يشغل بال الباحث والأستاذ الجامعي الفلسطيني الحامل للجنسية المغربية، سعيد الحسن، هاجس التفكير في القضايا الفكرية المعاصرة التي تشغل بال العالم العربي والإسلامي، وفي سبيل بحث هذه القضايا أسس بالرباط مؤسسة خالد الحسن للدراسات والأبحاث، التي تعقد بشكل منتظم لقاءات فكرية تسمى «الديوانية»، يشارك فيها باحثون وجامعيون لمناقشة قضايا مختلفة، من تقييم ما يعقد من منتديات ومؤتمرات كمنتدى دافوس أو المؤتمرات العربية والدولية الأخرى، وموضوع العمالة العربية المهاجرة، أو قضايا مكافحة الفقر بالتنمية المستدامة.. في هذا الحوار نناقش معه هواجسه الفكرية ووجهة نظره في عدد من القضايا المرتبطة بالتنمية والتحرر والديمقراطية. ذ } هل يمكن أن توضح لنا ما يشغل بالكم فكريا وثقافيا في مركز خالد الحسن؟ - ما يشغل بالنا في الأساس، إنما هو قضية التحرر والنهوض العربي على وجه الخصوص.. إذ نراها المنطلق الواجب لمعالجتنا عربياً لأيما قضية أخرى محلية أو إقليمية.. فالتحرر هو شرط للحرية وطنياَ.. فإذا كانت الحرية هي ممارسة لمقدرتنا على تزكية واقعنا الوطني وإشباع حاجاتنا المادية والثقافية والروحية؛ فإن هذه الممارسة لا تكون إلا بالتحرر من القيود التي تحول دوننا وأن نمارس وطنياً هذه المقدرة وأن نوظفها وطنياً.. وهو أمر بديهي، فلا قِبَل مثلاً للأمم والمجتمعات الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي بأن تزكِّي واقعها وترتقي به وفقا لخياراتها الحرّة إلا بالتحرر من الاحتلال.. وهو ما يصدق أيضا على المجتمعات التي تقيدها تبعيتها للأجنبي.. خاصة عندما تتعارض هذه التبعية مع الخيارات والاحتياجات الحضارية للتابع.. فهذا التعارض هو أساس للتفرقة بين التكامل والتعاون من جهة وبين التبعية للآخر والاستسلام لهيمنة المتبوع من جهة أخرى.. } الخطاب السياسي الحديث يربط ما بين التنمية والديمقراطية، فهل ترون هذا الربط متلازما؟ - كثيرا ما يكون الحديث هذه الأيام عن الديمقراطية حديثا سوقيا، ربما لأن قوى السوق العاتية هي من يتصدر ويتصدى اليوم للحديث أكثر من غيره عن «الديمقراطية.. فالمشتري يقول للبائع كن ديمقراطياً، والولد يقول لأبيه كن ديمقراطيا وكذلك يقول الطالب لأستاذه والزوج لزوجه. كلمة الديمقراطية أصبحت تعني «جيد، حسن». لكن يستحسن الانتباه إلى أن الديمقراطية ليست هي الانتخابات والتصويت أو الاقتراع بحد ذاتهما. الانتخابات والتصويت وكذلك الاستفتاء والتعددية الحزبية ونظام التمثيل النيابي؛ وكذا تدوين الدساتير والحريات العامة والتعليم أيضاً: هذه كلها مكتسبات لا غنى عنها لأي نظام معاصر يدّعي أو لا يدعي لنفسه الصفة الديمقراطية.. إن الصفة الديمقراطية بالأساس تتعلق في رأيي بمجالات وكيفية وأسس توظيف العمليّات والأساليب والأدوات السياسية والاجتماعية آنفة الذكر.. ومن جهة أخرى، فإن أساس الصفة الديمقراطية في رأيي يتحدّد، ثانياً، بمنظومة القيم السياسية: أي ما تلتزم الجماعة بتحقيقه للأفراد.. الاشتراكية مثلاً تلتزم بالمساواة كأساس لهذه المنظومة، وإلى الحد الذي يمكن فيه (كما هو شأن الماركسية) أن تلغي فيه الملكية الخاصة بذريعة تحقيق المساواة الاقتصادية بين أفراد المجتمع.. أما الليبرالية الرأسمالية فهي كما نعرف تجعل الحرية، بما فيها الحرية الاقتصادية، هي أساس منظومة القيم السياسية.. } إلى ماذا يقودنا هذا الطرح؟ - من جهة، أرجو أن يوضح ما سبق جانباً من علاقة الديمقراطية بالاقتصاد، وبالتالي بالتنمية.. لكنه من جهة أخرى، يبيِّن كما أرى، أن الإسلام يتعالى ويسمو عن الديمقراطية.. أولاً لأن للفرد حرماته الراسخة في الإسلام، لكنها حرمات لا تراه فرداً وإنما إنساناً وسط الناس والذين يشتركون جميعاً في العبودية للحق؛ كما أنها حرمات لا تنفي الحرمات المقرّرة إسلامياً للشجر وللحجر، ولكل الأشياء وللكون بأسره: لكنها تظل حرمات نابعة من التسليم بالربوبية والألوهية لله الأحد المنفرد بالقدسية دون الإنسان والأشياء والظواهر بلا استثناء وحيث السرمدية والأبدية هي صفات للخالق وليس للمخلوق.. وثانياً لأن منظومة القيم السياسية في الإسلام تقوم ابتداءً على العدالة التي لها أن تنتظم الحرية والمساواة كلتيهما.. فحضارتنا إذن تجعل «التوحيد بالله الحق» هو قيمتها الجماعية العليا. لذا، فإن ما أعنيه بقولي أن التحرّر هو شرطٌ للحرية، إنما يتطلّب (في ما يتطلّب) أن نتحرّر من التماهي بلا تعمّق أو إدراك صحيح للسائد من المقولات الفكرية.. إذ لا معنى للتحرّر السياسي في ظل التبعية الفكرية.. وليس هناك ما هو أكثر تهديداً للحرية السياسية أو الاقتصادية من التبعية الفكرية وبالأخص عندما تمارس تحت عناوين الحرية الفكرية ذاتها.. كما أن التبعية لا يمكن أن تكون اختياراً يجعل منها حريةً.. التبعية تظلّ تبعية وإن ادّعت التحرّر.. كذلك فإن التنمية القائمة على التبعية تظلّ تنميةً لتبعية التابع للمتبوع.. } كنتم قبل قرابة الشهر عقدتم مؤتمراً دولياً حول «التنمية والخطاب الإنساني المشترك».. ما الهدف من عقد مثل هذا المؤتمر؟ - نعتقد أن للتعثرات التنموية في بلادنا صلتها الأكيدة بالتعارض القائم بين المنظومة القيمية التي تحكم النماذج التنموية التي نتبعها، وبين المنظومة القيمية التي تحكم مدركاتنا الجماعية المميزة لمجتمعنا ولحضارتنا، والحاكمة بالتالي لسلوكنا.. ومن ثم فإنه لابد لنا من إدراك معالم وأبعاد المنظومة المعرفية والقيمية الحاكمة لوعينا الجماعي: وكذلك إدراك معالم وأبعاد منظومة نماذجنا التنموية المستوردة.. هذه بداية لابد منها لنتبين مواقع أقدامنا ومواضع عثراتنا التنموية وحقيقة خياراتنا واحتياجاتنا المجتمعية.. ولقد عقدنا «مؤتمر تنميتنا والخطاب الإنساني العالمي» للنظر في تنمية مجتمعاتنا بما لا يغفل مقتضى مراجعة وتأصيل وتفعيل منظومتنا المعرفية والقيمية (العربية الإسلامية) الناظمة لتنميتنا المنشودة.. أعني التنمية المنسجمة مع اختياراتنا الحضارية ولمقتضى تحررنا فكرياً واقتصادياً؛ إذ لا بدّ لأيما سياسة اقتصادية أن تفرض تلقائياً خيارات قيمية ومعرفية بعينها أرادت ذلك أم لم ترده.. فنحن مثلاً عندما نطلق العنان لنهم السياسات الاقتصادية الليبرالية غير المقيّدة نكون قد تبنّينا تلقائياً نموذجاً معرفياً يقوم على قيم الداروينية الاجتماعية التي تجعل من الحياة الاجتماعية