بيير فريموران، أستاذ جامعي فرنسي، سبق له أن درس في المغرب لمدة سبع سنوات. صدرت له خمسة كتب عن المغرب، وهو بهذا يعد أحد الأسماء المنشغلة بمستقبل وتطور الحياة السياسية المغربية. من كتبه التي نالت قراءات متعددة، «المغرب في طور الانتقال»، الصادر في سنة 2001 و«تاريخ المغرب منذ الاستقلال».. هو، إلى ذلك استاذ محاضر بجامعة السوربون، وعضو مركز الدراسات الافريقية، كتب عن الانتقال الديموقراطي في المغرب، واهتم بتفاعلات بلادنا. في كتابه الاخير، الصادر في يونيو 2009، حول الانتقال الديموقراطي غير المكتمل في المغرب، زاوية للمعالجة تستحق الاهتمام، وإن كانت لا تعني بالضرورة الاعتماد الكلي أو الانخراط الكلي من القارىء المغربي، وخصوصا إذا كان فاعلا سياسيا أو اعلاميا أو ما شابه. على مستوى الانتخابات، حقق العهد الجديد قطيعة واضحة مع حكم الحسن الثاني، وبرغبة صريحة من الملك، أصبحت الانتخابات تجري في موعدها. وهكذا أجرت انتخابات تشريعية في شتنبر 2002، وفي شتنبر 2007، ولم تختف تماما يد الداخلية التي كانت «تصنع الاقتراع» في عهد البصري، ولكنها التزمت الحياد.. وفي زمن التكنولوجيات الحديثة ومجتمع الاعلام أصبح التزوير الانتخابي (توزيع الاموال أو منافع مادية عند الخروج من صناديق الاقتراع) أمرا محفوفا بالمخاطر، بل أسلوبا غير نافع. في سنة 2007 ولأول مرة تم السماح لمراقبين محليين ودوليين بزيارة مكاتب التصويت. ونددت عدة منظمات أجنبية ووطنية بشراء الاصوات من طرف الاعيان ومن بعض الأحزاب السياسية نفسها. وفوز «الأحزاب الإدارية» في المناطق القروية النائية، حيث التصويت يبقى مؤطرا بعيدا عن أعين المراقبين، يبدو في بعض الاحيان محيرا، لكن ضعف المشاركة يشير الى أن الادارة، لاسيما في المناطق القروية، توقفت عن إجبار المواطنين على الذهاب للتصويت بكثافة. ولكن سيكون من المجازفة التأكيد بأن الدولة لم تعد توجه مجرى الحياة السياسية، فإدارة الداخلية ترسم الدوائر الانتخابية، وفي بلد يشهد نموا ديمغرافيا كبيرا لساكنة المدن، باستطاعتها إعادة تقسيم وتشكيل الدوائر، وحول المدن الكبرى والتجمعات السكنية المتوسطة، يسجل المراقبون الخبرة والاحترافية في صنع دوائر انتخابية ذات هندسة حدودية وسوسيولوجيا متعددة. فالدارالبيضاء الكبرى مثلا التي تضم %12,35 من المسجلين في اللوائح الانتخابية سنة 2007 (1.91 مليون ناخب) لم تنتخب سوى %7.8 من النواب (23 مقعدا). كما أن الإدارة بتركها اليسار يتجزأ الى حوالي 10 منظمات متنافسة، بل وبمتابعة هذا التشرذم كما كان يحب ادريس البصري الإبداع فيه. فإنها تنسف ريادة الاتحاد الاشتراكي وزعامته لليسار. والإدارة شجعت منذ وقت بعيد تفتيت الحياة السياسية الحزبية تاركة المنافسة في 2002 و2007 بين 35 تشكيلا سياسيا جزء مهم منها يتحكم فيه رجال قريبون من القصر، والنتيجة تفتت الخريطة السياسية، بحيث أن أحزاب الأولى من حيث عدد الاصوات والمقاعد لم تتجاوز %12 من الاصوات ،لكون النظام الانتخابي ينبني على التمثيل الفني. الداخلية تحدد أيضا حدود الهيئة الناخبة، ورغم وعود 2006 اتخذ قرار بعدم مشاركة المغاربة القاطنين بالخارج (حوالي %15 من السكان) بسبب مخاوف سياسية غير متحكم فيها، سمح لها بالتصويت في المغرب، ولكن ما بين عطلة الصيف ورمضان كان احتمال تحمل عناء التنقل الى المغرب من أجل التصويت ضئيلا جدا. في نفس السنة قرر الملك إحداث مجلس للجالية المغربية بالخارج بهدف التحضير لمشاركتهم سنة 2012، وأخيرا لم تتردد الداخلية في تسجيل أزيد من مليوني ناخب جديد في اللوائح الانتخابية... ونظمت الإدارة حملة إعلامية واسعة