يعرف كل من يهتم بالعلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا أن البلدين محكومان بالتفاهم من أجل تجاوز الخلافات والصراعات المورثة منذ قرون بحكم الجغرافية، لكن لم يسبق في العقود الأخيرة أن تزامن انفجار النقاط الخلافية بينهما كما يحدث اليوم، إذ يتزامن التصعيد الحاصل بين الرباط وحكام سبتة ومليلية مع الصراع المعلن حول “الكنز الأطلسي” قبالة السواحل المغربية الجنوبية، بعد إتمام المغرب إجراءات ترسيم حدوده البحرية، ومع استغلال جبهة البوليساريو وصول حليف حزب “بوديموس” إلى الحكم بإسبانيا مع الحزب الاشتراكي لاستفزاز الرباط. المغرب يستفسر وإسبانيا توضح في الحين بدأ التوجس المغربي من وصول حزب بوديموس، القريب من جبهة البوليساريو، يُترجم على أرض الواقع، إذ أن السلطات المغربية لم تكن راضية عن اللقاء الذي جمع يوم الجمعة الماضي بمدريد بين القيادي في حزب بوديموس ناتشو آلفاريث، كاتب الدولة في الشؤون الاجتماعية، وهي أعلى هيئة في وزارة الشؤون الاجتماعية وأجندة 2030، التي يترأسها زعيم بوديموس بابلو إغليسياس، ومن تسمى وزيرة الشؤون الاجتماعية للبوليساريو، أسويلمة بيروك. محاولة جبهة البوليساريو توظيف اللقاء سياسيا ودبلوماسيا واعتباره استقبالا حكوميا للوفد الانفصالي، دفع الحكومة المغربية على لسان وزير الخارجية والتعاون الإفريقي، ناصر بوريطة، إلى طلب توضيح من قبل نظيرتها الإسبانية، وهو التوضيح الذي جاء سريعا يوم السبت الماضي، حيث شرحت وزيرة الخارجية الإسبانية، آرانتشا غونثاليث لايا، قائلة: “(بخصوص) اتصال نظيري المغربي حول محادثة كاتب الدولة في الشؤون الاجتماعية مع ممثلة البوليساريو، أوضحتُ، أولا، أن المقالات المنشورة لا تعكس موقف الحكومة الإسبانية؛ ثانيا، موقف الحكومة الإسبانية من الصحراء الغربية لم يتغير؛ إنها قضية دولة؛ ثالثا، إسبانيا لا تعترف بالبوليساريو؛ رابعا، ندعم جهود الأمين العام للأمم المتحدة من أجل إيجاد حل سلمي في إطار قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”. وكان وفد البوليساريو نقل عن كاتبة الدولة الإسبانية في الشؤون الاجتماعية “أنهم يتضامنون مع الشعب الصحراوي”، لكن لم يؤكد هل يتعلق الأمر بموقف الحكومة الإسبانية أو بوديموس. لكن المرجح هو أن كاتب الدولة عبر عن موقف بوديموس المعروف والداعم لجبهة البوليساريو. يشار إلى أن الاتفاق المبدئي الموقع بين الحزب الاشتراكي وحزب بوديموس، التزم بموجبه بابلو إغليسياس بعدم التدخل في السياسة الخارجية الإسبانية. صحيفة “إلإسبانيول” زعمت أن القرارات الأخيرة التي اتخذها المغرب، والتي لا تخدم المصالح الإسبانية، جاءت كرد فعل على الحزب الاشتراكي وحزب بوديموس الحاكمين بعد انخراطهما في تأسيس “مجموعة أصدقاء الصحراء الغربية في البرلمان الأوروبي”، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية يوم 24 دجنبر الماضي. ورغم أن مجموعة من القرارات اتخذها المغرب قبل هذا التاريخ – إغلاق معبر بني أنصار في غشت 2018، وباب سبتة الثاني في أكتوبر 2019، وبدء إجراءات المصادقة على قانوني ترسيم لحدود البحرية قبل 24 دجنبر الماضي- إلا أن المصدر ذاته يرى أن المغرب لم يفهم