مازالت تفاعلات الأحداث المتسارعة التي خلفها قرار الحكومة الإسبانية باستضافة زعيم جبهة البوليساريو لتلقي العلاج بأحد مستشفياتها تحتاج إلى تأمل وتحليل ينئ نسبيا عن العصبية والانفعالية. الحدث شكل محكا جديدا للديبلوماسية المغربية في صراعها المتواصل للدفاع عن قضية الوحدة الترابية مع أطراف ودول ومنظمات دولية مناوئة. خلال العقدين الماضين اتسمت السياسة الخارجية المغربية بالرزانة والتأني في اتخاد القرارات وبخطابها الهادئ وعباراتها المنتقاة بالرغم من التوجه الحازم لخلق دينامية جديدة لحلحلة المواقف الجامدة للعديد من الدول تجاه بسط السيادة المغربية على المناطق الجنوبية المسترجعة. وإذا كانت السياسات الخارجية للدول عموما تعكس قوتها الاقتصادية وثقلها الدولي وصلابة علاقاتها الخارجية، فإنها أيضا تتأثر بالعوامل السياسية الداخلية والتحولات الاقتصادية والمواقف الدولية المتغيرة. وقد استطاع المغرب أن يحدث تراكما إيجابيا في مواجهة خصوم وحدته الترابية والخروج من حالة الجمود والاستنزاف للجهد والوقت التي طبعت العقود الماضية، فكان مشروع الحكم الذاتي الموسع الذي اقترحه المغرب في 2007 بداية مرحلة جديدة وبادرة حسنة لتجاوز مأزق الاستفتاء، ثم أتى بعد ذلك دستور 2011 الذي نص على تعديلات عديدة تمس جوهر الممارسة السياسية وبناء أسس الجهوية المتقدمة. وكرس المغرب توجهه القوي لكسب المزيد من التأييد للقضية الوطنية من خلال استعادة موقعه في منظمة الاتحاد الإفريقي حيث حضر الملك محمد السادس القمة الثامنة والعشرين في يناير 2017 وألقى خطابا قويا توج به مسارا من العمل المتواصل وجولات وزيارات عمل لعدد من الدول الإفريقية عقدت فيها اتفاقيات وشراكات اقتصادية واستثمارية مهمة. كما انخرط المغرب في سلسلة مفاوضات قادها المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة هورست كولر في 2018 و2019 وقبله كريستوفر روس دون أن يسفر ذلك عن نتائج تذكر. واستطاعت الديبلوماسية المغربية إحراز طفرة قوية في تكريس السيادة الوطنية على أقاليمه الجنوبية تمثلت في قرار العديد من الدول سحب اعترافها بجبهة البوليساريو وقيام دول أخرى إفريقية وعربية بتدشين قنصليات لها في العيون والداخلة. في مقابل هذه الإنجازات، استمر تراجع النفوذ الجزائري الخارجي وانحسار تأثيره في المنتظم الإفريقي، ونشأ حراك شعبي قوي يطالب ببناء دولة مدنية وتوقف المؤسسة العسكرية عن التحكم في الحياة السياسية، وهي مطالب لم تتحقق بعد لتمسك الجنرالات الجزائريين بدواليب القرار السياسي والاقتصادي. وظهر جليا تخبط السياسة الخارجية الجزائرية ولجوء الساسة إلى خطابات انفعالية عدوانية تهاجم المؤسسات الأمنية ونظام الحكم في المغرب بل والاستعانة ببعض المنابر الإعلامية المحلية والدولية للنيل من صورة المغرب. ثم قامت مليشيات البوليساريو في أكتوبر 2020 بإرسال بعض الموالين لها لاحتلال شريط حدودي في منطقة الكركرات ومنع مرور الشاحنات والأفراد لمدة تزيد عن ثلاث أسابيع مما اضطر القوات المسلحة الملكية إلى قيام بعملية نوعية تم خلالها طرد العناصر التابعة لجبهة البوليساريو من الشريط الحدودي وتأمين الحركة التجارية بين المغرب وموريتانيا وباقي الساحل الإفريقي. وشكلت هذه العملية ضربة قاصمة لأحلام البوليساريو بتغيير الوقائع على الأرض، وانكشف بطلان تهديداتها المتواصلة للمنتظم الدولي بالعودة إلى حمل السلاح وإشعال حرب جديدة دون أن تكون لها القدرة على المناورة العسكرية. مما لا شك فيه أن الطرف الإسباني المعني مباشرة بهذه التحولات المتسارعة والمدرك تماما لتصاعد الدور المغربي في الفضاء الإفريقي والعربي والدولي لم يكن ينظر بعين الرضا لهذه المكاسب التي حققها المغرب في قضية الصحراء المغربية وإن لم يعبر عنها صراحة، كما لم ترقه الإجراءات التي اتخذها المغرب المتعلقة بترسيم حدوده البحرية وغلق المنافذ الحدودية مع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين بشكل نهائي. لكن الاعتراف الأمريكي الرسمي بمغربية الصحراء شكل تحولا لافتا في التعاطي الاسباني مع التوجه المغربي لتأكيد سيادته الوطنية على الصحراء، وكشف النوايا الراسخة للساسة الإسبان في إبقاء قضية الصحراء وسيلة لابتزاز المغرب تحت مختلف الذرائع الحقوقية والقانونية والاقتصادية ومطية لانتزاع امتيازات في عدد من الملفات. وكان تصريح وزيرة الخارجية الإسبانية في منتصف دجنبر