«[...] لا حياد مع النسيان كما أنه لا حياد مع الذِّكْر؛ فمن نسي، فقد انحاز إلى النسيان كما أن مَن ذَكر، فقد انحاز إلى الذّكر؛ [...] من أين للإنسان أن يكون مُحايدا في أمور إما أن يسعد بها أو يشقى، إن عاجلا أو آجلا! والحق أن كل ما ارتبط بالإنسان، قلَّ أو كثر، لا بد أن يحمل من آثار تقويمه، رغبة فيه أو رغبة عنه.» (طه عبد الرحمن، رُوح الدِّين: من ضَيق العَلْمانية إلى سَعة الائتمانية، ص. 15-16) يَحرِص "العَلْمانيّ" على عَرْض (وفَرْض) نفسه بأنّه - بخلاف "الإسلامانيّ" الذي يدعو إلى التّطْبيق الشُّموليّ للدِّين (الإسلاميّ)- يُؤمن (ويعمل) بوُجوب "الحياد" في كل تدخُّلات "الدّولة" وتعامُلاتها مع "المُواطنين" بِغضّ النّظر عن 0عتقاداتهم الدينيّة و0نتماءاتهم المَذْهبيّة. وهكذا إذَا كانت "العَلْمانيّةُ" تتمثّل في «تحييد السُّلطات العُموميّة»، فهل 0لتزامُ "الحياد" 0عتقاديّا وخُلقيّا وسياسيّا مُمكنٌ من قِبَل من لا دين له أو من يَظُنّ أنّ العمل ب"الدِّين" لا حياد معه بما يَقتضي في ظنّه وُجوبَ تعطيله على الأقل في المجال العُموميّ؟ من أين يَأتي "العَلْمانيّ" بقُدرته على العمل ب"الحياد" إذَا كان، في إيمانه بحُريّة الاعتقاد والتّصرُّف، لا يَرى إمكانا للإلزام إلّا في حُدود ما يُوجبه «القانون الوَضْعيّ» كتدبير تشارُكيّ وتفاوُضيّ للمجال العُموميّ وما يَلْزم عن التّربيَة العُموميّة من «أخلاق مَدَنيّة»؟ إنّ إشكال حياد "العَلْمانيّ"، المُتناوَل هُنا، قد لا يَتحدّد إلّا بتوسيع مَجال التّساؤُل على النّحو الذي يجعله يُبرز مُفارَقةً مُثيرةً: أين يَترُك "العَلْمانيّ" اعتقاداته الخاصة وأغراضه ومَصالحه حينما يَحتكّ بمُخالِفيه أو يُواجه خُصومه من "المُواطنين"؟ هل يَتجرّد "العَلْمانيّ" من كل ما يَخصُّه كُلّما وضع إحدى جوارحه في المَجال العموميّ؟ كيف يَنْقاد "العَلْمانيُّ" إلى 0لتزام مُقتضيَات «القانون الوضعيّ» ولوازم «الأخلاق المَدنيّة» بحيث لا يجوز الحديث بشأنه عن أيِّ تحيُّز دينيّ أو فِكْرَويّ؟ هل يكون إعلامُ «الدّولة العَلْمانيّة» مُحايدًا فيما وراء مبدأيْ الخير والشرّ؟ وهل تكون «المدرسةُ العَلْمانيّة» مُحايدةً ومُنْصفةً؟ وهل كل أجهزة «الدّولة العَلْمانيّة» ومُؤسَّساتها تشتغل من دون أيِّ تفضيلات (أو تمييزات) "فِكْرَوِيّة" ودعويّة؟ تُعَدّ "العَلْمانيّة"، بالأساس، مبدأً يَقضي بأن تَلْزم (أو تُلزم) "الدّولة" - بما هي سُلطاتٌ عُموميّةٌ- "الحياد" تُجاه عقائد وضمائر كل "المُواطنين"، ممّا يُوجب على "الدّولة" في كل سياساتها وتدخُّلاتها ألّا تُفضِّل أو تَفرض "عقيدةً" أو "فِكْرَى" أو "دينًا" ما. ف"الدّولة" - في منظور "العَلْمانيّ"- لا دين لها، وإنّما دينُها الحقيقيّ (أيْ واجبُها اللّازِم مَدنيّا وقانونيّا) أن تتعامل مع "المُواطنين" باعتبارهم يَتساوون في "الحُقوق" و"الواجبات" بغضّ النظر عن عرقهم