كيف تترأس النائبة الأوروبية عن الحزب الاشتراكي، إراتسكي غارسيا، هذه المجموعة. وتابع المصدر ذاته أن هذه المجموعة تضم 120 نائبا من أصل 705 نائب في البرلمان الأوروبي. ورغم أن الرقم غير كبير، إلا أن المصدر قال إنه إذا كان لم ينتبه إلى هذا الحدث في مدريد، فإنه لن يمر مرور الكرام بالرباط. المغرب يصدم الإسبان ويستنفر حاكم مليلية بعد شهور من الصمت الرسمي المغربي حيال ما يجري في المعابر الحدودية بين الداخل المغربي والمدينتين المحتلتين سبتة ومليلية مقابل الوعيد وتصعيد حكام الثغرين؛ أماطت السلطات المغربية، رسميا، اللثام عن المخطط الجديد الذي باشرته في الحدود من الثغرين منذ غشت 2018، والذي لازال قيد التنزيل، بحيث يهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على كل أنواع التهريب المعيشي أو الاقتصاد غير المهيكل الآتي من الثغرين، والذي يستنزف الاقتصاد الوطني، ويضر دافعي الضرائب المغاربة، علاوة على صور الاستعباد التي تواكب التهريب على الظهر والتي تسيء إلى صورة المغرب. تأكيد السلطات المغربية عزمها عن نقل معركة محاربة التهريب المعيشي في الأيام المقبلة إلى مليلية بعد سبتة، استنفر الحاكمين في مليلية. ويبدو من خلال التطورات الأخيرة أن المغرب لا يتعامل مع أزمة المعابر الحدود البرية مع سبتة ومليلية كقضية دبلوماسية أو حكومية، بل موضعا يهمُ ويخُصُ إدارة الجمارك المغربية، بحيث أسند مهمة إبلاغ وشرح المقاربة المغربية الجديدة إلى نبيل لخضر، رئيس الجمارك المغربية، بدل وزارة الداخلية أو الخارجية، وعبر وكالة الأنباء الإسبانية إيفي. نبيل أوضح في حوار جديد مع “إيفي” أنه لا رجعة عن قرار منع التهريب المعيشي، إلا في حالة أُمِرَ بشرعنة التهريب المعيشي. وقال إن الهدف هو تحويل المعابر الحدودية مع سبتة ومليلية إلى معابر شبيهة ب”المطارات”، حيث الأنشطة التجارية تكون خفيفة جدا، إذ يكون مسموحا لكل مسافر إدخال وإخراج الأغراض الشخصية المرخص والمسموح بها قانونيا. وفي الوقت الذي يحاول فيه حكام سبتة ومليلية تأجيج وتضخيم القرار السيادي للمغرب بالحديث عن “حصار” وخنق” و”إغراق” المدينتين من قبل الجار الجنوب، وهي العبارات التي ترددها بعض وسائل الإعلام المغربية، أكد لخضر أن الأمر يتعلق ب”إجراءات” فقط تطبق منذ أكتوبر المنصرم على التهريب المعيشي الآتي من سبتة. ورغم ذلك، يعترف المسؤول المغربي بأن المدينتين واقتصادهما “قد يعانيان”. وبرر المسؤول المغربي منع التهريب المعيشي ودخول وخروج السلع غير الموجهة للاستهلاك الشخصي من سبتة، ومستقبلا مليلية، بكون تلك المعابر “ليست حدودا”، و”ليست ولم تكن أصلا معابر تجارية، بل مخصصة لتنقل المسافرين”، في إشارة واضحة إلى أن المغرب متشبث بأن الثغرين محتلان من قبل إسبانيا. لهذا يعتقد أن تلك المعابر يجب أن تصبح مثل “المطارات”، حيث يُسمح فقط بنقل ما يناسب الاستهلاك الشخصي فقط. في نفس السياق، يظهر أن حكومتي البلدين تحاولان تجاوز كل ما يمكن أن يشوش على العلاقات الثنائية الممتازة بينهما منذ يونيو 2018، بحيث لم يتطرقا نهائيا إلى التصعيد الحاصل في حدود سبتة ومليلية، وفضلا تصريف مواقفهما عبر القطاعات المعنية. ويبدو أن