ما أكثر ما يُقال عن "الإسلام"، من قِبَل المسلمين أنفسهم، ومن قِبَل غير المسلمين أيضا. غير أن ما يُلاحَظ هو أن الحديث عن "الإسلام" يُؤتى، في معظم الأحيان، كما لو أن الأمر يتعلق بموضوع يَتَّسم على نحو جوهري وكُلِّيّ ب"الوحدة" و"الوضوح" و"الاتِّساق". وبالتالي، فإن كثيرا ممن يتناولون "الإسلام" على هذا النحو إنما يفعلون ذلك بقناعة ذاتية تجعلُهم يعتقدون أنهم يُمسكِون بموضوعِ تناوُلهم إمساكا منهجيا وفكريا على شاكلة من أمكنه أن يتحكَّم في شيء ما بين يديه تحكُّم العليم القدير. ومن هنا، تجد أن معظم من يتكلم على "الإسلام" يتكلم عليه من دون تحديد وبإطلاق، مِمَّا يجعل مثل هذا المتكلم يَظُنّ نفسه (وقد يَظُنّه غيره) كأنه صارت له صفة "المتكلم الأصيل باسم الإسلام". ولهذا، فإن المرء لا يَعدَم أن يجد كثيرا من التَّلْبيس حول "الإسلام" لا يَتبيَّن بصفته كذلك، ممّا يَستدعي مُساءَلةً نقدية لأنواع من الخطاب لا تَنفكُّ -في واقع التداول- عما يَصِحّ أن يُسمَّى "التضليل باسم الإسلام". إن "الإسلام" ٱسمٌ يُشير إلى مُسمّى يَتحدَّد، في الواقع الفعلي، بصفة الشيء المُلتبِس والمُتعدِّد. ف"الإسلام" ليس -كما يُظنّ عادة- مجرد «مجموعة من الاعتقادات والمعارف والشعائر» التي بها يتحدَّد المعنى الحصري ل"الدين" ("الإسلام/التديُّن")، وإنما هو -أيضا وبالأساس- «مجموعة من النصوص والمُتُون المُؤسِّسة» ("الإسلام/الدين/الوحي" كما في "القرآن" و"الحديث")، وهو -من ثم وبالتبعية- «مجتمع من الناس ذوي اعتقادات ومعارف وشعائر تجعلُهم ينتمون، بهذا القدر أو ذاك، إلى "الإسلام/الدين"» ("الإسلام/الأمة"، وخصوصا "الإسلام-سَلَف الأمة" كنموذج تَجْرِبي وعَمَلي ل"الإسلام/التديُّن")، ثم هو -فوق ذلك كله- «مجموع تلك الاعتقادات والمعارف والشعائر كنِتاج لتجربة تاريخية وكبناء لمُمارسة نَسَقيّة» ("الإسلام/الثقافة/الحضارة" على امتداد أربعة عشر قرنا، بالخصوص كما نجده مُعبَّرا عنه في أعمال "الفقهاء" و"المتكلمين" و"الفلاسفة" و"المتصوفة"). ومن البَيِّن أن هذه المستويات المتميِّزة والمتكاملة في واقع "الإسلام" لا يكاد كثير من المُتقوِّلين عليه يَقفون كفايةً عند دلالاتها وأبعادها، ليس فقط في حياة المسلمين، وإنما أيضا من الناحية المنهجية والموضوعية المتعلقة بتناوُل ظواهر الحياة الفعلية الخاصّة بمن ينتمون إلى "الإسلام" بكل تجلِّيّاته كما تَتفصَّل أو تُفصَّل دينيا واجتماعيا وثقافيا وتاريخيا. لذلك، فإنه من الشائع أن يُتحدَّث عن "الإسلام/الأمة" و"الإسلام/الحضارة" -من جهة كونهما يُجسِّدان، على هذا النحو أو ذاك، "الإسلام/التديُّن" في حياة المسلمين- كما لو كانا يُمثِّلان التعبير الحقيقي والكامل والنهائي ل"الإسلام/الدين/الوحي" أو كما لو كانت العلاقة بينهما ذات وجه واحد، مِمّا يترتب عنه حتما نوع من الانحراف/التحريف المزدوج: أن يُنظَر إلى "الإسلام/الدين/الوحي" بصفته السبب المُحدِّد والمُهيمِن في كل ما تشهده حياة المسلمين أو أن يُنظر إليه بصفته