وجنسهم ودينهم ولُغتهم ووضعهم. إنّها مُلْزَمةٌ مَدنيّا بأن تُراعي مُقتضيّات «حُقوق الإنسان» وأن تخضع لنُصوص "القانون" (الوضعيّ) في منطوقها ورُوحها من دون أيِّ تمييز (سواء أكان إيجابيّا أمْ سَلْبيّا) بين "المُواطنين". ذاك هو المَثَل الأعلى الذي يُقوِّم "العَلْمانيّة". ولا شكّ في أنّه مَثَلٌ أعلى يَرمي إلى جعل النّاس سواسيةً في «الكرامة الآدميّة» التي يجب أن تُحفَظ من أيِّ تصرُّف مُهين أو مُخِلٍّ بما يَليق بالشخص الإنسانيّ كشخص أخلاقيّ وقانونيّ. ونجد أنّ كل مَنْ يَتحدّد بأنه "عَلْمانيّ" يَختفي وراء ذلك المَثَل الأعلى، فتَراه يدّعي لنفسه أنّه "مُحايدٌ" وأنه يعمل بمُقتضى "الحياد" في كل ما يقول ويفعل، وهو قائم هكذا فقط لأنّه – في ظنّه- يُؤمن ب"العَلْمانيّة". إنّه، بالتالي، يَلتزم "الحياد" سواءٌ أكان سياسيّا أمْ صحافيّا أمْ مُدرِّسا أمْ كاتبا أمْ مُوظَّفا عُموميّا. ويبدو، بناءً على ذلك، أنّ "العَلْمانيّ" مَيّالٌ إلى تصديق دعوى «نهاية الفِكْرَى» (ليس فقط كما قال بها "دنيل بيل" و"فرانسيس فُوكوياما"، بل كما ظلَّتْ تُؤكِّدها "الوَضْعانيّة" في ارتدائها لقناع "العِلْمانيّة" [scientism]). فهو يرى أنّه شخصٌ ليس له من الاعتقادات سوى الحدّ الأدنى الذي يَتمثّل في الإيمان ب«حُقوق الإنسان» التي تُؤسِّس حريّتَه في الاعتقاد والتّفكير والتّعبير والتّصرُّف، حريّته في هذه المُستويات كحريّة لا حدّ لها إلّا على أساس "القانون" و"العِلْم" (بصفتهما مَجالين يُناط بهما الاجتهاد الفكريّ على أساس المُمارَسة العُموميّة للعقل). لكنّ "العَلْمانيّ" يَغفُل، وهو "يُزكِّي" نفسه شاهدًا ومشهودا، عن أمرين أساسيَّيْن: أوّلُهما أنّ "الفِكْرى" ليست مجرد «لامعقول» يُمكن التّجرُّد منه نظريّا و/أو عَمَليّا بقدر ما يَتقوّى سُلطان "العلم" و"التِّقنيّة" (كل نتاج للعمل البشريّ – بما في ذلك "العلم" و"التقنيّة"- له بالضرورة أُصول اعتقاديّة وامتدادات "فِكْرويّة") ؛ وثانيهما أنّ «حُقوق الإنسان» ليست، في العُمق، سوى "فِكْرى" يُراد لها أن تبدو ك«حقائق كُليّة ونهائيّة»، في حين أنّها تبقى مجرد مُحاوَلة - مُحدَّدة تاريخيّا وثقافيّا وسياسيّا- لتقريب (أو مُقارَبة) نوع من «المَثَل الأعلى» يجد، بالتأكيد، أهمّ أُصوله في الأديان الكُبرى. وأكثر من ذلك، فإنّ "العَلْمانيّ" يَظُنّ أنّه لا يَتحدّد إلّا بما هو ذاك "العَقْلانيّ" الذي لا يَنْطق ولا يَفعل إلّا بمُقتضى "العقل" في استقلاله عن "الوحي" وتجرُّده عن "الهوى"، بل في كثير من الأحيان لا يكاد يَتكلّم إلّا كما لو كان ذاك "الْعِلْم-انيّ" (scienticist/scientiste) الذي يرى أنّ "العلم" هو وحده القادر – إنْ عاجلا أو آجلا- على حلّ (وحَسْم) مُشكلات الإنسان. ولأنّ "العَلْمانيّ" يَنْظُر إلى نفسه بأنّه صاحب "العقل" و"العلم" كليهما، فإنه لا يَتردّد في اعتبار سواه أبعد عنهما وأقرب