الماضي بأن الحل لقضية النزاع المفتعل حول الصحراء لا يعتمد على موقف دولة معينة وحتى إن كانت بحجم الولاياتالمتحدة مؤشرا واضحا للتعنت الرسمي الإسباني فيما يخص هذه القضية المصيرية. تأتي إذن نازلة استقبال إبراهيم غالي بهوية ووثائق رسمية جزائرية مزيفة والتستر عليه من طرف الأجهزة الإسبانية بمبررات الظروف الصحية وهو المتهم في عدد من القضايا الخطيرة من طرف مواطنين حاملين الجنسية الإسبانية لتزيد من توتر العلاقات بين البلدين. لم تبادر الحكومة الإسبانية لاحتواء الأمر واعتقدت أن المغرب سيبدي تسامحا في قضية استضافة غالي. ومن جهته تعامل المغرب مع هذه النازلة باعتبارها مناسبة أخرى لاختبار السلطة الحاكمة في إسبانيا وتمرير رسالة مفادها أن المغرب اليوم يأخذ بجدية وبحساسية بالغة المواقف الملتبسة للحكومة الإسبانية فيما يتعلق بوحدته الترابية وهو موقف متشدد تبناه قبل ذلك تجاه دول أوروبية مثل السويد وهولندا وألمانيا ينطلق من الإجماع الوطني حول هذه القضية ومن الموقع الجديد الذي اكتسبه المغرب في علاقاته الخارجية. والأكيد أن نزوح الآلاف من المغاربة والأفارقة نحو الثغر المحتل سبتة كان إشارة واضحة لقدرة المغرب على خلط الأوراق وخلق واقع جديد في المديتين وإلحاق الضرر بالمصالح الإسبانية. وكان لذلك النزوح انعكاسات سلبية استطاع الإعلام الإسباني تسويقها ورسم صورة مأساوية عن حالة الفقر واليأس الذي يتخبط فيها المغاربة. وقد انبرت العديد من الأصوات المتطرفة من اليمين واليسار الاسباني للتحدث عما ادعت أنه ابتزاز تعرضت له اسبانيا في ملف الهجرة الغير الشرعية. ورغم أن اجتياح الألاف من المهاجريين الغير الشرعيين شكل صدمة قوية للمغاربة قاطبة خصوصا حينما تناولت وسائل الإعلام الدولي بشكل سلبي ومبالغ فيه الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المغرب، إلا أن المكاسب السياسية التي أفرزتها هذه المغامرة ليست بالهينة. لقد اتضح للساسة الإسبان وللأوروبيين جميعا الكلفة التي تنتج عن توقف المغرب عن التعاون في ملفات الهجرة والأمن، كما بعث برسالة قوية أن المغرب لن يتسامح مع أي تواطئ مع خصومه في الجزائر وتندوف من أي طرف ولو كان شريكا أساسيا مثل إسبانيا حينما يتعلق الأمر بمصالحه العليا. غادر غالي الديار الإسبانية في جنح الليل بعد أن أصبح ضيفا غير مرغوب فيه شغلت هويته المزيفة والدعاوي الجنائية المرفوعة ضده وسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية كما شكل تستر الحكومة الإسبانية على هويته فضيحة سياسية وإحراجا شديدا للجهاز القضائي الإسباني. وكان وقع هذه التطورات أشد على البوليساريو والجزائر. فقد انتهى عمليا مسار غالي السياسي، إذ كيف يستطيع مطلوب للعدالة أن يتحدث بصفة المظلومية أو أن يرافع عما يدعى أنها قضية عادلة وقد تلطخت سمعته في المحافل الدولية؟ أما الجزائر فقد تكشف للعالم دورها في إطالة هذا الصراع حول الصحراء المغربية واستغلالها لقضية اللاجئين الصحراويين والمتاجرة بمآسيهم لمعاكسة المصالح المغربية. فالزيارة الفجة التي قام بها الرئيس تبون ورئيس أركانه شنقريحة لغالي غداة وصوله إلى مستشفى عسكري بالعاصمة الجزائرية عكس درجة عالية من الإحباط والغضب. لقد استطاع المغرب تحقيق أكبر قدر من الضغط السياسي تجاه شريكه الإسباني المشاكس لا شك أن ثماره ستظهر في المستقبل القريب. كما استطاع أن يحشر خصوم وحدته الترابية في الزاوية الضيقة. لكن في المقابل، شكلت صور ومشاهد لنزوح الجماعي نحو سبتة المنقولة في الإعلام خدشا كبيرا للشعور الوطني لدى المغاربة وعلامة صارخة على إخفاق السياسات الحكومية المتبعة فيما يخص التشغيل والتعليم والصحة والتضامن الاجتماعي كما عكست فشل دور الإعلام والمؤسسات التربوية والثقافية في تنمية روح المواطنة والعمل التضامني. ومن المفارقة أن صور الأطفال والشباب المغاربة في الشاشات الدولية وهم يعنفون من طرف أفراد الجيش الإسباني تزامنت مع صور لشباب وأطفال ونساء غزة صامدون تحت وابل من القنابل الإسرائيلية. على الأحزاب اليوم وهي تستعد لإطلاق حملاتها الانتخابية وعرض برامجها السياسية استحضار هذه الصور المشينة والعمل على بناء تصورات سياسية طموحة تتقاطع وتتماهى مع مشروع النموذج التنموي الجديد لتجاوز الاختلالات العميقة وبناء دولة قوية ومجتمع متماسك ومتصالح مع ذاته يجد فيه كل مغربي ومغربية فرصة للعيش الكريم. أستاذ جامعي