انعكاسا مباشرا لمجموع شروط حياة المسلمين في واقع مُعيَّن بما هم أناس ككل الناس. ولا يخفى أن تناوُل "الإسلام" على هذا النحو ليس سوى تضليل. ذلك بأن التسليم بكون "الإسلام" تجلِّيّا ل"الدين/الوحي" يقود إلى أنه في كُلِّيّته لا يَتَّخذ معناه إلا في إطار مجموع "السُّنَن" التي تَحكُم "الكون" خَلْقا وأمرا، "الكون" من حيث هو مجموع الكائنات في خضوعها كَرْهًا لقوانين "الخَلْق" (الطبيعة) أو خضوعها طَوْعًا لقوانين "الأمر" (الشريعة)، بحيث يُعدّ "الإسلام/التديُّن" -بما هو قَبُول "الإلزام" (أي بالتحديد "الالتزام") المُترتب على وجود "الله" ربًّا للعالمين، والمتمثل في "الإسلام/الدين/الوحي"- ذلك التجسُّد/التجسيد الاجتماعي والتاريخي والثقافي ل"الإلزام" ضمن التجربة المعيشة في حياة الإنسان المتعلقة ب"خُضوعه الطَّوعي" للأمر الإلهي، وهو الخضوع الذي يُفترَض فيه أن يَنقُل العبد من مستوى الاضطرار الخَلْقي/الطبيعي (الذي يتجلى في "الطَّبْع" الفطري الصائر إلى "العادة" من خلال مُلابسة "المجتمع/التاريخ/الثقافة") إلى مستوى التحرُّر الخُلُقي/الشَّرِيعي (الذي يتجلى في "العبادة" من خلال مُلابسة "الخَلْق" ل"الأمر" ابتلاء). ومن ثم، فمدار "الإسلام/الدين" إنما هو على شُهود العباد واجتهادهم في القيام بأعباء الابتلاء تحقُّقًا منهم ب"الإلزام" وَفْق شروط "الشريعة". وهذا هو مقتضى "الدين الشِّريعي" الذي يُميِّز "الإنسان" كمخلوق مُستخلَف باختياره ومُفضَّل على المخلوقات الأخرى الخاضعة اضطرارا ل"الدِّين الطبيعي"، بحيث لا يكون فقط "الإسلام/الدين" (بما هو "دين شريعي") دعوةً تبتغي الارتفاع بالإنسان من "الدين الطبيعي" بتحريره من "الضرورة الطبيعية"، بل يكون بالأساس سُمُوًّا إلى تحريره من "الضرورة الاجتماعية/التاريخية" ك"تَعوُّد" يُوقِعه في التبعية للأشياء والأشخاص، فيُنسِيه أولوية التبعية لربِّها، وهو التحرير الذي يتم بواسطة "التعبُّد" الذي غايته أن يُقطِّع حِبال "التعوُّد" المُقيِّدة ويُبدِّد غِشاوات "الغَفْلة" المُطبِقة، فيُذكِّر العبدَ بأنه لا خلاص ولا خُلوص له إلا بتخلُّصه من "العبودية" المُذلّة (لغير الله) بالتدرُّج في مقامات "العَبْدية" المُعِزَّة (فضلا من رب العالمين). وهكذا تتبلور "المعقولية" في "الإسلام/الدين" على أساس العمل الاجتهادي تحقُّقا وتحقيقا ل"الشريعة/الشرع"، مما يُؤسِّس "المسؤولية" كاجتهاد إرادي وعقلي في القيام بالتكليف الشرعي، "اجتهاد" و"تكليف" هما مَناط تشريفِ وتكريمِ الإنسان الذي فُضِّل على كثير من العالَمين كمخلوق يَتعبَّده ربه اختيارا في الوقت نفسه الذي يَتعبَّد -سُبحانه- كلّ الخلق اضطرارا. وبهذا، يكون "الإسلام/الدين" رسالةَ تنوير هادٍ وتحرير بادٍ. لكن رفض "الإسلام" -بصفته مجرد خضوع "إيماني" لإلزام "غيبي" بفعل أسباب تاريخية واجتماعية محددة- يُعدّ قَبُولا بالقدرة الخاصة ل"العقل" المشهود (قدرته على فَرضِ "إلزامٍ" مشروط)، تماما كما لو كان الإنسان "خالِقًا" لذاته بذاته، فيكون له بذلك "عقل" من نفسه بحيث يتصرف فقط بأمره الخاص، وليس أبدا بأمر من غيره (أي أنه "عقل" يَشْرَعُ ويُشَرِّع فيأمُر وينهى، مُلْزِما ومُلتزما في آن واحد، كما هو ظاهر مذهب "كنط"). هكذا تقوم "العقلانية" كنزعة جذرية تقول بأن "العقل" مبدأ الإنسان كذات مُستقلة وحرة في هذا العالم، ذات تملك أن تُؤسِّس أفعالها "عقليا" وليس "إيمانيا"، من حيث إن "العقل" يَتحدَّد كحُكْم نظري كُلّي يَبْني "الاعتقاد" على "الانتقاد" على النحو الذي يجعل "العقل" حُكْما نقديا وحَكَما موضوعيا، فلا يعدو -من ثم- "الإيمانُ" أن يكون ذلك الفعل الاعتقادي في قُدرة "العقل" البشري على "الحُكْم" و"الفَصْل". غير أن "العقل" في الإنسان لا يملك مطلقا أن يصير أساس نفسه (فيَخرُج من حُدود "الخَلْق/الطبيعة" إلى آفاق "الأمر/الخُلُق/الشريعة") إلا أن ينغلق في إطار "الدين الطبيعي" ("الدين" في حدود "العقل" الذي هو "طبيعة" الإنسان المُلازِمة لخِلْقته، وهو "الدين الطبيعي" المُعطِّل لأمر وفعل الله كما يتجسد في شرعه/شريعته)، بل إن "العقل" بهذا المعنى نفسه لا يقوم من دون "إيمان" يُؤسِّس قيمته وأفضليته، مما يقتضي أن "تعقيل" هذا "الإيمان" يتطلب الخُروج من "العقل"، وليس الرجوع إليه طلبا للسند في فرض "الإيمان" به. ولذا، فإن رفض "الإيمانية" الظاهرة في "الإسلام/الدين" لا يُعبِّر عن "عقلانية جذرية" إلا في المدى الذي يُمكِن فِعليًّا القيام المُطلق ل"عقل" خِلْوٍ من كل "إيمان" يُثبِت جدواه وضرورته. و"العقلانية" بهذا المعنى ما إِنْ تَشْرع في العمل حتى تَهدِم أساسها نفسه (تسلسلا أو دَوْرا)، فتَؤُول إلى "إيمانية" مُتنكِّرة في "العقل النظري العملي" أو تستنجد بأولوية الاندفاع الحَيَوِيّ ل"الرغبة" و"الهوى" بحيث تَلْزَم تبعية "العقل الخُلُقي" له. وبناء على ذلك، فلا خيار أمام "العقلانية" (في تعارُضها المزعوم مع "الإيمانية") إلا بين "عَدَمية" نيتشوية تُؤكِّد أن "الوجود" و"الفعل" في هذا العالَم لا معنى لهما خارج الإثبات الحُلُولي لكل ما هو عطاء مُتنزِّل، وبين "وُجودية" سارترية تُقِيمُ "الوجود" (و، من ثم، "الفعل") على لُزوم "العدم" له من حيث إن "الإنسان" -في هذا المنظور- خالقٌ لنفسه بفعل كونه في الأساس «رغبةً في الصيرورة إلهًا». وعليه، ف"العقلانية" لا تتخلَّص من "الشَّكَّانية" المُدمِّرة إلا بالاستسلام ل"عدمية" تَبْني "الإيمان" على "الدين الطبيعي" كما يتجلى في قوة الأهواء (لا "دين" إلا دين الحُلُول المشهود والمُتنزِّل، أي "دين الجُحود") أو بالانجراف وراء "وُجودية" تجعل "الإيمان" مُلازما ل"التوثُّب" كقوة تقفز بالإنسان من "السَّلْب المُعدِم" في "الفِقْدان" إلى "الانتفاء المُحدِث" في "الوِجدان"، مما يُبرِز أن "الحقيقة-الإنسانية" ليست سوى هذا "الوجود/الجُحود" الطارئ ك"فعل/انفعال" من كائن «مُجبَر على أن يكون حُرّا» في صيرورةٍ تتجلّى ك"عبودية" للرغبة الأصلية في "الألوهية"، بحيث لا يكون ثمة "إيمان" إلا بخروج "الإنسان" من "سُوء النية" (كإيمان غير