ي - أزمة الفكر يُجمع العقلاء المتخصصون على ان العلاقة وطيدة بين طريقة التفكير واساليب التصرف ومعالجة القضايا، وان التفكير الصحيح هو الاساس في كل انطلاقة حضارية، وهذا من المفردات الاساسية التي ينبغي أن تعيشها الحركة. وبتأمل واقعنا المعاصر نجد ان الحركة لم توفق -بشكل عام- في تحقيق الاتساق حول الامور التفصيلية. كما انصبت معظم جهود الحركة على العمل والنشاط أكثر من اهتمامها بالفكر والثقافة. ومع غياب بعض المواقف الرسمية المعلنة للجماعة تجاه القضايا الرئيسة العامة، تكونت لدى اتباع بعض الاحزاب والجماعات العلمانية والاديولوجيات المعادية تسرّبت الى الاعضاء لتملا هذا الفراغ الفكري. اننا نؤمن أن أزمة الفكر أساساً هي في كيفية تنزيل القرآن والسنّة الى الواقع، وذلك عن طريق البحث والاجتهد الاصليين في مجالات العلوم الاجتماعية والانسانية المتعددة. ك - غياب الحوار يبدو للدارس أن الحركة تثبط الحوار الفكر على ثلاثة مستويات: داخلياً بين الاعضاء، ومع الجماعات الإسلامية الاخرى، ومع التجمعات غير الإسلامية سواء الدينية منها أو العلمانية. وقد نتج عن ذلك بروز المفاهيم المثالية النرجسية بين الاعضاء، فظلت الافكار النظرية بعيدة عن مجالات الاختبار الواقعية العملية. وترتب على غياب الحوار ركود فكرى وعجز عن الاثراء المطلوب لانضاج الحركة، بالاضافة الى سوء الفهم بين المجموعات المختلفة، الامر الذى أدى الى غياب الثقة وبروز العداوات بين الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد. ل - إهمال وسائل الاعلام لقد أهملت الحركة الى حد كبير مجال الاتصال مع العالم المحيط بها. فلم توجه أعضاءها الى سد هذه الفجوة في وقت مبكر، مما جعل تأثير الحركة في المجتمع أقل مما ينبغي، وتمكن منافسيها من السيطرة على وسائل الاعلام ورسم صورة مشوهة للحركة دون أن تتوافر لها الفرصة العادلة للدفاع عن نفسها بشكل فعال. إن الحركة في حاجة الى توجيه عدد كاف من أعضائها للتخصص في مجالات الاعلام. ولقد كان الاولى بنا التنبه لذلك بوجه خاص في الدول التي خاضت فيها الحركة معارك انتخابية، حيث لم يكن تحركها السياسي على المستوى المطلوب. أما المطبوعات الإسلامية فغالباً ما تكون غير جذابة، واحيانا منفردة، ولا يستطيع الصبر على قراءتها إلا الاعضاء المتحمسون. أما القراء من غير الاعضاء فيتجنبون الاطلاع على أدبيات الحركة، ومحدودية انتشار دوريتها مؤشر حقيقى على ذلك. كما تجاهلت الحركة أيضاً توجيه أعضائها من خريجى المدارس الثانوية الى التخصص في المجالات المطلوبة كثيراً، مثل العلوم الاجتماعية والاعلام والاتصالات والتربية والخدمة المدنية والشرطة والقانون، وكان لغياب هذا النوع من التخطيط نتائجه الفادحة على الحركة، وقد دفعت ثمنه غالياً. م - المحاسبة بين القيادة والقاعدة كان المعيار السائد في الحركة - ولا يزال - هو أن الاعضاء مُحاسبون امام القيادة التي تلزمهم بالطاعة المطلقة في السراء والضراء. إلا أن الحاجة الى محاسبة القادة ظلت أمراً بعيداً عن النقاش والبحث وكذلك عن التنظيم والممارسة، رغم اهميتها القصوى. فعندما يعرض