إلى "اللّاعقل" (أيْ، بالتّحديد، "الوحي" و"الهوى") و"اللّاعلم" (أيْ "الجهل" و"الخُرافة"). وليس هناك، في نظره، من يُمثِّل "اللّاعقل" و"اللّاعلم" أكثر من أصحاب الأديان الذين يَستندون إلى "الوحي" (المُتعالِي) و"الإيمان" (اللّامعقول). ولا يكتفي "العَلْمانيّ" بعرض نفسه على ذلك النّحو، بل ينتهي إلى جعل كل ما يَأتيه من "الفكر" و"القول" و"العمل" كما لو كان يَصدُر فيه حصرا عن "العقل" و"العلم"، فأفكارُه منطقيّةٌ وأقوالُه بُرهانيّةٌ وأعمالُه ناجعةٌ، بخلاف "المُتديِّن" الذي يبدو - في اعتماده على "الوحي" و"الإيمان" واستسلامه ل"الجهل" و"الخُرافة"- ذا أفكار غير منطقيّة وأقوال بيانيّة (أو عرفانيّة) وأعمال غير مُجْديَةٍ. ف"الحقّ" و"الخير"، إذًا، لا قيام لهما إلّا مع "العَلْمانيّ" الذي يصير ذا امتياز بيِّن على "المُتديِّن" أو "المؤمن". وبما أن "العَلْمانيّ" يَنظُر إلى نفسه بصفته "عقلانيّا" و"عِلْم-انيّا" على تلك الشّاكلة، فلا يَصعُب تصوُّر مدى "الحياد" الذي سيَتعامل به مع كل مُخالِفيه الذين لا يُمثِّلون في نظره سوى «المِثال النّقيض» لِما يَعتقده في رأْيِه ويَنسُبه إلى ذاته. لكنْ، ربما ليست هناك أيضا صعوبةٌ كُبرى في تبيُّن أنّ "العَلْماني" بصفته كذلك إنّما هو "مُضلَّل" صار، من شدّة وُثوقه بنفسه وعقله، "مُضلِّلا" بامتياز. ذلك بأنّه يَغفُل عن أنّ ما انتهى إليه العُقلاء، في الفترة المُعاصرة، لا يَتحدّد إلّا باعتباره الإجماع على "التَنْسيب" في إحاطته ب"العقل" و"العلم" كليهما، ليس "التّنْسيب" فقط بمعنى نفي "الحياد" أخلاقيّا وسياسيّا، بل أيضا بمعنى "التّوْضيع" المُنْصبّ عليهما والمُحدِّد لهما بالنِّسبة إلى مجموع الشروط الموضوعيّة المُتعلِّقة باشتغالهما في الواقع. ف"العقل" لا يُؤسِّس ذاتَه كما لو كان جوهرا قائما بنفسه، و"العلم" ليس مجرد معرفة "موضوعيّة" و"يقينيّة". وبالتالي، فلو أنّ "العَلْمانيّ" كان على بيِّنةٍ من الأمر، لَمَا وجد نفسَه يَستخفّ بعقلِ وعلمِ مُخالِفيه إلى الحدّ الذي لا يَعُودون يَظهرون له إلّا كأُناس يَحكُمهم "الهوى" و"الجهل". ومن ثَمّ، فلا عجب أن يَنْزلق "العَلْمانيّ"، باسم الفحص النّقديّ، إلى تسفيه العقائد والشّعائر الدينيّة وتفضيل الإلحاد والإشراك في مُقابلها ؛ وهو ما يدل على أنّه لا يَأخُذ المسافة الكافية بين اعتقاداته وتفضيلاته الخاصة (التي يَظنّها «مُسلَّمات بديهيّة» أو «حقائق علميّة») واعتقادات الآخرين وتفضيلاتهم التي لا تتجاوز عنده، في أحسن الأحوال، «التصوُّرات القَبْليّة» و«الأحكام المُسبَقة». ولا بُدّ من تبيُّن أنّ "العَلْمانيّ" يقع بذلك فيما يُمكن أن يُسمّى «النِّسيان الأكبر» الذي هو نسيانُ واقعةِ أنّه يَتحدّد ضرورةً باعتباره «موجودا-في-هذا-العالم»، من حيث إنّ وُجودَه في هذا "العالَم" يرتبط بجُملةٍ من "الشروط" و"الحُدود" التي هي قوام «الوضع