لتشجيع المغاربة على التوجه الى صناديق الاقتراع، سنة 2002 نظمت حملة واسعة تحت شعار مستقبلنا بين أيدينا. وفي أعقاب تفجيرات 2003 ظهرت جمعية 2007 دابا، لتحسيس المغاربة واستنهاض المجتمع المدني من أجل المشاركة، لكن كل ذلك لم ينجح في تعبئة أكثر من ثلث الناخبين. ومن الواضح كذلك أن معالجة الأحزاب السياسية وزعمائها من طرف وسائل الإعلام العمومية غير متكافئة، والتجمعات الانتخابية ومختلف التظاهرات السياسية تخضع لترخيص إداري، صحيح ان تقدما ملموسا وقع خلال 20 سنة الاخيرة، لكن الإدارة ماتزال تبدي رغبة خاصة في التحكم والسرية ولازالت النتائج النهائية الرسمية لكل دائرة خلال انتخابات 2002 غير معروفة حتى الآن... ولكن إذا كانت الإدارة بعيدة جسديا عن مكاتب التصويت، وإذا كانت تطارد بعض المفسدين (إعادة الانتخابات في أربع دوائر انتخابية ملغاة في شتنبر 2008) فإن التجاوزات لم تختف تماما. بالإضافة الى ممارسات غير قانونية عديدة أخرى رصدتها الأحزاب والمنظمات غير الحكومية سنتي 2002 و2007، فإن ممارسات العنف التي كانت تصل الى حد القتل قد تقلصت... في سنة 2002 تعهد الوزير الاول باتفاق مع الملك على إرساء اقتراع نسبي للائحة لمنع الفساد الانتخابي وأساليب العنف. وهكذا في المدن الكبرى يتم انتخاب جزء من النواب بالاقتراع النسبي. وتواصل هذا الاتجاه بتخصيص %10 من المقاعد للنساء يتنافسن في لوائح وطنية. كل هذه الاحتياطات السياسية الحقيقية المصحوبة بابتعاد إداري نسبي أدت الى مشاركة انتخابية ضعيفة تترجم ضعف ثقة المواطنين في النظام السياسي، وتظهر أن الشكلانية الانتخابية ليست سوى مرحلة عن طريق مشاركة سياسية حقيقية. الابتعاد المزمن للشباب عن السياسة الابتعاد عن السياسة أو بالأحرى عدم الاهتمام بالحياة السياسية لدى المغاربة وخاصة الشباب أكدته عدة استطلاعات للرأي والدراسات الذي أعطته محتوى. دراسة أولى همت قيم المغاربة تضمنها تقرير الخمسينية أظهرت أن %56 من المستطلعة آراؤهم أكدوا أنهم يريدون الهجرة الى الخارج، ولو أن غالبيتهم لا يتجاوز النية، لكن ذلك مؤشر مهم عن ابتعاد جماعي. وهذه النسبة أكبر لدى الشباب (أزيد من %75) كما أظهرت ذلك استطلاعات للرأي أجريت في بداية سنوات 2000. وانطلاقا من هذه المعطيات فإن الالتزام السياسي يبقى ضعيفا. فإذا كان %10 يريدون الانخراط في حزب سياسي، فإنهم أقلية قليلة أقدموا على ذلك (%3). كما أنه حسب تقرير الخمسينية، مغربي واحد من أصل اثنين لا يميز بين اليمين واليسار وثلثي المستجوبين يؤكدون عدم القدرة على التمييز بين هذا الاتجاه أو ذاك، وبالنسبة للمغاربة «الاخلاق» تتفوق على الانتماء الحزبي. وبالنسبة ل %91 من المستجوبين، الشيء الوحيد الذي يجب أن يتوفر في الشخص الذي يمارس السياسة هو الجدية والنزاهة والمعقول، وهذا يؤكد أولوية البعد الأخلاقي. المقلق أكثر لدى الشباب ولاسيما لدى المتعلمين هو ان عدم الاهتمام بالشأن العام يصل مستويات قياسية، على التوالي %68 و%81 حسب تقرير الخمسينية. ولذلك فإنه من الطبيعي ان تتدنى الرغبة في المشاركة في الانتخابات منذ 2002 كما أكد ذلك استطلاع أنجز لحساب جمعية «2007 دابا» هذا الاستطلاع الذي أنجز في يوليوز 2007 لدى عينة تمثيلية من 1200 شخص تزكي وتؤكد استنتاجات تقرير الخمسينية، حيث ان %73 من المستجوبين أكدوا أنهم لا يهتمون تماما أو يهتمون قليلا بالساحة السياسية الوطنية، و%74 أكدوا أنهم لا ينوون أبدا الانخراط في حزب سياسي إذا ما طلب منهم ذلك، ولدى الشباب لم تكن النتائج مشجعة %66 من الفئة ما بين 24/18 سنة و%61 من الفئة العمرية ما بين 29/25 سنة. أعلنوا