مسؤول تقريراً للاعضاء فإنه غالباً ما يكون في شكل عموميات كقولهم: « كل شيء على ما يرام » و « الدعوة في تقدم » و « إن مستقبل الإسلام مشرق » و « النصر قريب » و « يرونه بعيداً ونراه قريباً » و « عليك أن تقوي إيمانك وأن تقدم مزيدا من التضحيات ».. و « عليكم بالصبر ».. الى ما هنالك من تعبيرات. والمهم هنا غياب الاسس العلمية التي يمكن الاستناد عليها لمحاسبة الافراد. فلا وجود لاحصاءات أو حقائق أو أرقام، ولا وجود لتحليلات موضوعية - كمية أو نوعية - خاصة ببيانات العضوية أو المطبوعات أو الشؤون المالية أو تقارير استطلاع الرأي العام أو التقويم الجماعي أو التنظيمي السليم للاداء. وقد يرفض بعض القادة الاجابة عن سؤال ما بدعوى الكتمان والسرية، في الوقت الذي لا يمكن أن تكون الحركة في وضع سليم إذ لم تخضع قياداتها للمحاسبة الموضوعية بشكل دوري. فلا بد من مواجهة من يتصدى للقادة بتحديات حقيقية ومطالبتهم بالرفع من مستوى أدائهم. كما أن المسألة حول الشؤون المالية لها أبعاد أخلاقية داخل الصف وقانونية لدى الدولة، وعلى الحركة أن تقدم تقارير وبينات مالية خاصة للمراجعة والتدقيق على أسس منتظمة وسليمة. ن - ترتيب الاولويات لو سألنا أنفسنا: هل ننفذ المهام بطريقة أفضل؟ أم نختار المهام الافضل أهمية لننفذها؟ تمثل الحالة الاولى الكفاءة في العمل، أما الثانية فهي اختيار الاولويات الصحيحة منذ البدء، وهناك قدر كبير من الاختلاف بين الامرين، وكلاهما ضروري. فقد يؤدي المرء بكفاءة عملا ولكنه ثانوى. إن لترتيب الاولويات أسبقية لان المهام أكثر بكثير من الموارد المتوفرة للقيام بها. وعليه، يصبح تحديد الاولويات أمراً ضرورياً وهذا ما يحقق توجيه الموارد ذات القّيمة المحدودة - البشرية والمادية - لما يناسبها من القضايا. إن الحاجة لتحديد الاولويات تزداد إلحاحاً وأهمية مع مرور تسارع الزمن وتَلاحُق الاحداث. فلا يكفي أن يؤدي المرء الواجبات المهمة. ولكن عيه أن يؤدي الواجبات الاهم منها أولاً. س - الجمود التنظيمي لوحظ أنه بمجرد قيام هيكل تنظيمي للحركة يظل على حاله لفترة طويلة على الرغم من نمو الحركة وتغير ظروف وأوضاع المجتمع وإعادة ترتيب الاولويات. فعلى كل هيكل تنظيمي أن يعكس أسلوب الحركة الحقيقي في العمل كي يحقق الاهداف التي قام من أجلها، كما ينبغي تعديله حسب الحاجة كي يستوعب التطورات. إن الهيكل الاداري الذي لا يزيد عن كونه وسيلة لخدمة الهدف من الخطأ تقديسه أو رفض تعديله. وكقاعدة عامة، ينبغي إعادة النظر في الهيكل الاداري التنظيمي كل خمس سنوات. ع - السرية والعلنية هُدر وقت طويل في مناقشة: هل يكون عمل الحركة سرياً أو علنياً؟ وكاد يعتبر موقف المرء من هذه القضية ركناً من أركان الايمان. وراح كل طرف من الاطراف يبحث في سيرة الرسول عليه السلام لدعم وجهة نظره وموقفه. وهذه قضية تنطيمية بحتة، ولكلا الاسلوبين أصل في الإسلام، وإنما تحدد الظروف والمعطيات الواقعية مدى صلاحية أحدهما للحركة على المدى البعيد. وهناك حالات لا يوفر فيها خيار، إذ إن أوضاع الدولة وظروفها هي التى تملي أسلوب العمل، ولكن على الحركة أن تكون مفتوحة على الناس كلما سمحت الظروف المحيطة بذلك، وليس للعمل السري أفضلية أو قدسية إذا ما سُمحَ بالعمل المعلن. والرأي السليم هو اعتبار العمل العلني القاعدة الاساسية. ولا يلجأ الى العمل السري الا استثناءً، وحينئذ تطبّق عليه قاعدة الضرورات تقدر بقدرها أو ان الضرورات تبيح المحظورات. ف - القرآن والسلطان نتيجة للاستعمار وأثاره في السياق التاريخي للقرن العشرين تجد الحركة نفسها في مواجهة مستمرة مع بعض الانظمة الحاكمة، يجب أن تقتنع بأن الحركة تنشد الخير والصلاح للبلاد والعباد حكاماً ومحكومين على السواء. فالامة هي الخاسر الاكبر في جو لا تسوده الثقة بين الحاكم والمحكوم. وإنما وجدت الحركة من أجل البناء والتنمية والتربية والتعليم والخدمة والاصلاح والارشاد الى ما هو أفضل. ينبغي ألا ينظر اليها على أنها قوة منافسة على المناصب متعطشة للسلطة، ساعية الى الاطاحة بالحكام. أن الحكم ليس هدفاً من أهداف الحركة بل وسيلة من وسائلها. وإذا لم تحقق الحركة أهدافها من خلال سلطة حاكمة، فإن بإمكانها على الاقل تحقيقها جزئياً عبر حركة الجماهير على نحو حر ديمقراطى. وعلى الحركة أن تسعى الى تحويل المواجهة الى تعاون، فالمجابهة لا طائل وراءها عادة، والتعامل السمح البسيط الهادئ أدعى الى جلب المنفعة كما علمنا ذلك رسول الله عليه السلام. وبيما تدفع القوى الخارجية الامور نحو العداوة بين جماهير المسلمين وحكّامهم، فان على الإسلاميين الواعين رصد مثل هذه الاتجاهات الخطرة عن كثب، والسعي الى تفاديها كلما أمكن ذلك. إن على الحركة ان تمثّل مقولة: « لا تخض معركة خاسرة »، وعليها أن تجنب الاستدراج الى مواجهات لم تستعد لها. ص - غياب التجاوب الفعال تدار مؤسساتنا بنظام الدورة المفتوحة غير المحكمة، فلا توجد مراجعة لنتائج العمل أو تصحيحه من خلال المعلومات الواردة. فد يسعى بعض العاملين الى تبليغ الرسالة بدون رصد آثارها المنشودة، واختلط على الكثيرين مفهوم حصول الاجر الالهى في الاخرة - إن لم يكن في الحياة الدنيا - فبددوا الجهود بدون تحقيق النتائج والمنجزات في الدنيا. لقد أسأنا التعامل مع مفهوم: علينا العمل والنتائج بيد الله سبحانه وتعالى، الامر الذى أدى خطأ الى عدم التركيز على الاداء والانجاز، وأصبح شعارنا: العمل من دون طلب النتائج، كقول القائل: عليَّ السعى وليس عليّ إدراك النجاح! هذه الحالة شبيهة بحال ربان السفينة الذي يوصل ركاب سفينته الى الشاطىء وهم أموات قد ذوى التفاعل والاتصال به وبهم. لقد حان الوقت الذي يوجب فيه على الحركة أن تستخدم أفضل من لديها من المتخصصين في علوم النفس والاجتماع والاتصالات والعمل الجماهيري والعلوم السياسية والعلاقات العامة، في سبيل تمحيص أعمالها وأثر تحركاتها في الناس ومدى تجاوبهم معها. إن هذا النوع من المراجعة ينبغي أن يستخدم لتعديل مناهج العمل وتصحيحها والتفاعل مع الآخرين. وثمة قضية أخرى يتعثر في ميدانها كثير من الخطباء المتحمسين ألا وهي الفرق بين ما نقصد أن نقوله وما يفهمه الناس من مقولتنا، فعلينا أن نعي أن طريقة تعبيرنا قد لا تتطابق مع ما ينتج لدى الناس من