مع ارتفاع درجات الحرارة خلال فصل الصيف, يقبل سكان مدينة طنجة وزوارها الكثر ,على اكتشاف سحر أهم موقع طبيعي في المدار الحضري للمدينة, منتزه بيرديكاريس. بالفعل, للموقع من المؤهلات ما يسحر ألباب زواره, فمنتزه بيرديكاريس, المشهور أكثر باسم غابة الرميلات, يمتد على مساحة سبعين هكتارا, ويشكل منتزها طبيعيا يضم المئات من الأصناف النباتية الأصيلة أو الغريبة.. كما يمنح للمتنزهين إطلالة مدهشة على مضيق جبل طارق, أو على المحيط الأطلسي القريب, مما يجعله لؤلؤة طبيعية على تاج مدينة طنجة. يشهد عدد زوار الموقع الذي يقع على بعد أربعة كيلومترات فقط من قلب مدينة البوغاز, ارتفاعا مهما منذ سنوات التسعينات, خصوصا أيام نهاية الأسبوع والعطل, حيث يبحث الآلاف من الناس عن لحظات استرخاء في حضن الطبيعة, وهو ما جعل من منتزه بيرديكاريس مرادفا للهوية الطبيعية والإحيائية لمدينة طنجة. ويستمد الموقع تسميته من إيون بيرديكاريس, أحد الأثرياء الأمريكيين من أصول يونانية, كان يشغل منصب قنصل الولاياتالمتحدة بطنجة ,إذ كان قد اشترى هذا الموقع سنة 1887 من أجل زوجته التي كانت تعاني من مرض السل, وكانت في حاجة إلى هواء نقي منعش, لهذه الغاية هيأ مجموعة من الممرات المتعددة داخل الغابة, حتى تكون جولة الزوجة كل يوم مختلفة.وقد استعادت الدولة المغربية ملكية الموقع سنة 1958 وعهدت بتدبيره إلى المديرية الجهوية للمياه والغابات, وبفضل دراسة المخطط المديري حول المواقع المحمية المنجز سنة 1993, تم اعتبار منتزه بيرديكاريس موقعا إيكولوجيا, بالنظر إلى أهمية النظام الإحيائي المتنوع الذي يحتضنه. مختبر نباتي ومرصد للطيور حسب معطيات المندوبية السامية للمياه والغابات, يمثل الموقع فسيفساء حقيقيا للنباتات والأزهار, فهو وسط طبيعي يلتقي فيه أكثر من 200 صنف من النباتات الموزعة بين أنواع النباتات المتوسطية (الصنوبر البحري, وبعض أنواع البلوط ... ), وبعض النباتات الغريبة عن المناخ المتوسطي, فمع بداية القرن العشرين, أدخل ملاك الموقع أصنافا أخرى من قبيل الأوكاليبتوس والميموزا والنخيل وشجر دم التنين وشجر اليوكا.أما جبل «كاب سبارطيل», وهو الكتلة الصخرية جنوب مضيق جبل طارق حيث يقع منتزه بيرديكاريس, فيضم أزيد من 250 صنفا نباتيا غريبا, بما في ذلك مجموعة من الأشجار ذات الأوراق النفضية أو الإبرية (الصنوبريات, الأوكالبتوس, السرو, السنط ...).يشار في هذا الصدد الى أن بعض أنواع أشجار الأوكالبتوس موجودة بالموقع منذ سنة 1918, مما يجعل منها أقدم موطن لهذه الأشجار بالمغرب, لكنها حاليا معرضة لخطر الانقراض بسبب شيخوختها . من بين النباتات التي تثير فضول الزوار, أشجار الزيناي العملاقة, فهي نوع من البلوط بوريقات نفضية مستدقة, والتي لا يتعدى مساحتها المزروعة في كامل تراب المغرب تسعة آلاف هكتار توجد بالأساس في المرتفعات الشاهقة, لكن منتزه بيرديكاريس يعتبر الموقع الوحيد حيث تنمو الشجرة على ارتفاع يقارب سطح البحر, وحيث توجد أنواع أخرى من البلوط على شكل أكمات أو بشكل متفرق .كما تعتبر غابة الرميلات من بين أغنى المواقع بكائناتها الحيوانية, فهي تضم ما يقارب 16 نوعا من الثدييات, 28 نوعا من الزواحف, و 55 نوعا من الطيور, فالمنتزه يقع على طريق هجرة الطيور بين شبه الجزيرة الإيبيرية و طنجة, مما يجعل منه موقعا لاستراحة أنواع كثيرة من الطيور الكاسرة أو المهاجرة. موقع يتعين تثمينه والمحافظة عليه وجهت مجموعة من جمعيات المجتمع المدني بطنجة دعوات لإثارة انتباه السلطات المحلية الى ضرورة الحفاظ على هذا «الموقع الأخضر» داخل المدينة, وفي بادرة تجمع الفعل بالقول, نظم مجموعة من الفاعلين خلال فصل الربيع الماضي خرجات ميدانية, من تنشيط مجموعة من المهتمين بالشأن البيئي والتربوي.ويطالب الفاعلون قبل كل شيء بتدبير جيد للموقع يسمح بالتحكم في عدد الزوار بهدف الحد من تدمير النباتات الصغيرة في طور النمو ووقف رمي النفايات بالموقع, وهي ممارسات سيئة يرتكبها بعض الزوار غير المسؤولين الذين يعرضون توازن النظام الإحيائي بالمنتزه للخطر.وقد تم في السابق القيام بمجموعة من المبادرات الرامية لحماية الموقع وتثمينه, وعلى الخصوص الدراسة الميدانية التي أنجزت سنة 2000 بتعاون بين جهة طنجة تطوان ونظيرتها الفرنسية فرانس ألب كوت دازور, ثم التوقيع على اتفاقية سنة 2003 بين مختلف المتدخلين الجهويين والمصالح المعنية. واستهدفت هذه المبادرات جعل المنتزه الحضري بيرديكاريس منطقة للاستجمام والاسترخاء وفضاء لتحسيس المواطنين بأهمية الحفاظ على البيئة .كما شهد الموقع مجموعة من المنجزات على أرض الواقع من قبيل العناية بالمشاهد الغابوية (تشذيب الأشجار, جمع النفايات ووضع مكبات القمامة...) وتهيئة الممرات للراجلين الراغبين في القيام بجولات داخل المنتزه.لكن مراقبين محليين يعتبرون أن هذه الجهود, المحصورة في الزمن, تبقى دون مستوى التحديات التي يواجهها المنتزه, وغير كافية لضمان سلامة الموقع وتثمين مؤهلاته, في وقت أضحت فيه مسألة البيئة, تكتسي راهنية أكثر فأكثر, سواء في المغرب أو على المستوى الدولي.