أنهم ينوون التسجيل في اللوائح الانتخابية لانتخابات 2007. ومع ذلك فإن%40 من الفئة الاولى و%44 من الثانية انتخابات 2007 مهمة جدا وأكد %90 من الفئة (29/18 سنة) أن مكافحة البطالة وتحسين النظام الصحي (%58 يجب أن تكون أولى أولويات تعهدات الأحزاب. دراسة تقرير الخمسينية كشف عن مفارقة كبيرة: %38 من المستجوبين أعلنوا أنهم غير قادرين على الحكم على الديمقراطية المغربية سلبا أو إيجابا وفقدان الثقة في مستقبل المغرب كانت كبيرة لدى الشباب %48 مقابل %28 لدى الآخرين). فهل هذا يعني أن النقض السياسي عوضه الانخراط الجمعوي؟ فإذا كان %41 من المغاربة أعلنوا أنهم يريدون الدفاع عن حقوقهم داخل جمعيات للتنمية و%36 داخل تعاونيات (لاسيما في البوادي)، فإن استطلاعات جمعية 2007 دابا يعيد هذه النظرة: %1,05 من المستجوبين هم أعضاء في جمعيات للأحياء، %1 في جمعيات خيرية، و%1 في نقابات أو جمعيات مهنية كما لو أن الفردانية، وأيضا الانطواء العائلي، يملآن المجال الاجتماعي. صحيح أن %56 من المغاربة يتابعون الاخبار العالمية عبر التلفزة وخاصة الشؤون المتعلقة بالشرق الأوسط، ولكن هذه النسبة أقل في صفوف الشباب وحاملي الشواهد (تقرير الخمسينية)، وهيمنة الإحساس الديني يمكن أن يفسر ذلك، وأيضا ضعف الالتزام السياسي والجمعوي، وذلك أن %66 من المغاربة يعتقدون أن الاسلام هو الحل لكل المشاكل (مقابل %5,8 يعتقدون العكس) و%20.9 لا يعرفون. والنسبة ليست أقل لدى الشريحة العمومية (29/18 سنة)، %63.1 مقابل %9,6 صحيح أنهم فقط %28,9 يعتقدون أن الدين يجب أن يقود الحياة السياسية. و%24.9 يعتقدون أن هناك خطرا عندما يتدخل الدين في السياسة بينما 44,8 لا يعرفون الجواب. ولكن إذا كان %32 يعتقدون أن خطبة الجمعة يجب أن تتطرق للسياسة، فإن %47,6 قالوا إنهم ضد الأحزاب التي تقدم نفسها كأحزاب دينية. وأخيرا أعلن %25,1 من الفئة العمرية 24/18 سنة أنهم يؤيدون الجهاد مقابل %32.9 يعارضون ذلك، وهو أمر لا يشجع على الاعتدال السياسي. هذه الاستطلاعات كانت كمؤشر على نتائج الانتخابات التشريعية 2007، صحيح أن المغرب بنسبة مشاركة بلغت %37 (مقابل %52 سنة 2002)،كان أفضل من الجزائر أو سوريا (على التوالي 35%و10% في انتخابات 2007 )ولكن التحليل المعمق للأرقام يوضح ان هذه الارقام خادعة. فالتسجيل في اللوائح الانتخابية كان أقل من المتوقع (1,5 مسجل جديد بدل 3 ملايين متوقعة). %20 من البالغين سن التصويت لم يسحبوا بطائقهم الانتخابية (أي حوالي 4 ملايين ناخب) و3 ملايين مغربي مقيم بالخارج كانت مشاركتهم ضعيفة. وأخيرا %19 كان تصويتهم لاغيا أو أبيض، وفي المحصلة لم يصوت أكثر من ناخب واحد محتمل من أصل أربعة، والمصوتون كانوا أقل بالمقارنة مع 2002 رغم توسيع دائرة الناخبين. وكانت الفئة الحضرية والأكثر تعلما في المجتمع المغربي هي الأكثر امتناعا عن التصويت. ونسبة المشاركة في المناطق القريبة بلغت %43. ولكنها لم تتجاوز %23 في الدوائر الانتخابية الحضرية. وهذه الوضعية بلغت أوجها في البلديات التي يعتقد تجدر الاسلاميين فيها: طنجة (%22 ثلثها تصويت ملغى) الدارالبيضاء الكبرى (%27 منها %28 ملغاة) فاس (%27 منها %27 ملغاة)... هذه الانتخابات أكدت أن النظام السياسي والأحزاب السياسية الكبرى تآكلت مصداقيتها، كما أن عدم المشاركة والأصوات الملغاة يؤكد أن أغلبية المغاربة لا تساورهم الأوهام بخصوص النظام التمثيلي القائم. وتبقى الفرضية التي يشتغل عليها المهتمون تتمثل في ضرورة وجود فاعلين سياسيين يتمتعون بالمصداقية وينتخبون على أساس برنامج محدد ويمكن محاسبتهم بناء على مدى تنفيذه.