انطباعات، وأن هناك فجوة بين ما نعنيه وما يفهمه الناس من أقوالنا. وهذه الفجوة تساوي مقدار الخطأ او القصور الذي يجب أن نقلل منه الى الحد الادنى، وكلما كانت الفجوة أضيق كان نجاحنا في توصيل رسالتنا الى الناس أكبر، وذلك حسب المعادلة التالية: التعبير المقصود - الانطباع الناتج = مقدار القصور أو التعبير المقصود - مقدار القصور = الانطباع الناتج ق - التعب الحزبى غالباً ما يكون تشكيل أعضاء الحركة قائماً على الاعتبارات الحزبية أكثر منه على جوهر القضايا. ولذا نجد العضو أكثر انحيازا للحزب منه الى الحقيقة، وكثيراً ما يغدو عاطفيا، فيعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق. فهو غالبا لم يدرب على التفكير الحر، بل هو حبيس الاراء المتحيزة ووجهات النظر غير الموضوعية. هذا الوضع يجعل من الصعب على العضو أن يتعامل مع غيره، ولا سيما مّمن هم خارج الحركة، بصراحة ووضوح. فهو يجد صعوبة بالغلة في التحدث مع أهل العلم، لانه لم يتدرب على النظر الى القضايا بأسلوب موضوعي. كما تواجهه الصعوبات نفسها عندما يتعامل مع ذوى الافكار غير الإسلامية، فقلّما تشجع الحركة النقد الذاتى، فضلاً عن أنها نادرا ما تنقل آراء الاعضاء وانتقاداتهم الى القيادة. بل على عكس ذلك لا يلقى النقد أي ترحيب، ومن يخاطر برفع صوته قد يهم بسوء النية أو بانطوائه على بواعث غير ذات صلة، وعادة ما يكون الرد على النقد هو التهجم على شخص الناقد بدلاً من مناقشة جواهر الامور. فقلّما يكون التركيز على ما يقال بدلاً من القائل وتضيع الموضوعية في هذا الخضم. كم كبّل هذا الاسلوب من جهود كانت ترمي الى الاصلاح البنّاء الذي نصبو اليه جميعاً. ر - ادبُ الاختلاف مما يؤسف له، أنا عندما نختلف لا نمتثل للتوجيهات النبوية في أدب الاختلاف. وبدلاً من أن يصبح الاختلاف رحمة وإثراءً للآراء، يحدث التفكيك والتعنت ، ويتحول الخلاف الفكري الى اختلاف في القلوب والمشاعر، وينقلب الحب الى كره، وتفقد الجماعة رابطتها ويتدهور حالها، فتصبح مجموعة من الافراد المتباغضين. يحيل هذا الوضع أىّ رأى جديد الى تهديد للوحدة، وتدق نواقيس الخطر عالية على الفور حفاظاً على وحدة الجماعة وسلامتها. يعطي مثل هذا الوضع المتوتر القيادة المبررات لتعطيل معايير السلوك الإسلامى واتباع أساليب غير إسلامية، فتتشبع الاجواء بالغيبة والنميمة والتشهير والشائعات والتهم والكذب والتشويه الخلقى للأ شخاص. لقد أدت بعض المنازعات بين الإسلاميين الى إراقة الدماء كما حدث في أفغانستان، وذلك لاننا لم نمتثل للتوجيه القرآنى والنبوى ومراعاته في سلوكنا عند الاختلاف. إن التمسك بتوجيهات القرآن والسنة حرىّ بأن يضمن لنا النجاح والفوز على خصومنا على المدى البعيد، تحقيقاً للآية الكريمة: ... ادفعَ بالتِي هىَ أحسنُ فإذاَ الذِى بينك وبينهُ عدوةً كانهُ ولىٌ حميمُ (4) ومَا يلقاهَا إلا الذينَ صبروا وَما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) ( فصلت ) ش - جدول أعمال مطوّل تقع الحركة من حين الى آخر في فخ مطالبة معارضيها فجأة بكل شيء دفعة واحدة، حيث أننا لم نتمكن بعد من بلورة مطالبنا