يؤكد الدكتور عبد الحميد أبو سليمان،، رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، في حوار مع التجديد، أن الإسلام هو المنقذ للإنسانية من الصراعات وما نراه من توترات ومخاطر، وهو الذي يجعل هذا التقدم البشري العمراني بناء وأساسا لعدل وإخاء، وأشار أبو سليمان إلى أن علينا العمل لإثبات أننا أصحاب رسالة عالمية صالحة، وعلى كل واحد منا أن يدرك أن عندنا عيوبا تحتاج إلى نظرة نقدية صادقة، وأن نسهم ولا ننتظر سوانا يفعل. مرحبا بالدكتور عبد الحميد أبو سليمان على صفحات جريدةالتجديد، باعتباركم رئيس معهد الفكر العالمي للفكر الإسلامي، ما هي القضايا التي يشتغل عليها المعهد حاليا؟ بسم الله الرحمان الرحيم، في الواقع الذي يشتغل عليه المعهد حاليا هو نفس القضايا التي اشتغل عليها قبل ذلك، لأنها قضايا أساسية، وتتعلق بكيان الأمة ووضعها الحضاري والأسباب الأساسية الكامنة وراء تخلفها، ومنها مظاهر الإشكال الحضاري، وهو على حد تعبير المرحوممالك بن نبي، إشكالية القابلية للاستعمار ، والأمة ما تزال تعاني من هذا التحدي، ولم تستطع تخطيه، وبالتالي لابد من استمرار المعالجة حتى تتضح الرؤية، وتستطيع الأمة بفضل الله من تحقيق أهدافها ومواجهة تحدياتها، ولذلك فالأحداث والإشكالات المضاعفة لا تغير من برنامج المعهد، والذي هو النظر المعمق في جذور أزمة الأمة وتحدياتها ورسالتها. لكن يلاحظ أن الإنتاج الفكري للأمة في بحر التسعينيات كان غزيرا بالمقارنة مع الوقت الراهن؟ هذا الرأي، في ظني، ليس دقيقا، ففي نهاية التسعينيات عندما كنت عميدا للجامعة الإسلامية بماليزيا والتكوين في العلوم الاجتماعية، انتقلت إلى هناك(أمريكا) واستعادت برامج المعهد مكانتها، كما أن مؤتمراته التي تعقد مع الأساتذة الجامعيين بالتعاون مع المؤسسات العلمية والأكاديمية هي في ازدياد وليست في نقصان من هذه الناحية، والمعهد ما زال ينشر الكتب، ولكنه ما ينشره يتم بالاشتراك مع ناشرين، وبالتالي تصدر كمنشورات مشتركة، ولكن نشاط المعهد لم يتأثر بشيء وهو مستمر. بعد أربع سنوات على أحداث شتنبر، ما هي تداعيات هذا الحدث على عمل المعهد؟ المعهد عانى من مضايقات، لأن ما وجه إليه من تهم غير صحيحة كان من أجل تشويهه، ومجرد متابعة التحقيقات التي لا طائل من ورائها معناه وجود تكاليف مالية، ومن هذه الناحية فقد ألحق الأذى بالمعهد بغير وجه حق، والأطراف الأخرى لا تدرك أن هذا يؤثر على التوجهات المعتدلة وإشغالها بما لا فائدة فيه. وقد وجهوا للمعهد اتهامات في أوائل 1002 بكونه يمول الإرهاب، وهو من قبيل تشويه السمعة والإشغال في ما لا طائل من ورائه، وها نحن في 5002 ولم يظهر أي شيء، لأن طبيعة المعهد واضحة وطريقته بناءة . يلاحظ المتتبع حركية التنظير السياسي وغلبته على باقي المجالات الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية ، إلى أي أمر يرد ذلك؟ هذا غير صحيح، والذي يقول هذا لا يعرف عمل المعهد، فالمعهد ليس له اهتمام بالقضايا التنظيمية والحركية اليومية، لأن هذه مظاهر الأزمة وليست الأسباب، والمعهد همه القضايا الفكرية والثقافية والنفسية والحضارية، وإذا صلحت هذه فسوف تصلح الأمة أوضاعها، وتنظم أمورها بشكل مناسب. أما قضايا الأنظمة والإشكالات اليومية فهي كمن يسابق ظله، والمعهد كمعهد فكري ليس من طبيعته مسابقة ظله، والحمد لله فكل الأحزاب والمسؤولين والأمة مشغولة بقضايا السياسة. تتنوع مداخل الإصلاح للوضع العربي والإسلامي، في نظركم أي المداخل ترونه أفضل وأسرع لتحقيق الإصلاح؟ نريد أن نتراجع عن كلمة أسرع، لأن هذه إحدى مشاكل الأمة، إذ نريد أن يأتي أحد ليحدث التغيير غدا،والحال أن الإصلاح قضية بنائية وحضارية تأخذ مداها بتوفير شروطها، أما مداخل الإصلاح وإخراج الأمة من محنتها الحضارية، لا شك أنها لن تكون سوى قاعدة الإسلام، لأنها شخصية الأمة. ولا شك أن الرؤية المطروحة في العصور المتأخرة فيها تشوهات كبيرة، لابد من إصلاح هذه التشوهات وإعطاء الأمة الرؤية الحضارية الصحيحة المنطلقة من أهدافها ومبادئها، وليس هناك في الإسلام من الأهداف والمبادئ ما يعترض عليه، فكلها تكون كيان متكامل سام. وهذا أحد آمال الإنسانية في تحقيق التواصل على أساس وحدة الإنسان ومن منطلق حرية الإنسان في العقيدة والفكر، ومن منطلق البناء الحضاري في عالم الدنيا، وإذا أريد لهذه الأمة أن تنهض لابد من إصلاح هذه التشوهات، وبالتالي التكوين الفكري العقيدي والوجداني الصحيح، والذي يؤدي إلى تحقيق رسالة الإسلام السامية. ذكرتم من مظاهر أزمة الأمة وجود تشوهات في الفكر الإسلامي، ماذا تقصدون بهذه التشوهات؟ نحن نجد أن الفكر الإسلامي يمثل ثقافة الأمة ورؤيتها، وعندما تنظر إليه، خصوصا مجال الذكر الذي يقصد منه دفع العمل الإنساني والحضاري، والذي يسمى العبادات، بينما أي عمل بما فيه جماع الرجل مع زوجته بهدف إشباع حاجاته وحاجات تكوين أسرة،يكون للإنسان به أجر، نجد أن التصور المطروح في قضايا الصلاة والصيام والذكر الذي يحض على العمل يصبح غاية في ذاته، وتصبح الحياة قضية هامشية، وكذلك قضية الاستخلاف والإعمار، ويكون الوضع هو مجرد إصدار فتوى في هذه المعاملات، فهذه الرؤية ليست رؤية حضارية، ولا عقيدة حضارية، وإنما هي تعبير عن الحال الذي آل إليه مفكرو الأمة ورجال الدين، الذين بقوا مسجونين في المساجد، فحصل الانفصام والتهميش واللامبالاة وعدم الاستجابة لنوازع الإنسان في المعرفة والبناء والسير في الأرض والكون. ومن المفروض الوعي بوجود أمة إسلامية، والأمة في الواقع تصور ومفاهيم ورؤية حضارية للإنسان، فأين الأمة الإسلامية التي أخرجت للناس؟ الأمر راجع لسبب بسيط وهو أن كتاب الفقه ذو البعد العام مفقود في هذه الرؤية تماما، فليس هناك شورى ولا عدل ولا تكافل ولا مؤسسسات اجتماعية..لذلك اهترأت المؤسسات العامة، وانعدم مفهوم الأمة في ثقافة الإنسان المسلم، وأصبحنا ممزقين متناحرين، لا ننتمي إلى هذه الأمة إلا بالكلمة. هذا نموذج لهذه التشوهات، الأمة في حاجة إلى فهمها والعودة إلى القرآن الكريم الذي يعطي التصور الكامل والمتكامل الشامل لمعنى الإنسان والإنسانية ومعنى الوجود وغايته، وليس الاكتفاء بنصوص السنة المشرفة، التي كانت تخاطب أناسا معينيين في ظروف معينة، وقد كانوا قبائل بدائية، لإخراجهم من القصور الاجتماعي إلى العقلية الاجتماعية في أبهى صورها ، فهناك كما جاء في قوله تعالى:(وقالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، فلا يجب الانحسار في نصوص السنة في أبعادها الزمانية والمكانية، وعدم إرجاعها إلى أساسها القرآني الشامل، ولن نستطيع أن نمد الإنسان في هذا العصر بتحدياته والمرحلة الحضارية التي يمر بها إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم وفهم السنة النبوية وطبيعة التجربة النبوية وكيفية الاستفادة منها كنموذج. ومن خلال المفاهيم القرآنية نستطيع أن نفهم ما يجب أن نفعل، وما هي أهداف الأمة، وما هي رسالتها لتكون أمة حضارية رائدة على أساس مبادئ الإسلام. ألا ترون أن هذا المدخل بعيد عن الواقع في ظل تسارع الأحداث التي تمر منها الأمة؟ البعد الحضاري شيء لا ينفصم عن طبيعة الإنسان، وبه تتم المعرفة والرغبة في تيسير وسائل حياته بتسخير معطيات الكون، وهذا الذي قصده القرآن بجعل الإنسان خليفة في الأرض، ولأجله علم آدم الأسماء كلها وعلمه الأمانة، وكل هذا تعبير عن طبيعة الإنسان وماهيته ورسالته في الحياة، فهو بدأ بابن آدم الذي لا يعرف كيف يواري سوءة أخيه، والآن هو يجوب الفضاء، فما الذي تغير على مرور الأجيال حتى نفهم لماذا وجد الإنسان؟ الإنسان لم يتغير ولكن النمو العمراني والحضاري هو الذي تغير، والحضارة هي التي تغيرت، أما الإنسان فهو مشروع إلهي، فله الخيار لكي يبني ويعمر، ولكن المطلوب أن يكون في سبيل الخير، ولما يكتمل هذا المشروع الحضاري مثل أي كائن على وجه الأرض سينتهي:(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).(والله أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، وقال تعالى:(خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). فالإنسانية هي الحضارة والعمران الخير، وأي فهم غير ذلك، هو في الواقع إلغاء هذا الوجود وجعله عبثيا، والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثا. لكن مفهوم الإنسانية نفسه تم تشويهه، وارتبط بمفاهيم منحرفة مثل الماسونية وغيرها؟ لذلك مطلوب إحياء الأمة وإحياء الرؤية القرآنية وجعلها تستأنف مسيرتها نحو الخير، فالذي يحكم الإنسانية هو واقع الإنسان بين قوتي الأمانة والخيرة، الطين وقانونه قانون الغاب والحيوان وقانون الحق للقوة، والروح والنور قانونه هو القوة للحق، ولذلك فالعدل قوة أساسية.وكل المطلوب هو العمل والبناء والاستمتاع، ولكن في اتجاه القوة للحق، وليس قانون التظالم والقوة، والآن فالعالم يعيش في إطار قانون الغاب، ورفض الأديان وما تقدمه من هداية في هذا الباب، فالمطلوب استعادة قانون القوة للحق والروح والعدل، والمسألة مسألة وقت فقط، ولذلك خلقهم. دخل العقل الإسلامي ما يسمى مرحلة كمونللقيام بواجبه نحو الإنسانية عامة، ما أسباب هذا الكمون؟ أنا لا أسميه كمونا، ولكن أسميه تشوها، فلا شك أن سقوط الخلافة الراشدة هو المؤشر، حيث كان الصراع ما بين المفاهيم البدائية والقبلية وبين المفاهيم العالمية الإنسانية للإسلام، وأدى هذا الصراع في النهاية إلى عزل مجتمع المدينة، ومن هنا بدأت تشوهات العقل المسلم نتيجة هذا الإبعاد عن الحياة العامة والحصر في المساجد، وبدأ العقل المسلم يفقد منطلقاته المبنية على التوحيد وعلى السببية والعدل، وهنا حصل تشوه للعقل المسلم، والمطلوب إجراء عملية جراحية إنسانية قرآنية لإعادة صحته. ما هي الآليات لإخراجه من سباته؟ المطلوب هو وعي المسلمين، وأقصد بالذات المفكرين والتربويين والعلماء، بهذه الإشكالات، والنظر الناقد الجريء الذي لا يمنع بسبب المخاوف والضغوط، بحيث يقدم الرؤية، لأن الإنسان بطبيعته يبحث عما هو أفضل، وهو يبحث عن حل لمشكلاته ومواجهة تحدياته، وعملية استعادة الرؤية هي مهمة المفكرين والتربويين، فالأمة تحتاج إلى ثلاث جوانب من الإصلاح، وهي كلها بيد المفكرين والعلماء، وهي نفس الإشكاليات التي وقع فيها بنو إسرائيل في مصر، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث للعرب وقد كانوا قبائل شتى في الصحراء، لم يحكمهم أباطرة الاستبداد، فكانوا أناسا أحرارا، أدركوا الرسالة وانطلقوا في الأرض من المغرب حتى بلاد السند، فجيل الخلفاء الراشدين الذي تربى مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي نشر الإسلام. أما الآن فنحن أقرب إلى الاستعباد مثل بني إسرائيل أيام موسى عليه السلام، نتيجة الظروف التاريخية، وتكونت لدينا نفسية العبيد، التي تتميز بالخوف وعدم المبادرة، فليس للمسلمين إسهام، وسيدنا موسى يخاطب فرعون:(وتلك نعمة تمنّها علي أن عبدت بني إسرائيل)، فأخذهم موسى عليه السلام إلى سيناء، وأخذوا الأرض وبنوا الملك بالأرض المباركة، ولكن كانت لديهم السلبية وغياب روح المبادرة:(اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ونحن الآن نحتاج للتخلص من هذه النفسية إلى إصلاح فكري عقيدي:(وكتبنا له في الألواح من كل شيء)، وبعدها:(وامر أهلك ياخذوا بأحسنها)، أي لا تفسرها غلط، فأمامك النص تنظر فيه نظرة جزئية أو انتقائية، يجعلك لن تخرج بنظرة شمولية. والأمر الثاني هو:(قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تاس على القوم الفاسقين)، فلماذا أربعين سنة؟ إن المعرفة تتغير من المهد إلى اللحد، أما الوجدان، فهو لا يتكون إلا في الطفولة، فمن شب على شيء شاب عليه، ولذلك تجدنا نعلم ما هو الصواب ولا نفعله، ونعلم ما هو الخطأ ونفعله، لأن وجداننا غير عقيدتنا الفكرية، وبالتالي لابد من التنسيق بينهما، وبذل مجهود لإصلاح الفهم العقيدي العالمي الإنساني الحضاري والعمراني.وهذا يستدعي إزالة تشوهات الفكر والعقيدة والالتزام النفسي، ليؤدي بك إلى الفعل وليس أن تصبح:الإنسان العاجز الضعيف الذي لا يفعل شيئا، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، فالآية:(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ..)، التي تعني: اطلب الرزق والعمران وتمتع به في الدنيا وسوف تستمتع به في الآخرة. فالألواح بالنسبة لبني إسرائيل جاءت للإصلاح العقيدي والفكري، ونحن عندنا القرآن الكريم. فالعقيدة الحضارية تحتم عليك أن تكون توحيديا وإنسانيا عالميا وسببيا، وبالتالي يتحتم عليك أن تتسق مع هذه الرؤية السليمة، وعلى هذا الأساس نعرف طبيعة الإشكالات بالنظر في واقع المجتمعات وممارساتها وأساليبها التربوية، وبالتالي يأتي المربي ويصلح وينور الآباء كيف يتعاملون مع أبنائهم، وما هي الأساليب التي يمكن بها أن نجعل الطفل في وضع أرقى ليكون ذا نفسية إبداعية شجاعة وصادقة وعمرانية. وبعد ذلك لابد من ثورة تربوية تدرك طبيعة إشكالات التربية في الأمة: طبيعة المفاهيم، فتعي مثلا الاستبداد السياسي على كل المستويات من الأب في الأسرة والزوج في البيت والمدرس في المدرسة والموظف في الإدارة، أي الاستبداد في كل المستويات، فيجب إعادة النظر فيه لإخراج إنسان سوي قوي ومحب لله سبحانه وتعالى، وطالب للعمران من حيث رؤيته وطريقة تدريبه وتربيته، تعكس كل القوى الإيجابية في كيانه وتصوبه في اتجاه الخير، وهذه رسالة المثقفين والمفكرين والتربويين والعلماء والآباء. أما الحكام والأنظمة فليس إلا بذرة لما يبذر هؤلاء، وكما تكونوا يولى عليكم، وإذا قام أولئك برسالتهم تستقيم رؤية الأبناء وتفكيرهم، فتتكون القاعدة الحضارية التي تنبني عليها مؤسسات المجتمع وأنظمته، ودون هذا لن ننتظر من يعمل الإصلاح، سواء الأممالمتحدة أوالاتحاد الأوروبي، فطبيعة المؤسسات هو الحفاظ على الوضع القائم، وأي تغيير يكون من أجل المحافظة عليه، فبتصحيح الرؤية تكون المؤسسات في وضع أفضل. ما هي آليات تكوين النفسية الإيجابية لدى الإنسان المسلم؟ هذه مسؤولية المؤسسات الجامعية والأساتذة والآباء، كل من موقعه، فهؤلاء عندما يدركون هذا يسهمون من جانبهم، لأن القضية حركة أمة، وليست مهمة واحد ينزل من السماء وينجز التغيير بين يوم وليلة، والشيء الآخر أنه من المعروف أن أي حمل لا بد أن يقضي فترة حتى يكتمل ويصبح جنينا، فلابد من الصبر والمعاناة حتى يتحول القطر إلى سيل، فالطائرة التي تتدرج على المدرج تحمل من الطاقة ما يكفي لانطلاقها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى ثلاثة عشرة سنة، وكأن الأمور تبدو أنها تسير نحو الأسوء، وفي لحظة الانطلاق حيث تستجمع الطاقة الكاملة يتم الانطلاق، ففي مدة عشر سنوات يتغير العالم، فعلى كل مسلم من موقعه أن يدرك هذه الحقيقة، وأن يسعى للبحث عن إدراك الرؤية العقيدية ومنهج الفكر وأساليب التربية، وكل في مجاله عليه أن يبذل جهده في البحث والحوار والتفاعل، إلى أن تتضح الرؤية التي تسمح بالانطلاق الفعلي. صدر لكم أخيرا كتاب حول تقوية الوجدان، ما هي الفكرة الأساسية للكتاب؟ قبل هذا الكتاب كان قد صدر لي كتاب أزمة العقل المسلمبحثت فيه أسباب ذلك في التوحيد والسببية وما نتج عن هذه الأزمة من تشوهات، وأشرت أنها نتجت عنها أيضا تشوهات نفسية تحتاج إلى علاج مستقل، والكتاب الأخير يعالج أزمة الإرادة والوجدان المسلم، فنحن تنقصنا الإرادة، وتساءلت: ما هي الإرادة وكيف فقدناها وكيف نستعيدها؟. فمنذ أبي حامد الغزالي، أي قرابة ألف سنة، تبينت الأمة أن لديها أزمة فكر، فعبر عنها أبو حامد الغزالي بإحياء علوم الدين، وكذا بتهافت الفلسفة، فمنذ ذلك إلى الآن قامت عشرات أو مآت حركات الإصلاح في كل اتجاه، في المجال المدني والديني والشعبي والنخبوي والغربي والشرقي، وكلها أفادت، ولكنها لم تستنهض الأمة، والسؤال ما الذي نقص؟ أين الخلل؟ والكتاب حاول أن يتعامل مع هذه القضية، وهناك كتاب سيصدر قريبا إن شاء الله تعالى حول العقيدة الحضارية، لأنها تمثل الرؤية والدافعية، فالطفل الصغير قبل أن ينطق بالكلام طول وقته يرقب ما يجري حوله بتركيز شديد، وعندما ينطق تجده يسأل، فهو يريد أن يعرف في صراحة وشجاعة، هذا الصغير عندما يكبر ويدخل الجامعة ويتخرج منها، تجده أنه ليس بينه وبين المعرفة صلة وليس فيه شجاعة، وليس فيه ملاحظات، وهو مليء باللامبالاة، ونحن نتساءل:كيف أمكن لهذه التربية أن تنتج هذا الكم من التشوهات في منطلقات هذا الطفل، يجب أن نسأل أنفسنا بكل صراحة: لماذا الأمة مهمشة؟ ولماذا الإنسان المسلم ليس له مشاركة؟ لماذا كل همه أن يعيش وأن يستجيب استجابة بدائية لاحتياجاته الغرائزية؟ كل هذه قضايا تنتج من عدم وجود الدافعية والتشوه في التعبير عن العقيدة، وحركة النوازع والطاقات لدى الإنسان، وهذه مسؤولية العلوم الاجتماعية والشرعية، أي كيف تكون العقيدة الدينية تتجاوب مع طبيعة الطاقات وتحركها، فلابد من إصلاح الرؤية العقيدية وإزالة التشوهات في منهج التفكير ومناهج التربية. يلاحظ أن التوصيات الصادرة عن الندوات التي ينظمها المعهد بشراكة مع بعض المؤسسات تبقى تنظيرية وحبيسة الرفوف؟ هذا السؤال ينم على العجلة واستباق الأحداث، قالوا قديما إن الحرب أولها كلام، وقبل أن يصبح الأمر واقعا لا بد أن يكون فكرة ورؤية وكلمة، ينجم عنها واقع، بالنسبة للمعهد مهمته الفكرة والرؤية والكلمة، فمتى تستجمع الطاقة الكاملة لتتحول إلى أفعال في واقع الأمة، ونحن نحاول الوصول إلى صناع عقول الأمة من خلال الجامعات والمؤتمرات والمطبوعات وفتح الحوار وطرح القضايا أمامهم للتفكير فيها، وهذا لا بد له من وقت، لأن تصبح من ثوابت عقل المسلم ومن اهتماماته ومن تطلعاته للفعل، قبل ذلك لن يحدث التغيير، فالمجاهرة بالقول وبأننا خير أمة أخرجت للناس وإظهار عيوب الآخرين، هذه أقرب إلى المهاترات اللغوية، ورغم أنها تدفع إلى شحذ الهمة وتبين أهمية الرسالة، إلا أنها في ذاتها ليست الحل، فالحل هو تطوير رؤيتك وإشكالاتك ومعرفة علاجها من خلال صناع العقول، المدرس في طريقة أدائه، والمربي في طريقة تربيته، والمفكر في كتابته ورجل الدعوة في دعوته، أي لعامة الأمة ليتحول إلى فعل وليس قبل ذلك، والمطلوب أن يشعر كل مثقف أن هذه الإشكالية هي مشكلته، عليه أن يفكر فيها ويغيرها إلى تيار في الأمة. ألا يتقاطع هذا المشروع مع صناع الحياة الذي يقوم به الداعية عمرو خالد؟ لا شك أن جهود عمرو وغيره هي من ثمرات الفكر الإسلامي لخمسين سنة الماضية، فنحن لا ننسب كل كلمة يقولها الناس إلينا، ولا نقول إنما نقوله ليس له أثر على من يقرؤنا، فشخصيا تأثرت بفكر الغربيين وبفكر الإخوان بمصر وبفكر التراثيين.. وكل هذا له تأثير علي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والحكم أن أفكار هذا الشخص نتيجة لهذا الفكر تبسيط لتكوين عقلية المفكر. من المشاريع التي تواجه المشروع الإسلامي هو المشروع العلماني، كيف يتم التعامل مع هذا المشروع؟ المنطلق العلماني نتاج حضارة غربية وظروف غربية وجزء من عملية إصلاح غربي له طبيعته، ارتبط بتشويه المسيحية، إذ أصبحت قيدا على عقل الأمة في العصور المتوسطة، فكان هذا مخرجا لأوروبا من تلك الأزمة، فتبنت الرؤية العلمانية وقامت مدارس فكرية وتربوية على هذا الأساس، ولكن مع الأسف همش الدين ورفض بشكل مطلق، وليس لديه ما يعطيه في مفهوم العدل والإنسانية، أما الإسلام فلديه ما يعطيه في هذا المجال، فالله تعالى حفظ القرآن من التشويه، فلا بد أن ندرك الرؤية العلمانية، لأنها تبقى تجربة إنسانية يستفاد منها مع الاحتفاظ بثوابتنا ومنطلقاتنا من أجل التفاعل الإيجابي بين الدين والعقيدة والرؤية الكونية، وإدراك معنى الإنسان وطاقاته الطبيعية وتطلعاته، فنحن في مرحلة ما بعد العلمانية. ما هي الرسالة التي توجهونها إلى كل شاب مسلم للنهوض بواقع الأمة؟ القضية الأساسية أن يدرك الإنسان المسلم أن الإسلام هو المنقذ للإنسانية من الصراعات وما نراه من توترات ومخاطر، وهو الذي يجعل هذا التقدم البشري العمراني بناء وأساسا للعدل والإخاء، وعلينا العمل لإثبات أننا أصحاب رسالة عالمية صالحة، وعلى كل واحد منا أن يدرك أنه عندنا عيوب تحتاج إلى نظرة نقدية صادقة، وأن نسهم ولا ننتظر سوانا يفعل، وعلينا أن نصبر، وأعتقد أن الإحساس بالمسؤولية والجرأة الأدبية في النظر في أحوالنا، والإحساس بأن هناك رسالة سيكون الخميرة لمزيد من الصلاح للإنسانية.