غابة يفترس فيها الأقوياء الضعفاء.. وفي هذا السياق أيضا يأتي تأسيس مركز الدراسات والأبحاث بمؤسستنا، لوحدة «الدراسات الإفريقية» والتي عقدت، مع ضيوفها من الباحثين الأجلاء، أوّل لقاءاتها عند اختتام أعمال ذلك المؤتمر؛ وفي ذات السياق تأتي أيضا الجهود الراهنة للمركز في تأسيس وحدة «المنهجية» لدراسة القيم والنظم والمفاهيم المؤطرة للعمل العام.. وهي كلها جهود يشارك فيها باحثون شباب جلّهم بمرحلة الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، ومعنيّون بقضايا أمتهم وشؤون مستقبلها. } ماذا عن موقع «الخطاب الإنساني العالمي» والديمقراطية بالنسبة إلى العملية التنموية؟ - هنا علينا كما أحسب، أن ندرك أن تمايزات المنظومات الحضارية لا تتحدد بتمايز مفرداتها من القيم والمفاهيم، بقدر ما تتحدد بالعلاقة الناظمة لها والمُفعِّلة لها، وبقدر ما تتحدد برؤيتنا لمتطلبات تطبيق هذه المنظومات الحضارية في الواقع المعاش.. ومن هنا فالديمقراطية ليست أبداً مجرد مجموعة من المفردات: كانت قيماً كالحرية، أم مبادئ، كمبدأ الفصل بين السلطات، أم نظاماً كنظام التمثيل النيابي، أم أسلوباً كالتعليم، أم أداةً كالاقتراع؛ وإنما هي منظومة متكاملة تحكم كل ما سبق من المفردات وفقاً لعلاقة متميزة.. وقد تتكامل هذه المفردات عينها مع غيرها وفقاً لمنظومة مغايرة من العلاقات في ما بينها فتصبح بذلك شيئاً آخر غير الديمقراطية، وربما أسمى وأنجع وظيفياً وحضارياً بكثير... لذا، فإننا نجد أن الخطاب الإنساني «العالمي» هو في حقيقته الخطاب الإنساني «المشترك» الذي يستمد جذوره وقوامه من الانفتاح والتلاقح والفهم المتبادل بين الأفكار والرؤى والثقافات والحضارات المختلفة، وذلك من أجل تقويم الدوافع والمفاهيم التي تؤدي إلى الاضطراب والصراع واللامساواة ومن ثم تداركها وتجنبها.. وهذا يقتضي مراجعة العلاقة الناظمة لمفردات منظومتنا المعرفية والقيمية على وجه الخصوص، إذ بذلك يتأتّى من بعد تفعيل أفكارنا ورؤانا وثقافاتنا المتجددة على أساسٍ من الإنسانية المشتركة المحققة لعالمية الخطاب، ولحياة البشر بسلام قائم على العدالة والحق والمساواة، فالعدالة والمساواة هما ما يصنع الأمن والسلام؛ الهيمنة والتبعية لا تصنعهما.. } وما أبرز ما أسفر عنه مؤتمركم عملياً؟ - إلى جانب الإعلان عن تأسيس وحدة للدراسات الإفريقية، والمضي في استكمال وحدة للدراسات المنهجية داخل المركز وهي بمثابة خلية للتقييم والبحث الإستراتيجي، نحن نحضر الآن لورشة عمل كبيرة ستناقش عددا من المحاور تنتج عنها رؤية استراتيجية يساهم شبابنا من الباحثين في تكوينها وبلورتها. الغرض الأساسي هو أن يتكون لدينا مراس وتعميق لمقدرتنا على التفكير والبحث الإستراتيجي. بالطبع، لفت المؤتمر النظر إلى قضيتين أساسيتين هما أولاً أن التحرر شرط للتنمية وأنه «لا يمكن بناء تنمية حقيقية في ظل التبعية»، وهو ما تؤكده مدارس الفكر السياسي بما فيها التوجهات الليبرالية ذاتها. فالتحدث مثلا عن التنمية في ظل الاحتلال لا يستقيم. أي تنمية يمكن أن تكون الآن في العراق؟ أو أي تنمية يمكن أن تكون في الضفة أو في غزة؟ أو في الأقطار التابعة بفكرها وسياساتها لغيرها؟.. بالتالي يجب على موضوع التنمية أن يأخذ بعين الاعتبار التحرر من التبعية ومن الهيمنة لكونه شرطا أساسيا لتحقيق التنمية المرجوة. } لماذا ركزتم في المؤتمر على مناقشة التقرير المصري «أمتي في قرن»؟ - هذا ليس أول مؤتمر لمؤسسة خالد الحسن، فمركز الدراسات والأبحاث التابع للمؤسسة عقد من قبل، وبالشراكة مع جامعة محمد الخامس أكدال، وبالتعاون مع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة، مؤتمراً نوقش فيه حينها «تقرير الأهرام الاستراتيجي».. وكانت لهذا المؤتمر أصداؤه وكتب عنه في مقدمة التقرير الاستراتيجي العربي الذي تلا ذلك المؤتمر. أما المؤتمر الذي عقدناه مؤخرا فقد تناول مدرسة مختلفة عن مدرسة الأهرام، وهو ما ارتأينا أنه أفضل من الاستمرار في مناقشة اجتهادات نفس المدرسة. } هل يمكن أن تشرح لنا طبيعة المدرستين؟ - مدرسة «الأهرام» تتبنى التحليل السياسي بالدرجة الأولى، وهي معدة أساسا لصانع القرار وأيضا للأكاديمي والباحث، ولذلك فمركز الأهرام له احتكاك كبير بالدبلوماسيين والسياسيين، وعدد كبير من مراكز الأبحاث الاستراتيجية الدولية، لذا لم يكن غريباً أن يصنّف مركز الأهرام مؤخرا كأحد أهم ثلاثين مركز تفكير (Think Tank) على مستوى العالم. ولم يصنّف أي مركز بحثي في الوطن العربي في هذا المستوى حتى بإيران وتركيا، ضمن هذه المراكز الثلاثين الأولى، وذلك باستثناء مركز «جافي» الصهيوني في فلسطين. أما المدرسة الأخرى فتتعلق بمركز الحضارة للدراسات السياسية، وهو مركز مستقل يعبر آراء عن مجموعة من الباحثين الأكاديميين، ولا يقدم وجهة نظره أساساً لصانع القرار. وإلى جانب الإشراف المعنوي العام للمؤرخ والمفكر الفقيه طارق البشري، يشرف على حولية «أمتي في العالم»، ثلّة من الأكاديميين والباحثين العرب على رأسهم الدكتورة نادية مصطفى، والدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وهؤلاء يعبرون عن مدرسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ولهم اهتمامات معرفية بالمعنى الفلسفي الإبستيمولوجي الواسع، ونوعية مقاربتهم مختلفة عن مقاربة مدرسة الأهرام، فهم معنيون في تقريرهم بعوالم ثلاثة أساسية: عالم الأفكار، وعالم الأحداث وعالم المؤسسات. إلى جانب ذلك، فهم يستشرفون عاما قادما وعاما مضى عبر رؤية نقدية وتقييمية لقرن من العطاء الحضاري في العالم الإسلامي، جاعلين من «الأمة» وحدة أساسية يتوجّب اعتبارها عند التحليل السياسي والاستراتيجي. وفي هذا السياق، أصدروا عددا خاصا من حوليتهم السنوية «أمتي في العالم»، وذلك في ستة مجلدات تحت عنوان «أمتي في قرن». } ما المقصود بأن الأمة هي وحدة تحليل؟ - يتبنى عالَم دراسة العلاقات الدولية «المنهج الواقعي» الذي يجعل الدولة القومية هي وحدة التحليل، والذي يعتبر القوة كهدف وكأداة هي العنصر المهيمن على عالَم العلاقات الدولية. لكن الواقعية الجديدة بدأت تتحدث عن وحدات جديدة للتحليل كالفاعلين غير الحكوميين مثل الشركات العابرة للحدود أو الشركات متعددة الجنسية، أو الفاعلين غير التقليديين الذين ظهر تأثيرهم في السنوات الأخيرة مثل الرأي العام الدولي؛ كما تعطي الواقعية الجديدة اعتبارا خاصاً للتعاون المتبادل. والجديد لدى واضعي تقرير «أمتي في العالم» أنهم يرون الأمة (الإسلامية) وحدة تحليلية فاعلة في العلاقات الدولية، وأن واقع التجزئة والتشرذم، في العالم الإسلامي والوطن العربي بشكل خاص، يستوجب توظيف الوحدة الحضارية والاجتماعية التي حكمت ماضيه لأنها لا بد (بسبب ذلك) من أن تحكم مستقبله. الأمريكيون مثلاً، وبالرغم من سلوكهم الدولي المعادي لمصالح العالم الإسلامي، فإنهم معنيون بأن يقللوا قدر الإمكان من استعداء العالم الإسلامي ضدهم. فوجود دائرة إسلامية مؤثرة دولياً، هو حقيقة واقعة؛ وإن كان مدى فاعليتها ومدى اتساق مكوناتها على الساحة الدولية هو محل نظر وتقييم. وإذا اختلفنا على مدى الفاعلية فهي قائمة، واختلاف المواقف مما يسمى الدائرة الإسلامية لا ينفي أن هناك إقرارا بهذه الفاعلية وبهذا التأثير. وفريق «حولية أمتي في العالم» معنيون مثلهم مثل أقرانهم في العالم الثالث، بأن لا ينساقوا وراء أدوات التحليل الغربية للعلاقات الدولية. فقد عرفت أمريكا اللاتينية مثلاً مدرسة التبعيّة التي تقوم على القناعة بوجود مركز (لدى القوى الرأسمالية الكبرى): ومن حول هذا المركز هناك أطراف مستضعفَة تابعة له وتحت هيمنته (في العالم الثالث والنامي)، وهي مدرسة ترى أن التنمية للأطراف عندما تدور في فلك المركز لا تكون إلا تنمية للتخلف. هذه كلها نماذج في التحليل تريد أن تتمرد على النموذج الغربي في تحليل العلاقات الدولية. أما عربياً، فأحسب أنه ما زلنا نعاني في الوطن العربي من تداعيات تخريب الغرب والاستعمار لأسس ومكونات الجغرافيا البشرية التاريخية لدينا: وليست مشكلة الصحراء المغربية، ومشكلة التجزئة العربية، ومشاكل إفريقيا عامةً، إلاّ أمثلة على هذه المعاناة الجغرافية/بشرية الطابع، لذا لابد وأن نأخذ بمستويات أخرى من التحليل تمكننا من التعامل بكفاءة مع قضايانا ومشاكلنا. } هل يمكن الحديث عن وجود منظور إسلامي للتنمية؟ وما ردكم على من يشكك في وجود هذا المنظور أصلاً؟ - في الواقع يعاني الفكر التنموي أزمة في العالم الإسلامي وفي العالم الثالث عموماً وفي الغرب أيضاً. لدينا العديد من محاولات التنمية التي تعثرت سواءً في مصر أم في العراق أم في غيرها من الأقطار العربية والإفريقية. وهناك نماذج كثيرة لم تنجح إلا إذا كانت أداة من أدوات الرأسمالية المركزية إن صح التعبير، ككوريا مثلاً، لكنها في النهاية تظل امتداداً تابعاً ومرهوناً لمنظومة خارجية. وما حدث بماليزيا ليس ببعيد، وأنا أعرف أن الماليزيين غير سعيدين بمسارهم التنموي. لكن بغض النظر عن ذلك فنحن بحاجة إلى نموذج تنموي جديد. النموذج الليبرالي الغربي الرأسمالي إن كان قد نجح في الغرب الأوربي فقد كان هذا النجاح ضمن ظروف معينة وكنموذج استنزف موارد الآخرين وما مارسه الاستعمار في ظروف خاصة، ورغم ذلك فقد عانى من مشاكل وجاء الرد عليه من داخله من الحركة الاشتراكية. والنموذج الاشتراكي كما مثّله السوفييت وغيرهم عانى أيضا من أزمة «الحرية». وإن كانت الصين الآن والهند تمثلان نجاحاً تنموياً ينافس الدول الرأسمالية الكبرى، فإن