ليس بالسّلاح وحده تنتصر الشّعوب ، الكلمة أيضا سلاح، ربما كانت أفتك، وأمضى، وأحدّ من السّلاح ذاته، المسألة ليست هنا ، المسألة فى كيفية إستخدام هذا ، وإستعمال تلك... إعرف عدوّك.. أعداؤنا يجيدون اللّعبة ، إنّهم بارعون فيها لدرجة تحار معها وبها العقول وتزيغ.. فهذا أدبهم ، وهذه أشعارهم ، وهذه أفلامهم ، وإنتاجاتهم تملأ حياتنا ، نلهث وراءها لهثا ، عملا بالشّعار القائل :" إعرف عدوّك "، لقد ملأت هذه الأعمال أسواقنا ، إنّها أعمال تدغدغ عواطفنا ، لتفعل فعلها فى العقل والوجدان، رويدا..رويدا..أمّا نحن فقد أخفقنا فى الإثنتين معا، لدينا المال الوفير الذي يتحوّل إلى سلاح ،ولدينا الكلمة التي كنّا زمنا نكتبها بماء الذّهب والّلجين،ونعلّقها على أقدس معابدنا،ولكننا لا نعرف كيف نحافظ على توازننا إزاء هذين العنصرين .جرفنا تيّار الكلم حتى أنسانا معظم قضايانا الحيوية الأولى فى المشرق والمغرب على حدّ سواء، لقد وضعت كتب، وألّفت قصص ، ونظمت أشعار،وسطّرت ملاحم تحكي مآسينا، ومعاناتنا المتوالية التي تترى وتتوالى نصب أعيننا ، ولا من حسيب ولا رقيب . إننا نعيش أسرى عقدنا الدفينة ، ومركّبات النقص التي تعترينا ، وتتفجّر فى أعماقنا، إنّنا سجناء أنفسنا ، وما سيطر وهيمن على هذه الأنفس طوال سنوات طويلة، وعقود متعاقبة، وقرون منصرمة من حبّ للكلم المنمّق، وهيام بالبلاغة الموشّاة، حتى حادت بنا المعارك والمواجهات إلى معارك ومشاكسات جانبية ، ليس لإختلافنا فى المضمون ، بل أضحى الخلاف قائما على الشّكل فى أدبنا النضالي ، فإذا بأصوات تؤيّد الشّعر العمودي،وإذا بأصوات أخرى تنادي بالحفاظ على الإرث الخالد "القافية"...! ولا غرو فى ذلك فنحن نعرف هذا عن أنفسنا ، وأعداؤنا يعرفون هذا عنّا ،إنّهم يشهدون لنا بذلك ، إنّهم يقولون، ويشهدون أنّنا بناة حضارة حقّا، ولكنّها حضارة الكلم .... تدانيها مرتبة حضارة الزّخرف المنمّق الذي يظهر جليّا مجسّما فى أعمدة مساجدنا، وقباب مآذننا ، وداخل بيوتات، وقصور،وحصون أسرنا العريقة ...إنّه التجسيد الحيّ لحضارة القول، ممّا شاع وذاع ، وملأ بيننا الأسماع، من أنواع الأشجاع، فى مختلف البقاع والأصقاع... إنّه سرّ الصناعتين الذي طبع حياتنا قديما وحديثا، وألّف عنه أجدادنا الأسفار والمجلّدات ، بشروحها، وحواشيها،ومتونها، وهوامشها، وتذييلاتها، وتعقيباتها. العمل فى صمت أعداؤنا يعملون فى صمت ، ولكنه صمت مدوّ ،أما نحن فما زلنا نعاني من طغيان عواطفنا على عقولنا...وليس عيبا فينا أن نكون بلغاء...فهذه مفخرة ومأثرة ومبرّة لنا ، والخطابة فنّ عريق عند مختلف الأمم القديمة، والشعوب العريقة فى فنّ القول .. ألم يفرد لها أرسطو كتابا بعينه.. ؟ عيب هذا الفنّ أنّه فنّ قديم، كفنّ المسايفة الذي لم يعد له وجود سوى فى مبارياتنا الرياضية، وياللأسف لم يحقق هذا الفنّ نجاحا مثلما حقّقته ضروب أخرى من الرياضات التي لم يكن لها وجود فى القدم . لقد سئمنا الكلمات ، وأصبح بعضها يثير فينا وفى أنفسنا إشمئزازا، وقرفا، وتقزّزا لا حدّ لها ...أعداؤنا يبتسمون لنا فى مكر ، يصافحوننا بيد، ويجهزون علينا باليد الأخرى فى براعة وبراءة،وذكاء ودهاء ...