نبيل لخضر حصل على الضوء الأخضر لشرح الموقف الجديد، رغم نفيه أي تنسيق مع الدبلوماسية المغربية. في هذا قال إن القرار المغربي “لا يحمل أي نية سياسية”، كما أنه لم يكن هناك أي تنسيق مع الدبلوماسية المغربية، رغم أنها “أُخبرت” بهذه الإجراءات التي تتطابق مع القانون والنظام الجاري بهما العمل. وأقر لخضر أنه “كان هناك نوع من التسامح منذ عقود، بل حتى التغاضي” من قبل المغرب على التهريب المعيشي، لكن تضرر المقاولين والتجار والمستوردين المغاربة من التنافسية المختلة دفعه إلى اتخاذ الإجراءات الجديدة، مبرزا: “القيمة المضافة الوحيدة (التي تضيفها المنتجات الآتية من سبتة ومليلية) كانت الدخول دون دفع الضرائب بينما يشتكي أولئك الذين يدفعونها”. وضرب لخضر المثل قائلا: “تخيل معي الأمر كما لو أنني مغربي، وقمت بشحن حاوية بالسلع الصينية ونقلتها إلى مدريد بدون دفع التعريفات الجمركية ولا احترام القواعد. بكل تأكيد سأعاقب من قبل الإسبان. لقد عاشت سبتة ومليلية منذ عقود على أساس شيء لم يكن قانونيا”. من جهته، هاجم حاكم مليلية الاشتراكي، إدواردو دي كاسترو، مخطط نبيل لخضر قائلا: “مليلية ليست سجنا ولا مدينة مغربية، بل مدينة إسبانية، وعليه، فهي تدخل في إطار الحدود الجنوبية لأوروبا”. وعاد المسؤول المغربي ليؤكد أن الرباط لا يمكن أن تتحمل مسؤولية غياب اقتصاد قوي في سبتة، إذ أوضح أن الثغرين يفتقران إلى إنتاج وصناعة محليين، بحيث أن كل شيء يأتي من الخارج. وأضاف أن 80 في المائة من واردات سبتة توجه إلى الداخل المغربي، بحيث تتراوح قيمتها السنوية ما بين 15 ألف مليون و20 ألف مليون درهم، وهو رقم لا يخضع إلى أي ضرائب. المخضرم بيكي: ما يهم المغرب هو قضية الصحراء ولن يسمح بمسها في الوقت الذي يفضل فيها المسؤولون المغاربة السابقون، رؤساء حكومات ووزراء، التزام الصمت حيال مختلف القضايا الاستراتيجية التي تمس المصالح المغربية، تحت ذريعة أن السياسة الخارجية من اختصاص وزارة الخارجية؛ يلاحظ أن نظراءهم الإسبان يكونون السباقين إلى الدفاع عن المصالح الداخلية والخارجية لإسبانية في أي نزاع أو توتر مع المغرب، رغم ضعف المبررات التي يقدمونها. إذ بعد مهاجمة خوان خوسي ماريا أثنار لوبيث، رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق المثير للجدل، تشبث المغرب بقرار إتمام إجراءات ترسيم وتحديد حدوده البحرية من السعدية إلى الكويرة، وبعد رئيس الخارجية الإسبانية الأسبق، خوسي مانويل غارسيا مارغايو، جاء الدور هذه المرة على المخضرم جوسيب بيكي، وزير الخارجية الإسبانية ما بين 27 أبريل 2000 و10 يوليوز 2002 إبان الولاية الثانية لأثنار، الذي هاجم المغرب في أول خروج إعلامي مثير له في السنوات الأخيرة على خلفية تحيين كتابه “العالم المُقبِلُ علينا”. الوزير رد في حوار صحافي مع صحيفة “الإسبانيول” حول ما سماه الصحافي الإسباني “تهكم المغرب على المواثيق الدولية بخصوص ترسيم الحدود”، قائلا: “تجربتي تخبرني أنه كلما كانت هناك حكومة جديدة بإسبانيا، إلا ويختبرها المغرب. فيما يخص القانون الدولي لا يوجد هناك أي دعم (للمغرب). مع ذلك، يتوجب تأويل موقف المغرب من زاوية أكثر تعقيدا. (القرار) يؤثر