البشريّ». ويتجلّى هذا «النِّسيان الأكبر» في تلك المُفارَقة العجيبة التي تجعل "العَلْمانيّ" يَنْسى أنّ ما يَدّعيه من انفكاك عن "الدِّين" (الذي هو وحده "الدُّنيويّ" في ظنّه) غير مُمكن، في الواقع، إلّا على أساس الانفكاك عن "العالَم" نفسه الذي يُحيط به من كل جانب على غرار "المُتديِّن"! والحالُ أنّ تحديد "العَلْمانيّة" بكونها «مُمارَسةَ "العقل" في حُدود ما هو مُشترَك بين الناس (من شُروط زمانيّة ومكانيّة ترتبط بالوُجود والفعل ضمن هذا العالَم)» يَقتضي أنّ "التّحرُّر" مُمتنعٌ بشريّا بإطلاق، لأنّ الإنسان لا يَتحقّق وُجودُه وفعلُه إلّا ضمن هذا "العالَم" بكل ما يُمثِّله من «شُروط ضروريّة» و«حُدود مُحيطة». وبالتالي، فلا سبيل للخُروج من "العالَم" ومُزايَلته إلّا بتصوُّر الوُجود ضمنه بأنّه حتما "العدم" عينُه!وما دام "العَلْمانيّ" لم يَظْهر على تلك المُفارَقة المُتضمَّنة في موقفه، فإنه يبقى واقعا تحت أكبر نسيان يُمكن أن يَحصُل لابن آدم، وهو النِّسيان الذي لا تعود "العَلْمانيّة" بمُوجبه شيئا آخر سوى «دين مُتنكِّر»، ليس فقط من حيث إنّ اعتقاد الانفكاك عن «العالَم/الدُّنيا» يُمثِّل أحدَ الأركان المُقوِّمة جوهريّا ل"الدِّين" كما يَرفُضه "العَلْمانيّ"، بل أيضا بما أنّ "العَلْمانيّة" تتحدّد ب«اعتقاد وُجوب الانحصار في حُدود شروط هذا "العالَم الدُّنيويّ" وعدم التّطلُّع إلى أيِّ عالم آخر»، بحيث لا يَتردّد "العَلْمانيّ" في الحُكم عل كل تطلُّع يَتجاوز هذا «العالم الدُّنيويّ» بأنّه وهمٌ محضٌ. ومن المعلوم أنّ "العَلْمانيّة" إنّما هي تفعيلٌ لما آلتْ إليه تاريخيّا المجتمعاتُ الحديثة من «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» (le désenchantement du monde). لكنّ «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» هذا لم يُفهَم – ابتداءً ب"نيتشه"، ومُرورا ب"ماكس ڤيبر"، وانتهاءً إلى "مارسيل غُوشّي"- إلّا على أنّه «خُروجٌ من عالَم السحر والخُرافة والدِّين» بما يَكفُل «الدُّخول في عالَم العقل والعلم والتحكُّم التقنيّ»، أيْ الانتقال إلى عالمٍ نُزِع عنه طابعُه "السِّحْريّ" و"المُقدَّس" فصار عالَمًا تَحدُث فيه "الوقائع" من دون أن يكون لها أيُّ معنى مُتعالٍ. ف«بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» يدل، بالأساس، على الصيرورة المُرتبطة بإدراك أنّ "العالَم" - بما هو عالمٌ مُنْتهٍ ومحدودٌ- لا سحر فيه ولا استقلال له، بحيث لا يَصحّ الانحصار فيه كما لو كان يَحمل في ذاته معناه الكامل ويُمكِّن الإنسان، بالتالي، من "الاكتمال" و"الخلاص". ولا شك في أنّ «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم»، بهذا المعنى، يُمثِّل مَدار "الدِّين" نفسه بما هو رسالةُ تنويرٍ وتحريرٍ تدعو الإنسان إلى أن يسعى في طلب الانفكاك عما يَشُدّه من مُغْرِياتٍ إلى «عالم الدُّنيا» ويَمنعه