الحلقة العاشرة: الفوضى الخلاَّقة – كي لا نختم: عبر هذه السلسة العُشرية، حاولنا إعادة النظر في ظاهرة "السيبة" من حيث نشأتها وجذورها وأسبابها وإفرازاتها، عبر تحليل نقدي متفحص لمختلف جوانب الظاهرة (كما حاولت أن تُرسخها السوسيولوجيا الكولونيالية) فتبين لنا أنها ظاهرة حديثة، وهذا ما خلص إليه العديد من الباحثين على غرار عبد الله العروي، وقد ترافقت مع انفتاح المغرب على التجارة الغربية. أثناء البحث عن شروط هذه الظاهرة لاحظنا أنها لم تكن فقط نتاج عومل خارجية بل تمكنا من اكتشاف أن هناك حقبتين أساسيتين مارستا تأثيرا على طبيعة الظاهرة، حقبة ما قبل 1860، حيث تميزت فيها الظاهرة بطغيان الجانب الاقتصادي مما جعل التمردات القبلية تتخذ صيغة احتجاجية بسبب من تعسفات موظفي المخزن، وهنا لم تكن ظاهرة "السيبة" إلا شكلا من أشكال التعبير عن الضيم والغبن اللاحقين بالقبائل، ذلك أن أول فعل يقوم به المتمردون هو "تدمير منزل القائد". أما الحقبة الثانية ويمكن حصرها بعد 1860 حتى بدايات القرن العشرين، وتميزت بتزايد وعمق ظاهرة "السيبة"، لأنها اتسمت بطغيان الطابع السياسي والذي يمكن الكشف عنه من خلال شعار الجهاد -والذي أُهمل معناه عن قصد أو بدونه- ويوضح العروي مضمونه بأنه موجه "ضد الجاهلية في الداخل وضد الشرك في الخارج"، وهو ما يشير إليه روبير مونتاني بصدد "سيدي محمد الطيبي الذي ظل أحد أشرس أعدائنا، وزعماء جبال الريف الذين يُعتبرون رؤساء طبيعيين للجهاد ضد الإسبان، وأيضا فإن بربر صنهاجة وزناتة بالمغرب الأوسط ظلوا حتى الآن خارج الإمبراطورية، لم يتوقفوا عن تقديم مقاومة مستميتة تجاه تقدمنا"، كما يعرض أيضا رغبة محمد بن عبد الكريم الخطابي في "أن يُرخص لنا بالعيش جماعيا فوق أرض المخزن" وكل هذه الشواهد تؤكد بطلان ما ذهب إليه روبير مونتاني. لم تكن ظاهرة السيبة تعبيرا عن الانفصال بقدر ما كانت تعبيرا عن الرغبة في تحقيق نوع من العدالة والحركية الاجتماعية وكذا مواجهة الأجنبي الغازي وهذا هو مدلول الجهاد، فعلى المستوى الداخلي لاحظنا أن شعار الجهاد لم يُرفع أبدا ضد المخزن بل كلما اقتضته ضرورات معينة إلا وكان موجها إلى المسيحيين أعداء الدين. لم يكن موقف روبير مونتاني محددا من ظاهرة "السيبة" فإذا كانت حسبه تعبيرا عن الرغبة في الانفصال عن حكم العرب المتمثل في المخزن، فإنه يعتبر السيبة ذلك التمرد الذي يقوم به الخاضعون البربر ضد قوادهم البربر أيضا، وهذا ما يتعارض مع مضمون الظاهرة كما يحددها. وهناك نوع آخر من "السيبة" استخلصه محمد البردوزي أثناء مناقشته لأطروحة روبير مونتاني، هو صراع القواد في ما بينهم من أجل بسط نفوذهم مستغلين علاقاتهم بالمخزن ضدا على معارضيهم، وهذا يتعارض مع ما اعتبره مونتاني بأنه غريزة قبلية. لقد اختزل مونتاني كل التمردات في جانب أُحادي: إمبراطورية إسلامية تسعى إلى تمديد هيمنتها لتحطم "حلم الفوضى البربرية". ما هي النتيجة العامة التي يمكن استخلاصها من رواية روبير مونتاني والتي يسعى إلى ترسيخها؟ إنها بكل بساطة كما يلي: إن ما يطبع البنيات القبلية هو الجمود والعجز لذا فهي غير قادرة على التحرك الذاتي وهي هنا في أمس الحاجة إلى من يحركها، ولكن من هو المؤهل لهذه المهمة؟ إنه ليس المخزن بطبيعة الحال، لأنه هو أيضا لا يقل شللا وجمودا عن القبائل بالإضافة إلى كونه مرفوضا من قبلها، يبقى الاحتمال الآخر وهو اللجوء إلى الخارج فالحركة الحقيقية والحل والخلاص لا يتوفران إلا لدى فرنسا، التي وحدها تُعتبر القادرة على إخراج البنيات القبلية المغربية من جمودها وثباتها إلى حركة فعلية وفعالة، تسعى نحو التقدم على الشكل الذي يقدمه نموذج الاستعمار الفرنسي. لم تكن ظاهرة "السيبة" غريزة قبلية بقدر ما كانت تعبيرا عن تحول اجتماعي اتخذت مظاهر متنوعة. لم تكن ظاهرة السيبة تعبيرا عن الانفصال بقدر ما كانت تعبيرا عن التشبث بالوحدة دون إلغاء التنافر بين الرعية والسلطان: وهو ما بينه مفهوم الجهاد. لقد كانت ظاهرة السيبة ذات أسباب داخلية عمقتها أسباب خارجية، ذلك أن الخطر المسيحي جاء في وقت تميزت فيه السلطة المخزنية بفصم تام بين ولي الأمر من جهة وبين الرعية من جهة ثانية. والآن ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين ألا نلاحظ إحياء نفس مؤامرات الماضي لكن هذه المرة تحت أثواب جديدة؟ اتخذ معالم جديدة هي معالم "الربيع العربي" وأصباغ الديمقراطية والحرية والعدالة... والقيم الملونة بلون الإسلام كالخلافة التي جذبت معها كل الأدعياء من كل جهات الربيع العربي، فكانت الطائفية والإثنية والهوية والعرقية وأصبحنا في سوق النخاسة ولم يبق لنا إلا سوق عكاظ ليكتمل المشهد. هذا هو الواقع العربي، بؤس كبير وانعدام استراتيجية عربية تفكر في إبعاد الأسى الذي تُلحقه الدول "الديمقراطية وصاحبة حقوق الإنسان الكونية..." أليست هذه "سيبة" تُفعلها أياد تتربص بالعالم العربي، بشعارات براقة تأخذ ببريقها عملاء وانتهازيين ورجال دين تلعنهم الشياطين قبل الإنسيين، يريدون نصيبهم من الغنيمة "ثورات" حملت معها نوابت من كل حدب وصوب هي نوابت ربيعنا العربي البئيس.