على جزر الكناري، لكن ليس لديه مستقبل”. ويعتقد الرجل الذي سبق وشغل، أيضا، منصب وزير الصناعة والطاقة أن المغرب لا يرغب في الدخول في أي نزاع أو توتر مع إسبانيا، بل “ما يهم المغرب هو الصحراء”، يشدد جوسيب بيكي. ويبدو أن بيكي الناطق باسم حكومة أثنار سابقا (1989-2000)، كان أكثر واقعية من الصحافي الذي قال إن الهدف الرئيس للمغرب هو استغلال المعادن الغنية والثمينة الموجودة في منطقة “جبل الكنز” قبالة الأقاليم الجنوبية للمملكة مثل التيلوريوم والكوبالت، قبل أن يرد عليه بيكي قائلا: “من أجل تحديد المياه والسيادة في القانون الدولي، يبقى الجرف القاري حاسما. وجزر الكناري ليست جزءا من الجرف القاري الإفريقي. وهذا هو العنصر المركزي في النقاش القانوني. والهدف الكبير للمغرب هو المضي قدما إلى الأمام في ترسيخ كل ما يقوده إلى الاعتراف بسيادته الفعلية على الصحراء، مثل ما قام به منذ 1975 مع المسيرة الخضراء”. ويعتقد هذا الدبلوماسي والسياسي الذي خبر المؤسسات الدولية والأوروبية والإسبانية أن المغرب ليست لديه أي مصلحة في مس الوحدة الترابية لإسبانيا، لكن المغرب لن يتساهل مع أي تهديد محتمل لوحدته الترابية. في هذا قال: “من وجهة نظري، ليس للمغرب أية مصلحة في تغيير الوضع القائم، لا في ما يتعلق بجزر الكناري، ولا بخصوص سبتة ومليلية، طبعا؛ لكن هناك نقاشا آخر عندما يتعلق الأمر بتحقيق هدفه الوطني الأسمى، وهو الاعتراف الدولي بسيادته على الصحراء”. وأنهى الوزير السابق الشق المخصص للمغرب بتأكيد ما لا يقوله الوزراء الإسبان عندما يكونون في الحكومة، إذ يعتقد أنه لا خوف على إمكانية مطالبة المغرب بسبتة ومليلية مادام مشكل الصحراء قائما: “مادام هذا قائما، ليست هناك أي أسباب تدعو للقلق”. الحمالون أمام مصير مجهول وفي ما لم يعط نبيل لخضر أي توضيحات حول مصير آلاف المغاربة الذين يعيشون بشكل مباشر أو غير مباشر من التهريب المعيشي، من بينهم 9 آلاف ممتهن له في سبتة؛ كذب ما يقال عن إن التهريب يخلق فرص الشغل في الجانب المغربي، مبينا أنه “إذا أحدث التهريب المعيشي منصب شغل واحد فإنه في المقابل يدمر 5 مناصب شغل في الاقتصاد المهيكل”. علاوة على التهديد الذي تشكله السلع المهربة على السلامة الصحية للمستهلكين المغاربة، بحيث أن أغلب السلع تكون صلاحيتها قريبة من الانتهاء، والأخطر هو أن هناك في المغرب من يعمل على حذف تاريخ الصلاحية الأصلي ويضع مكانه آخر مزورا. وتابع لخضر أن المغرب سيكون منسجما مع نفسه، بحيث أن المنع لن يشمل السلع المهربة فقط، بل حتى المنتجات التي تدخل من المغرب إلى سبتة والموجهة للبيع، بحيث أنه شُرع في منع الأسماك الموجهة للاستهلاك غير الشخصي، وفي ما بعد ستمنع الفواكه والخضر. وهو الإجراء ذاته الذي سيطبق في معابر مليلية. وقال إنه سيقوم بزيارة إلى مدريد في مارس المقبل لمناقشة هذه التطورات مع الجهات الرسمية الإسبانية المعنية. وخلص لخضر إلى القول: “لست ضد أي شيء، كل هذه الحلول تهدف إلى التقدم، وليس العودة إلى الوراء”، مشيرا إلى أنه على سبتة ومليلية تصنيع منتجات تكمل نظيرتها المغربية أو التحول إلى مدينتين سياحيتين، حيث “يمكن للمغاربة الدخول والخروج منها”.