتهاءها ليروا ما ستسفر عنه، آملين أن يكون الترميم في مستوى قصرٍ باذخٍ عُمرانيا وتاريخيا.. وسينمائيا أيضا.