وترتيبها حسب الاولويات وبالتدريج، ولم نقدم بعد برنامج عمل متكاملاً يحقق التوازن بين الموارد المادية والبشرية داخل إطار جدول زمني محدد. ويعتقد بعضهم أنه يمكن تحقيق النموذج متكامل وناصع للحياة الإسلامية فوراً عند الطلب، وهم يريدون تحقيق كل شيء في لحظة وإلا فلا. وكأن إقامة الدين فى المجتمع كصنع القهوة السريعة التحضير ( النسكافية ). أنهم يخلطون بين الايمان العقلي والذهني بكلية الرسالة والتطبيق التدريجي لتعالميها في واقع الحياة. لقد أخفق هؤلاء في التوفيق بين مقولة : « خذوا الإسلام جملة أو دعوه » وبين الحديث النبوي الشريف الذي يقول: « إنَّ هذا الدينَ متينٌ فأوغلِ فيهِ برفق ». (1) إن التطبيق التدريجي الهادىء هو ما علمنا إياه رسول الله عليه السلام. والدرس الذي يجب أن نعيه هو أن يكون جدول أعمالنا قصيراً وواضحاً ومختصراً، وبمجرد انجازه يوضع جدول أعمال زمني آخر مدروس... وهكذا. لقد نجح الشيوعيون والقوميون في تطبيق هذا الاسلوب بفاعلية في الوطن الإسلامى، وكانت شعاراتهم بسيطة وجذابة ونفاذة، فرسخت في ذاكرة الناس لشدة اختصارها ووضوحها، وكان من بيها: l « نريد خبزاً » . l « ارفعوا الاجور » . l « لا بطالة بعد اليوم » . l « نطالب بتقليص ساعات العمل » . l « وفّروا الخدمات الصحيحة المجانية » . l « نطالب بتحسين ظروف العمل » . l ( لا استعمار ولا استثمار » ... وغيرها. ثالثاً : التفاتة الى القرن الرابع عشر إن نظرة منصفة الى رصيد الحركة تؤكد بلا شك أنها بذلت جهوداً مضنية كثيرة، إلا أن خصومها كانوا كثيرا يخطفون ثمار جهودها.. وهذا ما يتضح في تجربة حركات التحرر في الجزائر ومصر وليبيا وباكستان وغيرها. إن المكتبة الإسلامية بوضعها الحالى تخرّج المسلم الذي يكون صالحاً في نفسه إلا أنه غالباً ما يكون حرفيا في نظرته الى الحياة. فقد أخفقنا فى تكوين الداعية المصلح المتحرك المؤثر في غيره. فقد كان رسول الله عليه السلام يدعو ربه أن يهدي الى الإسلام زعماء قريش فقال: « اللهمَّ أعزَّ الإسلام بأحبَ هذينِ الرجلينِ » (1) يعنى عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب. كان عليه السلام يدعو لقادة قريش في صلواته أن يهديهم الله من أجل ان تقوى وتنتصر الدعوة. أما اليوم، فنشاهد عكس ذلك، إذ غالباً ما تغادر العناصر النشيطة الذكية الجماعة التي عجزت عن استيعابها والتعامل معها. إنهم كالثمار الناضجة التى تسقط من شجرتها فتظل على الارض لان الشجرة الام لم تعد قادرة على حملها. كما ينقص الحركة الغربلة وتصنيف القدرات، فبينما يمكن الاعضاء اللامعون من التأهل والانطلاق والتحرر من الحركة، يستمر قليلو الحيلة والقدرة في صفوفها الى الابد، فيصبحون عبئاً ثقيلاً على الحركة في تنظيم ثقيل الرأس لا يجاوب بسرعة وفاعلية مع الاحتياجات العاجلة الملحة. إن الحركة ليست وحدها في الميدان، فهو يعج بالتحديات والمنافسين، وعليها أن تبلور سياسيتين استراتيجيتين للتعامل مع التنظيمات الاخرى الإسلامية وغير الإسلامية. كما يجب عليها أن تقلع عن فكرة المركزية الشديدة وأن يكون كل شيء تحت اسم واحد وسقف واحد ومركز واحد