كافٍ) والانتقال إلى تَحمُّل المسؤولية عن وجوده الإنساني بالشُّروع الدائم في خلق ذاته إسقاطا على المستقبل ومن دون أي خضوع للماضي أو الحاضر، ما دامت "الحقيقة-الإنسانية" حُدوثا لانهائيا يَتحدَّد في "الرغبة المُتألِّهة" التي سرعان ما تَرِجع إلى "فعل مُؤلِّه" جُحودا وعُتُوّا من إنسان يرى نفسه موجودا على صورة "الإنسان-الإله". ومن هنا، فإن قطع صلة "العقلانية" ب"الإيمانية" لا يتم إلا ك"عَلْمانية" تستبعد "الدين" الظاهر وتستبقي "الدين" الباطن من خلال حَصْر الهَمّ والسعي البشريين في حُدود "الحُضور" العَلَامِيّ ل"الوجود-في-هذا-العالم"، وهو "الحضور/العَلْم" الذي ينقلب إلى الانغماس في "المشهد/المعلوم" للحياة الآنية بكل تجليّاتها المأساوية والمُفجعة التي ينبغي أن تُؤخَذ لعبا ولهوا في خِضم "عالَم" كل ما فيه من "عَلْم" (علامات) و"وَسْم" (سِمات) لا يكاد يخرج عن مَشاهِد "الباطل" المُتفلِّت ليستوي بصفته "الحق" الثابت والمشهود (هو رب العالمين المتجلِّي عالِمًا وقادِرا في كل آية من آيات الوجود، في الأنفس والآفاق، بمقتضى "الدين" ك"شُهود")، لأن هذا العالَم إنما هو -بحكم التأسيس الإنسيَّاني والتاريخاني للعَلْمانية- موضوع للإبطال الدائم لكل سحر، بحيث لا يُمكن "التَّعالِي" إلا ضمن "التَّنزُّل" الحُلُولي تاريخيا واجتماعيا في "الإنسان-الإله". وبما أن "العَلْمانية" في تعقيلها ل"الإيمان" داخل هذا "العالَم" لا تملك أن تقوم إلا ك"دين مُتنكِّر" يُخفِي أنواع الضرورة (الطبيعية-الاجتماعية-الثقافية-التاريخية) في "إلزامية" مشروطة كونيا وبشريا، فإنها لا تتردد في تقديم نفسها ك"إنسيَّانيّة كُلِّيّانية" تتجاوز التعيُّنات الجزئية ل"الدين" اجتماعيا وثقافيا وتاريخيا، وتتعالى على الحدود الواقعية للمعقولية لتنفتح على إمكانات "الكُلِّي" على مستوى "القيم" و"الحقوق" الإنسانية كما تتجسد بالخصوص في "الدولة-العِناية-الرِّعاية". غير أن كون "الكُلِّي" يتعيَّن أساسا ك"جُزئي اعتباطي" تتوفَّر له، من حين إلى آخر، الشروط التي تُعطيه صفات "المعقول" المُلْزِم لكل الناس، هو ما يجعله يَتحدَّد تاريخيا واجتماعيا في ارتباطه بالسعي الجَمْعي نحو تحسين وترسيخ آليات ترشيد "الإلزام"، بحيث يَحصُل الانتقال من "الإكراه في الدين" ("واقع الدنيا" الذي يُؤخَذ بصفته "حقيقة الدين") إلى "التخيير في الدنيا" ("المثل الأعلى" للحرية الدينية الذي لا يملك أن يتجسد، في دنيا الناس، إلا ك"إكراه/إلزام" في كل شيء بفعل "الضرورة الطبيعية" المزدوجة ب"الضرورة التاريخية/الاجتماعية"). ليست، إذن، "العَلْمانية" نُزوعا نحو النفي المطلق ل"الدين" باستبعاده وتَعطيله (وهو استبعاد في الظاهر يَستبقيه ويُعمِّقه في الباطن من خلال الحالة القُصوى لدولة الرعاية الطُّغيانية)، وإنما هي سعي مشروط تاريخيا واجتماعيا يبتغي "تحييد" المؤسسات ذات السلطة والقدرة على مستوى الفضاء الاجتماعي، "تحييد" مُؤسَّسي يَتَّخذ صورة "الدولة الراشدة"، حيث يصير من الممكن أن تقوم "الحرية" كمجال