من التّطلُّع إلى خيرات «عالم الآخرة». ولذا، فإنّ «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» لا يَقبل دينيّا أن يُختزَل في "التّدْهير" مُتصوَّرا حصرا ك "تَدْنيَةٍ" و"تَدْنيس". ذلك بأنّ العمل ب"الدِّين" (أيْ "التّديُّن") لا يُساوي "التّقْديس" ولا يَتعارض مع "التّرْشيد". وهكذا، فلا شيء أَجدرُ بالإنسان، في التّجربة الدِّينيّة، من العمل على الانفكاك عن "العالَم" زُهْدًا فيه وتقرُّبا من «ربِّ العالَمين» الذي بيده مَلكُوتُ كل شيء وإليه المصير. فالغاية القُصوى ليست «الخروج من الدِّين بإطلاق»، بل هي «الخُروج من عالم الدُّنيا» والدخول في «سبيل اللّه» بالاستقامة على "الدِّين الحقّ" توحيدا وتنزيها لربِّ العالَمين حتّى لو كان الأمر، في الواقع، لا يَتمّ إلّا بالخروج من هذا "الدِّين" أو ذاك على النّحو الذي يجعل «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» لا يعني إلّا «الخروج من أديان الباطل» و«موت الآلهة الزّائفة». وإذَا صحّ أنّ "الدِّين" هو العامل الأصليّ على «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم»، فإنّ كون "العَلْمانيّة" ترى أنّ "التّنوير" و"التّحرير" لا يَتِمّان إلّا بفصل "الدِّين" عن سَيْر وتسيير «الحياة العامّة» والاكتفاء بمجال المُشترَك دُنيويّا في حدود شروط هذا العالَم يُوجب تحديدها لا بصفتها ذلك "التّدْهير" الكفيل عَمَليّا بإقامة "التّرشيد" و"التّحييد" اعتقاديّا وقيميّا، وإنما باعتبارها دعوةً إلى «الخُروج من الدِّين» وعملا على «تعطيله عُموميّا»، وهو ما يَؤُول بها إلى الاستواء ك«دين مُتنكِّر»، دين دهريّ يقوم على الانكفاء على خيرات «الحياة الدُّنيا» والتّعبُّد بثمرات «العمل البشريّ» تدبيرا وتأنيسا. وبهذا، فإنّ الانقلاب الذي تدعو إليه "العَلْمانيّة" لا يُعبِّر عن حقيقة «بُطْلَان/إبطال سحر العالَم» إلّا ظاهريّا، لأنّه يَبقى في العُمق حصرا للوُجود والفعل البشريَّيْن «في حُدود هذا العالَم» (لا عجب أن يُسمّى هذا النُّزوع، بالخصوص في العربيّة، بصيغة المُبالَغة نِسبةً إلى "العالَم"، بمعنى «شدّة العُكوف على العالَم الدُّنيويّ»!)، أيْ أنّها تحتفظ ب«سحر العالَم» ولا تُبْطله بما أنّها تحرص على تأكيد أنّ "العالَم" لا يُحيل إلّا نفسه في ارتباط بما يستطيع الإنسان فعلَه بناءً على التّحكُّم في شُروطه تألُّها وتَملُّك أسبابه تسيُّدًا. ولا يبدو، من خلال ذلك، أنّ "العَلْمانيّة" بمُكْنتها أن تُحقِّق «الحياد القِيْمِيّ» تُجاه "العالَم" (بما يُمثِّله من أغراض ومَصالح لا يَنفكّ الإنسان يَطلُبها اجتهادًا ومُنازَعةً). وأنّى لها ذلك وهي لا تعمل إلّا على حصر وُجود الإنسان وفعله في حُدود هذا "العالَم" على النّحو الذي يَجعل "العَلْمانيّ" يعتقد أنّ «الخُروج من العالَم» غير مُمكن إطلاقا، بحيث لا يعود مثل هذا الخروج شيئا مطلوبا ؛ وهو الاعتقاد الذي