للمغاربة أوقاف عجيبة، وأبواب عريضة في فعل الخيرات، تنم عن نزعة إنسانية مغرقة في الحنان والعطف والبرّ، انسجاماً مع الهوية الدينية والثوابت الوطنية التي تدعو إلى نفع الناس والبرّ بالحيوان والإحسان إلى سائر الموجودات من بيئةٍ وطبيعة ونبات، وبفضل هذه القيم، أنشأ المغاربة حضارة مجيدة، امتد عمرها لأزيد من اثني عشر قرناً، بدأت بتأسيس مدينة فاس، والتي شكلت حدثاً تاريخياً كانت له آثار عظيمة في حضارة المغرب. وفي محاولة لتوثيق أوقاف المغاربة وعطاءاتهم الإنسانية، ورصد أعراف البر والإحسان لديهم، أنجز المؤرّخ المغربي الدكتور محمد اللبار، دراسة علمية فريدة من نوعها، جاءت تتويجاً لبحوث تاريخية وزيارات ميدانية أنجزها في سياقات مختلفة، لمعالم فاس وتراثها الإنساني، حيث أصدر هذه الدراسة في كتاب حمل عنوان: مدينة فاس: التاريخ والتراث الإنساني من خلال الأوقاف والأعراف، وصدر ضمن منشورات جامعة القرويين بفاس، وبتقديم رئيسها الدكتور أمال جلال، في طبعته الأولى نهاية مارس 2021، لتشكل هذه الدراسة إضافة نوعية للمصنفات التي تناولت تاريخ مدينة فاس. جاء هذا الكتاب في قرابة ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسطة، يضم مباحث علمية دقيقة، تستند إلى مصادر تاريخية واسعة، عربية وأجنبية، وحقائق من عمق التراث المغربي، حيث وقف مؤلف الكتاب المؤرخ الدكتور محمد اللبار على عدد من الوثائق والمخطوطات النادرة، فضلاً عن تفاصيل الحياة اليومية في المدينة العتيقة بفاس، وهو أحد أبنائها إذ وُلد بهذه المدينة عام 1951، وفيها نشأ ونمت مداركه، وتأثر بأجوائها، وطبيعة الحياة فيها، ليسكنه عشق البحث في فاس، وخاصة تاريخها الإنساني، وتجليات الرقي المغربي في العناية بالخلق، ولذلك وهب جهوده لخدمة تاريخ فاس، فكانت دراسته متفرّدة، بشهادة رئيس جامعة القرويين الدكتور أمال جلال الذي قدّم للكتاب، حيث وصف هذا العمل بقوله: "أبان المؤلف في كتابه هذا عن معرفته الدقيقة بمعالم مدينة فاس منذ التأسيس إلى القرن الحالي، وفي هذه الجولة العلمية الماتعة يأخذنا معه من موضوع إلى موضوع كأننا في نزهة من رياضات فاس ومباهج بساتينها الغناء، ونمر معه في الأزقة والشوارع وتملأ ناظرينا ومسامعنا بصخب الحياة الحرفية ومظاهر الإحسان الذي شمل الإنسان والحيوان والجماد، وسماع الصوفية وأهازيج وأفراح". وتعود فكرة تأليف المؤرخ الدكتور محمد اللبار هذا الكتاب إلى عام 2003، عندما شارك في فعاليات الملتقى الدولي الذي نظمته جامعة تونس المنار وقدم فيه مداخلة بعض مظاهر النزعة الإنسانية في أوقاف مدينة فاس، وتلته مشاركات أخرى أدت إلى المزيد من التنقيب والبحث والتدقيق. إن كتاب "مدينة فاس: التاريخ والتراث الإنساني من خلال الأوقاف والأعراف"، للمؤرخ المغربي الدكتور محمد اللبار يسلط الضوء على أسرار التماسك الاجتماعي بمدن المغرب، وتحديداً مدينة فاس، التي تمثل عاصمة علمية وروحية للمملكة المغربية، ولأن عادات السادات سادات العادات، فإن عادات وأعراف هذه المدينة أصبحت قدوة لغيرها من مدن المغرب والغرب الإسلامي بصفة عامة، عبر أزمنة تاريخية طويلة، فقد حرصت مدينة فاس وأهلها وقطانها على ضمان استقرارها وتقدمها وازدهارها، من خلال مشاريع حضارية واجتماعية ذات طابع إنساني صرف تراعي المنفعة العامة وتمد يد العون المادي والمساعدة المعنوية لمختلف الشرائح الاجتماعية المحتاجة والمعوزة، وإرساء مؤسسات خاصة بهذا الجانب الإنساني، تؤصّل للتربية الإنسانية في المجتمع، على أسس متينة من التضامن والتكافل واحترام القيم الأخلاقية وحرمة الإنسان، وذلك من