موضوعي للتحقُّق الأخلاقي والاكتمال الإنساني، بدلا من أن تبقى مجرد آمال ذاتية تتغذَّى ماديا من مآسي البؤس والحرمان وروحيا من أودية "الوهم الشعري" وأوراد "الوعظ الصوفي" بصفتهما نموذجا للتغنِّي الحالِم. وبما أن "الإسلام/الدين" جاء يُعلن أنه "لا إكراه في الدين" وأن الأمر العام والمشترك شُورى بين جماعةٍ يتكافأ أعضاؤها في الكرامة والحقوق، فإن "الدولة الراشدية" (دولة الخلفاء الراشدين) كانت فيه التجسيد التاريخي للنموذج الشرعي/الشريعي القاضي بتحييد الوازع السلطاني في مجال "الدعوة" حتى لا يُكرَه الناس على الإيمان بما لا يريدون، وحتى يكون "الدين" كله لله فتَكُفّ الفتنة فيه وبه لكل الأرباب من دونه. وعليه فإن "الدولة الراشدة" تُعبِّر عن ظهور "الرُّشْد" برفع "الوصاية" عن العباد وب"استقلال" مجال "الدعوة" عن مجال "الدولة"، حيث يَتعيَّن الأول مجالا لحرية فردية وعامة في التفكير والاعتقاد والتعبير، ويقوم الثاني مجالا جماعيا للتعاقُد والمُحاسبة، مما يجعل "دين الدولة" -إذا كان لا بُد من استمرار للحديث عن دينها- لُزوما للحياد والتزاما بالرشاد تُجاه أُمة أُلزِمت شرعا بالقيام بأمورها شُورًى واجتهادا وكُتِب عليها العدل قِسطا ورحمة. ولذا، فإن الاستبداد في ذينك المجالين كليها يُعدّ غيًّا وضلالا مُنافيا للرشد الذي اكتمل به "الإسلام/الدين" وخُتِمت به "النبوة/الشريعة"، بحيث صار يتعيّن الخروج الجماعي في آن واحد من سطوة الأهواء ووصاية الأرباب واستبداد الطواغيت في صورةِ أمة قائمة بالقسط ومُقوِّمة للباطل فلا تخاف في "الحق" لومة لائم أو صولة مُتجبِّر. ومن ثم، يتبيَّن أن "الإسلام/الدين" يَتحدَّد بصفته قائما على "التوحيد" كما يتجلى في رُكنه الأول المتمثل في الشهادة بوحدانية الله ربًّا للعالمين. ولأن المسلمين -في معظمهم- لا يُدركون من "التوحيد" إلا النفي المطلق للكثرة والتعدد في الربوبية والألوهية، فإنهم يَبْدُون في الغالب مندفعين نحو رفض مبدئي ل"التعدُّد" و"الاختلاف" على المستوى الاعتقادي حصرا. غير أن كون الوجود البشري في هذا العالَم يَتحدَّد كمجموعة من الشروط القائمة أساسا على "التعدُّد" و"التفاوت" و"التغيُّر" يجعل حقيقة "التوحيد" غايةَ "الإسلام/الدين" التي لا سبيل إلى تحقيقها والتحقُّق بها إلا بعد مُجاهدة مُضنية وطويلة قد تستغرق الحياة الدنيا كلّها. ولذا، فإن "الاختلاف" و"التناقُض" قائمان في الواقع الفردي والجمعي على كل المستويات، بحيث لا تتعدَّد وتتصارع المذاهب الاعتقادية فقط، بل تتكاثر وتتنازع المذاهب الفقهية والأحزاب السياسية أيضا تجسيدا وتفعيلا لمبدإ الاختلاف الذي جُعِل رحمةً للأمة. وبالتالي لا يكفي رفع شعار "التوحيد" في "العقيدة" و"العبادة" لمحو كل الفُروق والتلوينات التي تتخلَّل بالضرورة اعتقادات المسلمين وسائر أنماط التعبُّد لديهم. ذلك بأن ظاهر الوحدة الأصلية-الأصولية في "الإسلام/الدين/الوحي" لا يُوقف فعليّا تأثير "الآيات المتشابهات" و"الاختلاف القليل" في "النص"، ولا يمنع