قبل أن يقاطع أزيد من ثلثي المغاربة الانتخابات التشريعية الأخيرة , وقبل أن تتلقى دوائر القرار بالمغرب صدمة كبرى , تتمثل في العزوف عن المشاركة السياسية , والتي أظهرت بجلاء بأن هوة عميقة تفصل بين الخطاب الرسمي والواقع الشعبي . كان فؤادعالي الهمة قد استقال من منصبه في التاسع من غشت كوزير منتدب في الداخلية , وبمجرد إعلانه أياما قليلة بعدها عن تقديم نفسه كمرشح عن دائرة الرحامنة حتى بدت معالم أهدافه تتضح -فالرجل صاحب أجتدة مسبقة - . لم تحصل المفاجئة وتمكن الهمة من اكتساح دائرة الرحامنة بلائحته المستقلة والتي اختار لها رمز الجرار , هذا الجرار , سيأتي على الأخضر واليابس وسيسبب أزيزه إزعاجا كبيرا لباقي الأحزاب والنخب السياسية , والتي لم تكن لها الجرأة لوقف زحف هموي يبشر بعهد جديد ويقدم نقسه كمهدي منتظر ويروج لسياسة مخالفة لتلك التي سارت عليها الأحزاب -خاصة المشاركة في صنع القرار- . وزيادة على ذلك , فشلها في تعبئة الجماهير واستقطابها لمواجهة المد المتصاعد للإسلاميين , سواء الذبن يشتغلون في ظل المؤسسات كحزب العدالة والتنمية , أم الذين لا يؤمنون بها ويحاولون محوها لأنها في نظرهم متناقضة مع الثوابث المرجعية والهوياتية للوطن , والتي تعتبر جماعة العدل والإحسان أبرزها وأكثرها اشتغالا خارج أعراف اللعبة السياسية وإرباكا في ذات الوقت . لعب الهمة دور الإطفائي وكانت بصمة الجرار بادية أثناء تشكيل حكومة عباس الفاسي , فلم تكن لديها أغلبية مريحة , فالحركة الشعبية زج بها في المعارضة في آخر لحظات تشكيل الفريق الحكومي بسبب صراعات حزبية حول وزارات محددة كادت تؤدي إلى إعفاء عباس الفاسي من مهامه , وبالتالي , فإن الفريق البرلماني الذي شكله الهمة في مجلس النواب دخل على الخط وتم إقحام تكنوقراط محسوبين على الهمة في الحكومة , لتتمكن في النهاية من ضمان استمراريتها , وتظل كذلك , تحت رحمة فريق الهمة والذي بإمكانه أن يقلب الطاولة للإطاحة بحكومة لا تملك قرارها ويحرك الهمة خيوطها من خلال فريق الأصالة والمعاصرة . بعد تشكيل فريق الأصالة والمعاصرة والوصول إلى لجنة الخارجية والدفاع والشؤون الإسلامية بمجلس النواب ,والمشاركة الضمنية في الحكومة , أعلن فؤاد عالي الهمة رفقة بعض الحساسيات السياسية عن تأسيس حركة لكل الديموقراطيين ومعها أثيرت تساؤلات كتلك التي لازمت لحظة استقالته وتأكد الذبن كانوا لم يستوعبوا بعد مرامي الهمة بأن الأمر يتعلق بمشروع سياسي كبير . الغموض ! إنها سياسة فؤاد عالي الهمة , لم يفصح الرجل يوما عما ينوي فعله, وكانت نواياه دائما محط تشكيك من قبل المتتبعين , ومع ذلك يظل دائما رجل المفاجآت المتوقعة .فالسابق يبلغ باللاحق , واللاحق هذه المرة وصول الحركة إلى محطة الحزب السياسي فقياديين منها إلى جانب زعماء خمسة أحزاب سياسية تنتمي إلى فريق الأصالة والمعاصرة أعلنوا في اجتماع لهم عن قرار حل هيئاتهم السياسية بغية تشكيل حزب سياسي جديد ويتعلق الأمر بكل من ( الحزب الوطني الديموقراطي , حزب رابطة الحريات , حزب العهد , حزب المبادرة والمواطنة , حزب البيئة والتنمية ) . كانت جل اللقاءات التي دأبت الحركة على عقدها منذ الإعلان عن تأسيسها بعدد من المدن المغربية تشير إلى حتمية تأسيس حزب سياسي بالرغم من أن الحركة كانت قد نفت سابقا فرضية تأسيس ذراع سياسي لها لبلورة تصوراتها وتجسيدها على أرض الواقع , بعدما تقرر تأسيس ذراع إعلامي للترويج للحركة ولقيمها والذي أعلن عنه مؤخرا من قبل بعض رجال الأعمال ومن ضمنهم عزيز أخنوش ومصطفى الباكوري, وهم قياديين بارزين في حركة لكل الديموقراطيين . تحركات الهمة تشوبها شبهة الداخلية والقصر , فالرجل يتمتع بعلاقات نافذة مع دوائر القرار بسبب المنصب الحساس السابق في وزارة الداخلية "أم الوزارات " وصداقته مع الملك محمد السادس .وهذا ما يفسر تهافث نواب برلمانيين واقتصاديين وفاعلين سياسيين على الهمة ومسارعتهم إلى الانخراط في مبادراته وتحركاته, وما النجاح الذي لقيته الحركة على الصعيد الرسمي إلا نتيجة لمنصب الرجل وصداقته مع الملك .إنه صديق الملك ! مهما كان الوضع فإن التذرع بإعادة بعث الجسد السياسي المغربي وضخ دماء جديدة فيه يبقي غامضا ويبين أن الدولة والنظام المغربي لم يصلا بعد إلى مستوى خلق عمل سياسي نبيل , دون إغفال أن الوضعية السياسية المأزومة وانهيار الأحزاب الجادة كان في جزء منه نتيجة لمسلسل طويل من محاولات التضييق والخنق والاحتواء ... وكان على العاهل محمد السادس أن لا يدفع صديقه إلى القيام بلعبة سياسية خطيرة ستكون آخر مسمار يدق في نعش الأحزاب المغربية , وكيفما كانت ملاحظاتنا وانتقاداتنا للأحزاب, لزيغها عن مسار الفعل السياسي الجاد والمسؤول فإن محاولات الإصلاح يفترض أن تنطلق من المعنيين بالأمر, وأن تكون مهمة دوائر القرار إطلاق حوار سياسي شامل من طرف جل الفاعلين المستقلين مع تخليق المجال السياسي وتفعيل آليات المراقبة والمحاسبة والتمهيد لإصلاح دستوري عميق يعطي للأحزاب أكبر هامش من الحرية والخلق والتسيير والتأطير ... أما الزعم بأن الحركة الحالية تروم الإصلاح وتطعيم المشهد المغربي بقيم جديدة فذلك مجرد در للرماد في العيون ,لأن الحركة لم تأتي بأية قيمة مضافة , فالهمة يرى بأن المطالبة بتعديل دستوري وتقليص سلطات الملك يعتبر مطلبا متأخرا , ومشروع حركته هو مشروع جلالة الملك , أليس هذا ما يروج حاليا , برلمان صاحب الجلالة , حكومة صاحب الجلالة ...والبقة تعرفونها ! [email protected] ""