يَقُوده إلى التّسليم بأنه لا خيار آخر غير الوُجود والفعل في إطار شُروط «الوَضْع البشريّ». ومن أجل ذلك، فإنّ غايةَ نقد "العَلْمانيّة" لا يُمكن بُلُوغها فقط من خلال إخضاعها ل"التّوضيع" (بجعلها تتحدّد بالنِّسبة إلى مجموع الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة التي تعلّقتْ بظهورها وتأسيسها في المجال الغربيّ بالتحديد)، وإنّما يتأتّى أيضا بنوع آخر من النّقد هو الذي من شأنه أن يُمكِّن من الكشف عن جُذورها الرُّوحيّة. ويُمثِّل، في هذا السياق، عملُ الفيلسوف "طه عبد الرحمن" في كتابه «رُوح الدِّين» عملا فريدا ورائدا. ذلك بأنّه لم يَكتف بالاعتراض على المُسلَّمة المُؤسِّسة ل"العَلْمانيّة" (مُسلَّمة «قُصور الوُجود الإنسانيّ»: وُجود الإنسان مقصورٌ على هذا العالَم ومحصورٌ ضمنه)، بل قام بإبطالها واشتغل بمُسلَّمةٍ بديل عنها (هي مُسلَّمة «تعديَة الإنسان») تُؤكِّد «ازدواج الوُجود الإنسانيّ»، من حيث إنّ الإنسان يَتميّز بأنه كائنٌ "يَنْوجد" ببدنه ورُوحه في «العالم المرئيّ» و"يَتواجد" برُوحه في «العالَم الغيبيّ». ومن هنا، فإنّ عمل "طه عبد الرحمن" يَتفرّد بأنه يكشف، في آن واحد، عن «رُوح الدِّين» كتعبُّد يُزكِّي عمل التّدْبير تشهيدا إيمانيًّا وتحريرا ائتمانيّا، وعن «رُوح العَلْمانيّة» كتَسيُّد يُدَسِّي عمل التّدبير تغييبا سياسيّا وتَدْهيرا أخلاقيّا (يَستحقّ هذا العمل الفلسفيّ، البالغ الأهميّة والشديد الطّرافة، وُقوفا طويلا ليس هذا مَقامه). لا يَملِكُ "العلمانيُّ"، إذًا، أن يَعمل ب"الحياد" لأنّه بالأساس قد عمل بنقيضه تحيُّزا ضدّ "الدِّين" لقوله بوُجوب فصل "الدِّين" عن "الدّولة" و"السياسة"، ولتأكيده أنّ "الدُّنيا" يُمكن أن يكون لها معنى في ذاتها وبانفصال عن "الآخرة". ومن تَحيَّز ضدّ "الدِّين"، فلن يَتوانى عن العمل على تحييده وتعطيل الاستناد إليه. ولهذا فإنّ "العَلْمانيّ"، بجعله «الحياة الدُّنيا» أوْلَى وأهمّ من «الحياة الآخرة»، لا يَستطيع أن يَنْقطع عمّا يَشُدّه إليها من أغراض ومنافع ظاهرة وباطنة. وكونُه مُرتهنا، في فكره وعمله، لذلك الاعتقاد يَجعله حريصا على "تَدْهير" و"تَدْنيَة" وُجود الإنسان وفعله فلا تراه إلّا جاحدا مُنْكرا للّه ربّ العالَمين، وغافلا مُستهزئا بالخوف ممّا بعد الموت من البعث والحساب. وإنّ كون "العَلْمانيّ" يدعو إلى وُجوب فصل "الدِّين" عن "الدُّنيا" (مُمثَّلة، بالأساس، في "السياسة" و"العلم" و"الفنّ") لا يَترتّب عليه فقط نُهوضه بالدّعوة إلى تعطيل "الدِّين" في المجال العُموميّ، بل أيضا تَغاضيه عن إطلاق عمل "الدُّنيا" كأنّ المُطالَبة ب"الحياد" لا تستلزم تعطيل آثار «العالَم الدُّنيويّ» التي تستدخلها نفس المرء من خلال خضوعها للتنشئة اجتماعيّا وتاريخيا، والتي لا تَجعلُه في الغالب إلّا كادحا قد أخْلَد إلى الأرض إخلادا! والحال أنّه لا سبيل إلى تعطيل