عمليّا أن يكون "الاجتهاد" اختلافا وتعدُّدا فيصلُه الأساسي القدرة على تأليف القلوب وإجماع الأذهان حول الحق المشترك والمتعارَف، وكل ذلك يَحصل في إطار الابتلاء خلقا وأمرا ؛ مما يجعل "الإسلام/التديُّن" سيرورةً اجتهادية لتدبير "التعدُّد" و"الاختلاف" اعتقاديا واجتماعيا في سبيل بُلوغ "التوحُّد" و"التوحيد" استخلافا في تحقيق "الشريعة" والتحقق بها (تعارُفًا بالمعاملة ومُعاملةً بالمعروف). ومن حيث إن الأخذ بظاهر "التوحيد" في "الإسلام/الدين" يقود -في معظم الأحيان- إلى افتعال نفي "التعدُّد" و"الاختلاف" على مستوى "الإسلام/التدين"، فإن هناك نزوعا جُحوديا لتعطيل استلهام النصوص المُؤسِّسة في "الإسلام/الدين" (وهو تعطيل لا يَنْصبّ فقط على "القرآن" و"الحديث"، بل أيضا على نصوص العلماء من فقهاء ومتكلمين ومتصوفة)، وهو النزوع الذي يقوم على دعوى دفع "الوُثوقية الاعتقادية" بغرض مُحاربة "التسلُّط المذهبي" و"العنف الإرهابي". لكنّ ما يَغفُل عنه أصحاب ذلك النزوع إنما هو وجود نُصوص أخرى أقدم أو أحدث من نصوص "الإسلام" لا تزال تُستلهَم في العالم كله ("مُتون هرمس"، "الفيدا"، "الأوبانيشاد"، "العهد القديم"، "كتاب الطاو"، "العهد الجديد"، نصوص الفلاسفة منذ العصر الإغريقي)، تلك النصوص التي تُعدّ -هي أيضا- ذات طابع اعتقادي واضح كان ولا يزال يصلح مصدرا لتبرير أنواع من العنف في مستوى التاريخ والاجتماع البشريين، بل إن بعضها حافل بأنواع من التناقُض والتهاتُر التي لا تكاد تخفى على أحد. وأكثر من ذلك، فإن رد النصوص الإسلامية بدعوى تطرُّفها الوُثوقي وتخالُفها المُفرِّق لا يأتي إلا بواسطة نُصوص أخرى لا يملك أصحابها أن يدفعوا عنها مثل تلك الصفات إلا بالوقوع في التناقض أو بالغفلة عن سريان التناقض في أعماق معيشهم اليومي على نحو لا يشفع في الخروج منه رفضهم إياه في ظاهر خطاباتهم وبإسقاطه على الغير. أما إذا كانت "النصوص" عموما لا تشتغل في الواقع إلا في سياقات مُلتبسة اجتماعيا وتداوليا، فإن توجُّه النقد نحو أنواع الالتباس التي تُحيط بالنصوص المُؤسِّسة في "الإسلام/الدين" لا يعود سوى تضليل يَتحدَّد الغرض منه بالأساس في محو قُدسيتها والتهوين من سُموِّها البياني من أجل استبدال نصوص أخرى مكانها، وهي النصوص التي لا تقل التباسا واختلافا عن غيرها من حيث إن اتِّساقها الظاهر لا يستطيع أن يُخفي أنها مبنية من خلال الآليات البلاغية والبيانية نفسها التي بُنِي بها غيرها من النصوص، على نحو يجعلها لا تكاد تنفك عن لوازم اللغة الطبيعية كنسق يشتغل بالتأليف بين "الدوال" كفُروق بشكل يجعلها -من الناحيتين التركيبية والدلالية- حَمّالة أوجُه، مما يَستتبع -من الناحية التداولية- إمكانات لانهائية في التأويل للإمساك بكيفيات الترابط السياقي بين دَوالِّها الصُورِية ومدلولاتها المضمونية. وهكذا، فإذا كان التضليل باسم "الإسلام" يتكاثر بتكاثُر أنواع المُضلِّلين حتى بين أدعياء "الإسلام" (من "المتأسلمين") ودُعاة الغُلوّ والتطرف (من "الإسلامانيين")، فإن ميل بعض المُتدخِّلين في هذا المجال إلى إتيان الخطاب حول "الإسلام" من موقع الاستسهال والاستعجال يَجعلُهم يأتون تضليلا من نوع آخر يُضاف إلى تضليلات خصوم "الإسلام" وأعدائه. ذلك بأن النظر إلى "الإسلام/الدين" من ذلك الموقع يُؤدي إلى وصمه بصفات تُظهِره كما لو كان بالفعل في تَضادّ مع "العقلانية" و"العَلْمانية" و"الإنسيّانية"، مما يزيد الذين يُوصفون بكونهم أساسا عقلانيين وعَلْمانيين وإنسيّانيين قوةً إلى قوتهم. لكن التبيُّن في خطابات المُضلِّلين باسم "الإسلام" يكشف تهافُتَها بشكل لا يترك لأصحابها أي امتياز، اللهم إلا ذاك الذي يُدخِلُهم في زُمْرة من لا يتورَّع عن التضليل بادعاء "عقلانية" هي في الواقع محض "تعاقُل" يَتَّضِع بهم دون كل مُقوِّمات ومراتب "التعقُّل" المقررة والمستجدة، مِمّا يجعل عَلْمانيتهم دينا مُتنكِّرا وإنسيانيتهم تآنسا مفضوحا. إذ بِٱسم التنوير "العقلاني" والتحرير "العَلْماني" تراهم يُمارسون التهجُّم على "الإسلام" بلا قيد ولا شرط، متظاهرين بمباهج الفحص النقدي أو متسترين في أحابيل الحَكْي النَّقْضي ومتجاهلين، من ثم، ما يَخُصهم من غوائل الوُثوقية الاعتقادية والتحيُّز المذهبي والتطرف المنهجي. وإن الأمر ليزداد تضليلا حينما تجد بعض "المتأسلمين" أو "الإسلامانيين" وقد صدَّق أن "الإسلام/الدين" يتعارض في حقيقته مع "العقلانية" و"العَلْمانية" و، من ثم، مع "الإنسيَّانيّة"، حيث تراهم لا يكادون يَظْفَرون بما يُواجهون به خصوم "الإسلام" إلا بنعتهم المبتذل ب"العقلانيين" و"العَلْمانيين"، فيُعطون بذلك لكل من يحرص على عرض نفسه بصفة "العقلاني" و"العَلْماني" من الذرائع ما يزيده قوةً في إثارة وتأكيد شُبهاته حول "الإسلام" بكل تجليّاته. إن "الإسلام/الدين" لا يطلب من "المسلم" أن يكون أقل حرصا من غيره على "العقل" أو على هذا "العالَم" أو على "الإنسان"، بل يُطالبه بأن يكون عقلانيا دون جُحود، وعَلمانيا دون تعطيل، وإنسيّانيا دون "حُلُول". وإن كل محاولات "المتأسلمين" و"الإسلامانيين" في تنقُّص أو ردّ كل من "العقلانية" و"العَلْمانية" والإنسيانية" لتُعدّ أيضا من التضليل باسم "الإسلام"، لأنها مُحاولات واقعة في الإفراط إنكارا أو في التفريط نُكْرانا على نحو يُؤكد غفلة أصحابها عن حقيقة أن "الإسلام/الدين" قائم على "العقلانية" تأسيسا وتنويرا، وعلى "العَلْمانية" تشريعا وتحريرا، وعلى "الإنسيّانية" تكليفا وتكريما، ذلك بأن رب العالمين هو نور السماوات والأرض، ومن نُوره كانت النبوة والرسالة عقلا وشرعا، وأُقيم الأمر اجتهادا مأجورا وشُورى جامعة، وحُمِّل الإنسان الأمانة تفضيلا إراديا واستخلافا مسؤولا، على نحو يجعل "الإسلام/التديُّن" لا يَتحقّق إلا اجتهادا في الاستقامة على أمر "الإسلام/الدين" الذي هو أمر الله القاضي باقتحام عَقبات الابتلاء سُموا إلى "الجِهاد" مُغالَبةً عُمرانيةً في "الترشيد" و"التسديد" لاستعمار الأرض بما ينفع الناس في العاجل ويُرجى نفعُه في الآجل. [email protected]