وكيان واحد، وعليها أن تسعى للتأثير وحسن التوجيه أكثر من سعيها للتملك والاستحواذ. ومن المفيد جداً أن توكل بعض الاعمال الى غيرها كلما كان بمكان أولئك القيام بها. فالإسلام ليس حكراً على أحد، وهو دين للجميع، وليس لاي جماعة أن تدعي لنفسها وحدها حق احتكاره. إن استعداد بعض العاملين وحماسهم للبذل وللعطاء والتضحية لا يعطيهم تفويضاً مفتوحاً للهيمنة على أعمال الحركة بغضّ النظر عن كفاءاتهم وفاعليتهم. فإذا كان أداء هؤلاء جيداً فستؤول إليهم طبيعياً قفيادة الحركة بجداره، وإلا فينبغى أن نستبدل بهم من هم أصلح. ... وإن تتولَّوا يستبدِل قوماً غيركُم ثمَّ لا يكونُوا أمثالكُم ( 38 ) ( محمد ) وفي الوقت الذي ينبغي على الحركة أن تكسب الرأي العام، فإنه من المهم ألا تسلم قيادها له، بل ينبغي أن تكون لديها خططها واستراتيجاتها التي تستطيع من خلالها ترشيد الرأي العام وتشكيله وتوجيهه والتأثير فيه. أما التعاطي مع الغرب، فقد رسم له بعض المفكرين صورتين متناقضتين: فهو إما جنة وإما جحيم. الحقيقة هى أن الغرب ليس هذا ولا ذاك، وأن لديه خصائص إيجابية وأخرى سلبية، وينبغي علينا كمسلمين أن نتحرى الانصاف في جميع الاحوال حيث يعلمنا الله سبحانه وتعالى: ... فأوفُو الكيلَ والميزانَ ولا تبخسُوا الناسَ اشياءهُم... (85) ( الاعراف ) ... ولا يجرِ منكُم شنئانُ قوم على ألا تعدلُوا اعدلُوا هوَ أقربُ للتقوى... (8) ( المائدة) إن منهج الحياة في الغرب يحيل الحرام جذاباً مغرياً سهل المنال، بينما نجعل نحن المسلمون الحلال أمراً عسيراً منفراً وصعب التناول. ومن هنا، فإن على الحركة أن تقلع عن تهربها من حل مشكلات المجتمع بمجرد إصدار الفتاوى، وأن تتبنى أسلوب طرح البدائل والحلول المستديمة. ففي الوقت الذي ندعو فيه الناس الى الاقلاع عن الحرام، علينا أن نوفر لهم البديل الحلال. لقد أخفقنا حتى الان في تطوير برامج تلفزيونية أو إذاعية تلتزم ما رخّص به الله وأحلّه. إن مجال التسلية مفتوح أمام العاملين للاسلام على مصراعيه، لكن الجهود التي بذلت فيه حتى الان لا تكاد تذكر. ويمكننا القول باختصار إن الغرب لديه بضاعة رديئة يولى عرضها باعة مهرة، ولدينا بضاعة ممتازة يولى عرضها باعة خائبون. ومع أن نظام الحياة الغربية ومعرّض للانهيار الخلقى، فإن العلمانيين يعملون بلا هوادة لاصلاحه وتصحيح مساره. فهم كمن يقود سيارة تتهالك يوماً فيوماً ويقوم ركابها - وكلهم من المهندسين والميكانيكيين المهرة - بترميمها وإصلاحها دوماً. أما نحن فإننا نقود سيارة جديدة مستورة دون أن تكون لدينا أية معرفة بكيفية عملها وصينتها، وبمجرد أن يصيبها عطل بسيط نصاب نحن بالشلل المزمن. إن التحدي الذي تواجهه الحركة هو البرهنة على استعلاء الايمان وإثبات تفوق الفكر الإسلامى وسيادته في المجالات المختلفة وطرح النموذج العملي الإسلامي البديل. فقد يفي بالغرض في هذا الصدد إنجاح مشروع تجريبي إسلامى، ولو كان صغيراً. هذا هو التحدى الحقيقى الذي يواجه الامة في القرن الخامس عشر الهجري. رابعا:ً أسئلة لا بد منها! أ- لعبة شد الحبل هناك من يدّعي أن غالبية شعوب العالم الإسلامي لا تعرف الجد في العمل وهذا سبب فشلها. لكن ما قو لنا في المسلمين المخلصين الذين يعملون بكل جد؟ ما بالنا نرى معظمهم غير منتجين؟ إن مشكلة هؤلاء هي مشكلة توجهات وميول وافتقاد روح الفريق في العمل وانحراف منهج التفكير. فقد ترى أفراد المجموعة الواحدة يؤدون أعمالهم بكل جد لكن في اتجاهات متعارضة، الامر الذي يجعل محصلة جهودهم النهائية أقرب الى الصفر، بل قد تكون محصلة سالبة في بعض الاحيان. إن لكل عمل إسلامي مقداره واتجاهه كما تعلمنا في الرياضيت عن الكمية الموجهة. فإذا لم يوافق عمل فرد ما مع عمل غيره توافقاً وثيقاً وفى إطار خطة واضحة مع وضوح اتجاه العمل، فإن النتيجة ستكون محدودة رغم الجهود الكثيرة التي قد تبذل في ذلك. وإذا ما استطردنا في تصيّد أخطاء بعضنا البعض وإهمال الاسهامات الايجابية للاخرين والتقليل من أهمية إنجازاتهم، فلن نتقدم ولن نحقق من أهدافنا شيئاً مذكوراً. لا بد أن نسعى للتخلي عن الشعور بأننا نحن فقط على صواب وأن غيرنا دائماً على خطأ، ويجب علينا الاعتراف لكل العاملين في الحقل العام بدورهم، وأن نسعى جميعاً الى تنسيق الجهود ونبذ التجريح والقدح فيما بيننا. ب - الوضع الراهن: هل هو الأسوأ أم الاحسن؟ كثيراً ما يقال: «إن وضعنا الحالي هو أسوأ ما يمكن أن نصل اليه، ولا يمكن العمل في مثل هذه الظروف، وأنّ علينا أن ننتظر وجود ظروف أفضل وأكثر قابلية للعمل». والواقع أن الظروف في عدد من بلادنا قد تدهورت باضطراد خلال العقود الاخيرة الا أن على الداعية ان ينطلق من اعتبار ان ظروفه الراهنة هي أفضل ما هو متاح له، ومن واجبه إنجاز أكبر ما يمكن إنجازه فيها. فنحن لا نعلم الغيب، وليس في وسعنا التنبؤ بمدى استمرار الاحوال على ما هي عليه اليوم. وتحضرني هنا نكتة ذلك المتفائل الذي سقط من الطابق العشرين في احد المباني العالية، وحينما مر بالطابق السابع سأله أحدهم من النافذة: «كيف حالك الان؟»، فأجاب: «انا بخير حتى الان» !! ان تفاؤلنا المتحفظ حول مستقبل الدعوة شبيه بشعور نبيّ الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام تجاه فرعون كما يصفه القرآن : اذهبآ الى فرعونَ انهُ طغى (43) فقولا لهُ قولاً ليناً لعلهُ يتذكرُ أو يخشى (44) (طه) فلسنا بأفضل من موسى وهارون عليهما السلام، وليس الناس اليوم بأسوأ من فرعون، وعليه ينبغي ألا نفقد الامل ولا نيأس من أوضاعنا الحالية. ج - الولاء لله أم للاسماء؟ بامكان كل من يعمل في الحقل الإسلامي أن يتحرك من خلال أي منظمة أو مجموعة، بشرط أن يظل ولاؤه الحقيقي لله سبحانه وتعالى أولاً وأخيراً. ويجب ألا تكون أسماء التنظيمات أو الجماعات حائلاً بيننا وبين ذاك الولاء (الاسمى لله سبحانه وتعالى). قد تستدعي اسباب استراتيجية أو تكتيكية تشكيل هيئات مختلفة او الغاء او تغيير هياكل تنظيمية قائمة، وينبغي ألا تختلط وسائل التنظيم بغايات العمل الإسلامي. واذ يبالغ بعضنا احياناً في الحماسة للاسماء والعناوين، يجب أن ندرك أنها مجرد وسائل، وان الهدف هو الفوز بمرضات الله وحده لوجهه الكريم. ان اضفاء قدسية روحية على منظماتنا تتعدى بهذه المنظمات