من الآن، لا تنتظروا منّي مقالةً في شؤون العواطِفِ، فقد قرّرتُ بإرادةِ غيري أن أضع قلبي في ثلاّجةٍ مع الخضر والغلالِ واللحمِ الأحمٍرِ واللحمِ الأبيضِ المتوسِّطِ، وأُغلِقَ بابَها بإحكامٍ حتى لا يهرُبَ قلبي «وهو أكبرُ كائنٍ يُجيدُ الهَرَبَ وحَرْقَ أضواءِ المرورِ الحمراءِ». أعرِفُ أنّ فيكم مَنْ يتمنّى أن أكتُبَ شيئًا في السياسةِ العربيةِ وأحكي بلسانِه عن فسادِ بعضِها، وفيكم مَنْ يريدُ منّي أن أناقِشَ تصريحَ أدونيس بشأن احتضار الحضارةِ العربيةِ كأنْ أقول في ردٍّ سريعٍ عنه إنّ أدونيس بلغَ مرحلةً من النُّضجِ الفكريِّ التي صارَ فيها لا يعلَمُ أنّ الثابِتَ في الحضارةِ الإنسانيّةِ هو أنّها حضارةٌ واحدةٌ والمتحوِّلُ فيها هو الثقافاتُ، بل إنّي أسمع فيكم واحدًا ينعَتُني بالتخلّي عن مُهمّاتي التارخيّةِ في نقدِ بعضِ الظواهرِ الاجتماعيّة وحتى في انتقادِ الوقائع الفكريّة التي نعيشُ تجلِّياتِها المُرَّةَ فينا رغمًا عنّا لعلَّ أبرَزَها تفخيخُ بعضِ بني آدمَ حُريّةَ الرأيِ حتّى إذا وقع الكائن اللغويُّ في مَصيدَتِها تكالبتْ عليه السكاكينُ ويتوزّعُ دَمُه بين قبائلِ بني النضير وقُريظة وبني قينقاع.. ******** قلبي في ثلاّجةٍ، فلا خوفَ على الرِّجالِ منْ إمكانِ استدراجِ النساءِ إلى لغتي. فمنذ الآن، يمكنُ للصبايا أن يمرحنَ في الأرضِ ويَجْرينَ كالغزالاتِ طليقاتٍ دون رَهبةٍ من هجومٍ فُجئِيٍّ على عواطِفِهنَّ الرقيقةِ من قلبي الذي وضعتُه في الثلاّجةِ ورُحْتُ أتعلّمُ كيفَ أعيشُ دون قلبٍ وأتمرَّنُ، كلَّما مرّتْ أماميَ أُنثى، على الصّمْتِ أو الحديثِ عن ارتفاعِ عدد قتلى الوباءِ الخنزيريِّ الجديدِ. أنا الآن أتمرّنُ على عدمِ الإدلاءِ بأيِّ تصريحٍ حولَ الحُبِّ إلى وسائلِ الإعلامِ العالميّة، لأنّ قلبي بارِدٌ في الثلاّجةِ ولساني أخرَسُ عن قولِ العواطِفِ ومشتقّاتِها. والحقّ أقول، لقد تحسّنتْ أحوالي منذُ أن سجنتُ قلبي في الثلاّجة، إذْ قلَّ أعدائي، وتعطَّلَتْ فيَّ كلُّ قدراتي العقليّةِ المختصّةِ في تحليل الواقعِ وكشفِ المسكوتِ عنه فيه.. ********** أنا بالفِعلِ شُجاعٌ، فأنْ يضع الواحدُ قلبَه في ثلاّجةٍ ويتركُه يرتعدُ فيها من كثرةِ بُرودَتِها، ويذهبُ مطمئنَّ البالِ إلى عملِه، ويؤدّي واجِبَاتِه الوطنيَّةَ والقوميَّةَ والإنسانيَّةَ، ثمّ يتجوّل في الشوارعِ ويُلاقي بناتِ حوّاء وهنّ طريّاتُ الأجسادِ كالقُطْنِ ولا تتحرّكُ فيه عواطفه، فهذا أمرٌ خارِقٌ للمألوفِ البشريِّ ولن يتوصَّلَ إلى تحقيقِه العِلْمُ إلاّ في الألفيّة العاشرةِ..