هذا يشير إلى فشل النموذج التنموي في العالم الثالث إلاّ إذا كان لديه سوقه الكبير جدا كالسوق البرازيلي والهندي والصيني. لكن القضية ليس فقط أن تقوم بالتنمية، لِكون العملية التنموية في النهاية لها أهداف لا تقتصر على زيادة الإنتاج القومي، فأي توجه تنموي له آثار اجتماعية على النسيج الاجتماعي والأمن الثقافي، وعلى المنظومة المعرفية الخاصة بمجتمعه وحضارته. لذا يجب الأخذ بالاعتبار المنظومة والنسق المعرفي للمجتمع المعني بالعملية التنموية وإلا نكون نسير نحو المجهول- ومن هنا تأتي الدلالة الهامة لما حظي به هذا المؤتمر من رعاية ملكية سامية لجلالة الملك محمد السادس. } تحدثتم في مؤتمركم عن انطلاق مشروع تنموي بديل: ما هي أسسه؟ - أولا، ليست وظيفة ذلك المؤتمر تقديم مشروع تنموي بديل، هذا هدف طموح جداًّ وليس من السهل تقديمه في مؤتمر أو حتى في عشرة مؤتمرات. هذا المؤتمر يقدم جهد أكثر من مائة باحث ويطرحه للنقاش ويسلّط عليه الضوء لأنه ليس المهم فقط أن نفكر وأن ننظر في الأشياء ولكن أيضا أن نتبادل النظر في الأشياء وأن ننظر في حصيلة هذا النظر، لأن القضية ليست إبداء رأي إنما تقويم هذا الرأي وتقييمه. ونحن نهدف إلى طرح هذه الأفكار في الوسط البحثي المغربي والعربي ودائرة باحثينا الشباب بالمغرب على وجه الخصوص.. لكن هذه الوضعية لم تمنعنا عن (بل حفّزتنا إلى) جعل أولوياتنا البحثية الراهنة منصبّة على النظر في مكافحة الفقر بالتنمية المستدامة.. وأنا أعني بذلك منطلقين تنمويّين أساسين. المنطلق التنموي الأول ينطلق من رصد إمكاناتنا الذاتية (كفقراء) والعمل على توظيفها في العملية التنموية بأقصى كفاءة ممكنة وبما ينمي من الاعتماد على الذات الوطنية. والثاني، استغلال التقنيات (التكنولوجيّات) البديلة المناسبة بما يوظِّف ويستثمر وسط إمكاناتنا الذاتية البيئية، الثقافية، الحضارية. وبعونه تعالى ستشغل هذه القضية يوماً كاملاً من أيام المؤتمر الذي نتطلع إلى عقده في مستهل الربيع القادم. } لم تجب عن سؤال ما إذا كان هناك منظور إسلامي تنموي؟ وأية علاقة لرؤيتكم هذه بالمنظور «الإسلامي»؟ - ليست القضية في وجود أو عدم وجود منظور إسلامي. القضية هي أننا نواجه أزمة في النموذج التنموي. ونحن كبشر أولا، وبغض النظر عن كوننا مسلمين أم لا، لدينا منظومتنا الحضارية، وهذه المنظومة تفرض نسقاً معرفياً معيناً لا نستطيع أن نعزل العملية التنموية عنه. إذن نحن معنيون بأن نقدم رؤيتنا ونموذجنا وأن نستفيد مما فعل الآخرون. نحن عندنا منظومة قيم يجب أن تُفعّل، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود «منظور إسلامي». البوذية التي تملك منظومة معرفية مختلفة عن الموجودة في الإسلام، قدمت نموذجها التنموي فما بالك بالإسلام. لكن القضية هي أن تعرف ماذا تقدم وماذا تريد، ليس فقط لك ولكن أيضا ما تراه شيئاً جديراً بالتقديم أيضا للإنسانية ككل. ولذلك نحن ربطنا الموضوع بالخطاب الإنساني العالمي الذي لا يمكن أن يكون عالميا إلاّ إذا كان مشتركاً. لأن أي جديد نقدمه، عليه كما أحسب، أن يلبي احتياجات ليس على مستوى مجتمعاتنا فقط، بل على المستوى الإنساني العام وإلا فلا معنى للحديث عن الإنسانية المشتركة. } ما علاقة التحرر بالخيار الديمقراطي.. وكيف نفهم اهتمامكم بالشأن الديمقراطي؟ الديمقراطية منظومة سياسيّة معنية أساساً بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. وهو تنظيم تمارسه «الديمقراطية» عبر ما تسميه «المشاركة». من ناحيتي، أرى أن المَعاش البشري، أو النشاط التنموي، هو نشاط شامل للأصعدة الاقتصادية وغير الاقتصادية على السواء.. وأن التنظيم المطلوب للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يكون ضمن عملية تواصلية اجتماعية شاملة عنوانها الرقابة الجماعية- أو «الترقّب» على حد قول العلامة حامد ربيع رحمه الله. أعني الرقابة الأهلية المتبادلة والذاتية والشاملة، والتي تكون عملية المشاركة فيها نشاطاً أراه ذا سمة إدارية في الأساس. لذا أرى أن الجماعيّة الأهلية - وليس الديمقراطية- هي العنوان الصحيح سواءً لتنميتنا المستدامة المنشودة أم لمنظومتنا المجتمعية العامة، والله أعلم.. «كانتونات» لحل القضية الفلسطينية - أود أن أسألك عما سبق أن ذكره عمك بلال الحسن، في سلسلة اعترافاته ل«المساء» قبل أسابيع، عن أن قيام شقيقه (أي والدكم خالد الحسن) بطرح أفكار حول حل كونفدرالي على الطريقة السويسرية للقضية الفلسطينية، إنما كان في إطار تقديمه لأفكار العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، للرأي العام الدولي.. فهل لديك ما تضيفه حول هذا الشأن؟ } كما أوضح العم بلال، فقد كانت هناك علاقة محبة واحترام متبادلين وحميمين تربط بين جلالة الحسن الثاني ووالدي رحمهما الله، وكان الجانب الفكري جانباً حاضراً بقوة في علاقة الرجلين، سواء على الصعيد السياسي الإستراتيجي المتعلق بالقضية الفلسطينية، أو على الصعيد الفكري والفلسفي العام.. ومن يعرف جلالة الحسن الثاني من المغاربة وعلاقته الوطيدة بخالد الحسن، ومنهم الأستاذان الجليلان سيدي محمد الشرقاوي، وسي المهدي بنونة، يعلم أن جلالة الحسن الثاني كان يحرص على تبادل الآراء مع خالد الحسن لبلورة الأفكار حول حل عادل للصراع الصهيوني-العربي، وهو ما حدث أكثر من مرة. وما تفضل العم العزيز بلال بذكره عن أفكار خالد الحسن حول حل الصراع على طريقة الكانتونات (أو المقاطعات) السويسرية، والتي عرضها والدي في كتابه المنشور بالإنجليزية تحت عنوان « قبضة من أشواك السلام»، فهي أفكار خالد الحسن الخاصة.. وقد عرضها على جلالة الحسن الثاني الذي نظر إليها بكل اهتمام؛ بينما رفضها الإسرائيليون عبر وسائل الإعلام واعتبروا أنها تقوِّض دولة إسرائيل ومعادية تماماً للصهيونية.. وكان خالد الحسن قد عمل، قبل سنوات من تقديمه لأفكاره تلك، على صياغة مشروع عربي تبناه في وقتها العاهل السعودي الملك فهد رحمه الله فيما عرف حينها بمبادرة الملك فهد، الأمر الذي يكشف حاجة النضال الفلسطيني يومئذ إلى من يقدم أفكاره ويمهد لها في الأوساط الدبلوماسية الدولية، كما يفسِّر أيضاً التقدير الذي كان يكنّه جلالة الملك الحسن الثاني لرؤية خالد الحسن وفكره الإستراتيجي بشأن السياسة الدولية العامة والصراع العربي الصهيوني على وجه الخصوص.