خلال العديد من المرافق الاجتماعية وأوجه البر والعطاء والإحسان. جاء كتاب "مدينة فاس: التاريخ والتراث الإنساني من خلال الأوقاف والأعراف"، في ثلاثة أبواب، فضلا عن مقدمة وخاتمة وفهارس تيسّر الاستفادة من الكتاب. هكذا خصّص المؤلف المؤرخ محمد اللبار الباب الأول من الكتاب لتتبع البعد التاريخي لمدينة فاس وأوقافها، وقد تضمن ثلاثة فصول: البعد التاريخي لمدينة فاس، ثم جامع القرويين، ثم أوقاف فاس عبر التاريخ. أما الباب الثاني فقد رصد فيه المؤلف تجليات البعد الإنساني في أوقاف وأعراف مدينة فاس، واشتمل على فصلين، الأول درس فيه التضامن والتكافل الاجتماعي من خلال نماذج، والثاني ركّز فيه على مشاريع الرفق بالطير والحيوان. وخصص الباب الثالث لاستشراف أفق حضارة مدينة فاس، وكيف شكلت هذه المدينة العريقة باباً مفتوحاً على الآخر، من خلال احتواء مختلف الثقافات، واستقبال عدد من الأعراق والأديان والأجناس.. الذين استوطنوا فاس، واندمجوا بعمق في تشكيلها الاجتماعي الذي جمع أطيافاً متعددة، أنتجت حضارة إنسانية فريدة من نوعها، على مستوى القيم والثقافة والتراث المادي واللامادي. يتساءل مؤلف الكتاب الدكتور محمد اللبار عن المعين الذي غرفت منه مدينة فاس حضارتها العريقة واستلهمت منه رسالتها، ليؤكد على أهمية جملة من العوامل التي أسهمت في هذا الاغتراف، ومنها تأسيس جامعة القرويين، وسياسة الانفتاح التي طبعت تدبير المدينة منذ تأسيسها، واستقبالها للنازحين سواء من المشرق أو الأندلس..، أو من داخل المغرب نفسه، بحيث عرفت فاس إقبالاً واسعاً لعدد من العائلات التي اتخذت من فاس موطناً لها، الشيء الذي انعكس على تطور الفنون والصنائع وتكامل الحرف والمهن، وحدث الإبداع في الحضارة كما أسفر عن ذلك رصد أوقاف العناية بالإنسان والحيوان والطير والنبات.. ولعل من أهم ما توصل إليه المؤرخ الدكتور محمد اللبار في كتابه القيم "مدينة فاس: التاريخ والتراث الإنساني من خلال الأوقاف والأعراف"، هو أهمية النبش في الذاكرة التاريخية والاجتماعية للمدن المغربية عامة، ومدينة فاس على وجه الخصوص، لما يمكن أن يمثله ذلك من عامل تحفيز للشباب واسترجاع للأمجاد واستلهام روح المبادرة والتطوع والتضحية.. خاصة في ظل المبادرات الملكية السامية التي أعطت للمغاربة وللعالم دروساً في العمل الإنساني وترسيخ قيم التسامح والتعاون والتضامن، ومن ذلك المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أبدعها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، والتي حققت نتائج باهرة على مستوى تأهيل عدد من القطاعات وتثمين الرأسمال البشري وتحرير الطاقات، ومنح فرصة العمل والإنجاز لحاملي المشاريع، وهي روح العطاء التي طبعت شخصية الملك فعلاً وقولاً، فسعى حفظه الله إلى نشرها وبثها بين الناس لتحقيق الارتقاء بالفرد والمجتمع، ففي ذلك ارتقاء للوطن، وتوّجت اليوم جهود الملك نصره الله، بإعلان النموذج التنموي الجديد الذي يواصل تثمين العنصر البشري وإيلاء القيم والأخلاق والعمل الجاد، المكانة اللائقة بها، انطلاقاً من الثوابت الوطنية والدينية التي تحث على قيم العطاء والبر والإحسان، كما كشف عن تجليات ذلك المؤرخ الدكتور محمد اللبار في كتابه الفريد من نوعه نظراً لندرة المعلومات التي تضمنها وأيضاً عمق النبش التاريخي ودقة البيانات وشموليتها، وسلامة التحليل وقوة الحجة وحسن البيان، مما جعل هذا الكتاب مرجعاً لا يستغني عنه الباحث والقارئ في التراث الإنساني عامة، والتراث المغربي خاصة، وما أحوج المغاربة اليوم لإحياء هذه القيم والتشبث بالهوية الأصيلة.