وما زال بعضنا مع ذلك لا يتورّع، من ردّ الإبتسام ومدّ الأيدي للمصافحة، والمصالحة بعد ظلم، وتجنّ، وتعدّ، وتعنّت، وتطاول ،وتماد فى العناد . الشطارة.. والشطرنج إنّها لعبة " الشطارة" التي يجيدونها ، أو فلنقل لعبة " الشطرنج" يغروننا فيها ببيادق عديمة القيمة، لننال وتحيق بنا الهزيمة بأخرى أفتك وأمرّ..ويموت الأبرياء العزّل، والشّيوخ، والصّغار، والأطفال اليافعون . الموت أهون فى عرفهم من حياة التشّرد،والتشتّت، والطرد، والضياع. ونهرع نحن لمزاولة اللعبة التي نحبّها ونجيدها ونوثرها عن غيرها ونخلص لها . لعبة الجلم أو القلم أو اليراع... نحرّرالبلاغات،والبيانات، والإدانات الطويلة ، ونبالغ فى البكاء والنحيب فى محاولة إستدرار عطف الآخرين ...وعلى الرّغم من ثبوت فشل هذه اللعبة نزيد نحن إمعانا فى تطويرها، وتطويرها ، وتمطيطها وإستعمالها بدون هوادة عن طريق أحدث وسائل الإعلام والتبليغ والتواصل الإجتماعي عبر مختلف العناكب والشبكات الأثيرية التي تملأ رؤوسنا، دورنا، ومقاهينا، وقاعاتنا،وواحاتنا، وباحاتنا، وأجواءنا ليل نهار..وترتفع الأصوات، وتتعالى الصّيحات هنا وهنالك ...أصوات وصيحات عالية مجلجلة تهزّ شغاف القلوب، وتمزّق نياطها..وتفجّر ميازيب الدّموع فى مآقينا وأحداقنا ...ندين بشدّة الأعمال الإجرامية .. " لن نسكت ولن نظلّ مكتوفي الأيدي " ..." سيكلّفهم ذلك غاليا" ..." إنّ النّصر لقريب" ! ، أعداؤنا لا يبالون بما نقول ، ولا يعيرون إهتماما لما نصنع ،لأنّهم يعرفون مسبّقا أنّ قولنا قبض من ريح، وحصاد من هشيم...وصنيعنا ليس ذا قيمة تذكر.. إنّهم يخطّطون لمناورات تلو المناورات بوسائل لا تخطر لنا على بال ..ليس على الحدود والتخوم فقط ، بل كذلك فى قلب الأرض الجريحة، والوطن المكلوم ... بينما نكون نحن نقيم حفلات توزيع الجوائز المليونية، والميداليات الذهبية على الفائزين من النّبغاء، من أمراء الشعراء، عن قصائدهم العصماء الرنّانة والطنّانة المفعمة بالغضب،والزّبد، والإدانة ... هؤلاء المنسيّون.. وقيّض الله لنا جولات مع الأعداء أعادت لنا بعض الإعتتبارفى كل مكان.. ! فإذا بالزّمام يفلت من بين أيدينا،واللجام ينزلق من بين أناملنا، ونفقد أو نفتقد رويّة المحارب المحنّك الذي ما زال أمامه أشواط وأشواط ، وننتفخ كالديكة الرّوميّة، أو البطّ الإفرنجي ،نوقوق وقوقة فارغة غثائية جفائية تجعل منّا سخريّة مرّة فى أعين الناس،كلّ الناس، وأضحوكة مزدرية لدى الآخرين ... إنّنا صادقون فى مسعانا ، وكان أعداؤنا أصدق منّا فى غيّهم لأنهم وجدوا فى ذلك فرصا مواتية لتحقيق أحلامهم، وبلوغ أهدافهم، ومآربهم، لتطبيق المزيد من من خططهم الجهنّمية لإبادة هؤلاء " المنسييّن" الذين يهمّهم الأمر أكثر من غيرهم، لأنّهم أصحاب الأرض التي قدّت منهم قدّا، والذين كادت قضيتهم أن تغدو نسيّة منسيّة لدى الكثيرين، حتى أصبحت تندرج من باب المجاملة، والمصانعة، والمحاباة،والتزلّف فى الفقرة الأخيرة من كلّ شكوى أو بيان ، أو إتفاق ، أو خطاب ..إلخ . أعداؤنا يعملون فى صمت ..ولكنّه صمت مدوّ ..فى براعة فائقة ، وما زالت أعمالهم ومناوراتهم تدغدغ عواطفنا ، وما فتئت أفلامهم تعرض بيننا وتسرّينا..إنّهم يعملون فى صمت ودهاء ... وما زال بعضنا يناقش صيغ الإدانة والإعتداءات ،وتجنّيات قد تطال مستقبلا أبناءنا العزّل الأبرياء الصّامدين ... !