تأثير "العالَم" إلّا بالوصل بين "الدِّين" تعبُّدا و"الدُّنيا" تدبيرا. ولهذا، فإنّ «إبطال سحر العالَم» ليس نتاجا حصريًّا للعصر الحديث (كما يَظُنّ "العَلْمانيّ")، وإنما هو جوهر "الدِّين" الذي لا يقوم أصلا إلّا بما هو عمل ل«التّزكِّي/التّزْكيَة»، وهو ما يُؤكدّ أنّ إرادة فصل "الدِّين" عن "الدُّنيا" تكشف أنّ "العَلْمانيّة" – في حرصها على «تحييد الدِّين»- ليست سوى «تَدْسيَةٍ/تَدْنيَةٍ». وعليه، فإنّ "الإعراض" المطلوب بواسطة "التّدْهير" و"التّحييد" لا يَتأتى ادِّعاءً أو تظاهُرًا، وإنّما يَتحقّق تبعا ل"التّوْضيع" في ارتباطه بسيرورة "التَّرْشيد" التي لا تكتمل إلّا بقدر ما تسمح ب"التّعبُّد" تدبيرا تشهيديّا وتزكِّيًا تحريريًّا (وَفْق ما أحسن بيانَه "طه عبد الرحمن" في كتابه المذكور آنفا). ولا بُدّ، أخيرا، من الانتباه إلى أنّه إذَا كان بعض مُحترفِي الخطاب بيننا يَبتهجون حينما يصفون أنفسهم بصفتي "عقلانيّ" و"عَلْمانيّ"، فإنّهم لا يفعلون هذا إلّا لكونهم مُضطرِّين للتّميُّز عمّنْ يَعُدّونه "إسلاميّا"، بل "إسلامانيّا" ؛ وهو ما يُبيِّن أنّهم - في ادِّعائهم "العقلانيّة" و"العَلْمانيّة"، وفي صراعهم الفِكْرويّ مع "الإسلاميِّين" (و"الإسلامانيِّين")- لا يَجرُؤون على إنْكار انتمائهم إلى «أُمّة المُسلمين» (بصفتها أُمّة لها دينٌ تُؤمن به وتعمل له)؛ مِمّا يُفيد أنّ كل من يَرُدّ أو يَرفُض «الإسلام/الدِّين»، في خضمّ ذلك الواقع التّنازُعيّ والسجاليّ، تجده يَتنكّر في صفتيْ "العقلانيّ" و"العِلْمانيّ" لعدم قَبُوله أن يُوصف بنقيضهما، أيْ بصفتيْ "المُؤمن" و"المُتديِّن". ومن كان هذا حالَه، فإنّه إنّما يدل على تردُّده في إعلان حقيقته بأنّه يُنْكر "الدِّين" وما يرتبط به من "الوحي" و"النُّبوّة" و"الإيمان". ولا يَخفى أنّ المُتطرِّفين من العَلْمانيِّين "دَهْريُّون" يَجحدون الآخرة والحساب، و"مَلاحدة" يُنْكرون اللّه ويَكفُرون برُسله ؛ لكنّهم لا يستطيعون أن يَقولُوا ذلك على المَلإ، لأنّهم يعرفون أنّ جُمهور المُسلمين والمُؤمنين سيَلْفِظهم لفظا ويَطّرح بضاعتهم اطِّراحا. وإنّه لمن المُؤسف جدّا أنّ المُجتمعات الإسلاميّة لم تتمكّن بعدُ من بناء «الدولة الرّاشدة» حيث يَحِقّ لمثل أولئك الناس أن يَعيشوا بسلام. ذلك بأنّ ما يَأتيه "المُبْطلون" من أصناف الزّندقة والشّيْطنة لن يَضُرّ، في ظلّ واقع "التّرشيد"، إلّا الذين يُريد اللّهُ ألّا يَجعل لهم خَلاقًا في الآخرة. وإنّ المُسلمين لمُطالَبُون دائما بأن يَتَحَدَّوْا مُخالِفيهم ب«هاتُوا بُرهانكم إنْ كُنتم صادقين!»، وهو التّحدِّي الذي معناه أنّ الإسلام قد أعزّه اللّه وأظهره على الدِّين كُلِّه، بحيث لا قِبَل لأحدٍ من "المُبْطلين" بأن يُزلزل أيَّ رُكْن من أركانه مهما خفي نفاقُه أو بَلغ تضليلُه. «ويَأبى اللّهُ إلّا أن يُتمّ نُورَه، ولو كره الكافرون!» (التوبة: 32).