الى أكثر مما هو مقصود منها فعلاً. وها نحن نقرأ في سورة يوسف قوله تعالى : ما تعبدونَ من دونهِ الا أسماءً سميتموها أنتم وءاباؤكم ما انزلَ اللهُ بها من سلطنِ انِ الحكمُ الا للهِ امرَ ألا تعبدوا الا اياهُ ذلك الدينُ القيمُ ولكنَّ اكثرَ الناسِ لا يعلمونَ (40) (يوسف) لقد ألحقت هذه الظاهرة ولا تزال بحركتنا ضرراً شديداً، ويعود ذلك الى قصورنا في فهم واستيعاب الهدف الاسمى لاعمالنا. خامساً : الرصيد كثيراً ما نأخذ الامور وكأنها مسلّمات وننسى الفوائد الجليلة التي قدمتها لنا الحركة الإسلامية عامة خلال القرن الرابع عشر الهجري. وأقل ما يقال لصالح الحركة هو أنها أدت دور حماية الإسلام والمسلمين ورفعت راية الدعوة الإسلامية عالية على الرغم من كل الصعوبات. ولا شك في أن الحركة وقفت كقلعة شامخة ضد الهجمات الشرسة من اليمين ومن اليسار، وفي الوقت الذي كانت فيه الحركة القومية خاوية ومفلسة عقدياً واخلاقياً، قدّمت الحركة الإسلامية باستمرار اثراءً للامة عن طريق توفير الحصانة والقوة الروحية المستنيرة واللازمة لقيادتها الى الرشاد. كما عملت الحركة جاهدة للحفاظ على هوية الامة الإسلامية التي كادت أن تتفكك الامة بدونها وتذوب في نزعات مختلفة من اشتراكية ورأسمالية ومادية وعرقية وقومية. ويمكننا أن نقول بشيء من الثقة ان الحركة الإسلامية قد تفوقت على جميع الاحزاب والاتجاهات غير الإسلامية. فقد تصدرت الحركة الجهاد ضد كل مستبد وظالم، وحملت لواء محاربة الشر والفساد ودفعت مقابل ذلك تضحيات باهظة من سجن وتعذيب واستشهاد، وتصدت الحركة للطغاة والمعتدين وجابهتهم بظلمهم وعسفهم وطالبتهم بالتنحّي واعطاء الناس حرياتهم. وقد ذهب عدد كبير من الإسلاميين ضحية هذا الموقف وتعرضوا لاشد أنواع الاضطهاد والتعذيب والتشريد. لقد بذل أتباع الحركة المنكرون لذواتهم أقوى الجهود لمقاومة الاستعمار في فلسطينوالجزائروأفغانستان وكشمير وغيرها، ويرجع ذلك بكل وضوح الى روح الاخلاص والتضحية والتفاني الشديد لدى أتباع الحركة المؤمنين. ان اليقظة التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم انما تعود أساساً الى جهاد الحركة الإسلامية المضطرد. ولم تكن هذه الصحوة محلية أو خاصة بمجموعة معينة من الناس، وانما جاءت شاملة في طبيعتها، واكتسحت الصحوة دولاً عديدة مثل أندونيسيا وماليزيا وبنغلادش وباكستان وأفغانستان وايران وتركيا ومصر والسودان وتونس والجزائر،و المغرب، ولم تخل أية بقعة اسلامية من آثار هذه الموجة العارمة. ويكفي ان نسجل هنا أن وجودنا اليوم كاسلاميين انما هو نتيجة مباشرة للحركة الإسلامية العالمية، ولله الفضل والمنّة. وفي الوقت الذي نحكم فيه بعدم نجاح حركات التغريب والعلمانية والشيوعية في القرن الميلادي العشرين، فاننا نشعر بثقة كبيرة ان الحركة قد احرزت تقدماً خلال القرن الرابع عشر الهجري، مما يجعلها في عداد من اجتازوا الامتحان بنجاح. ان الحمد كله للّه، واليه نتجه بالدعاء ان يسدد خطانا على صراطه المستقيم في القرن الخامس عشر الهجري. المصدر: دليل التدريب القيادي / هشام الطالب / المعهد العالمي للفكر الاسلامي