سابعا: المخزن والعلاقات التحكيمية.. إن ما يمكن ملاحظته بصدد المخزن وسلطته هو أن هيمنته كانت تمتد إلى كل أنحاء المغرب، ويبدو ذلك من خلال العلاقة الضريبية، مهما قيل عنها؛ وهذا ما أشار إليه روبير مونتاني وغيره، وإن كان يعتبر احتجاج السكان، خاصة القبليين منهم، دليلا على رفضهم للمخزن العربي، محتجا على ذلك بدلائل تبدو واهية. ويمكن التأكد من هذه المسألة – مسألة امتداد السلطة إلى كل الرعايا – أيضا من خلال بعض المهام التي كان السلطان يقوم بها عندما تستدعيه القبائل، أو من خلال المراسلات التي كانت تتم بين السلطان وبعض زعماء القبائل المتنفذين، كما هو الشأن مع صاحب دار إليغ. إن علاقة الهيمنة لا تلغي تواجد ما سميت بظاهرة "السيبة"، فهي يمكن أن تحدث في كل المجتمعات، وبالنسبة للمغرب لم تكن تمثل نشازا عن التاريخ الإنساني العام، لأنها لم تكن إلا بمثابة احتجاج أمام عنف الجهاز الضريبي، مع العلم أن السلطان هو دوما في نظر المحتجين المتمردين يحظى بالقداسة والاحترام، فضلا عن الاعتراف بسلطته، وهذا هو مغزى احتكام القبائل إليه عند الحاجة القصوى. وغالبا ما تم اعتبار المغرب من قبل الاستعمار بأنه لم يكتمل غزوه كلية من قبل السلطان الذي كان شرها وشرسا، وفي الوقت نفسه عاجزا عن إخضاع قبائل المغرب البربرية لعدم توفره على الوسائل الضرورية والكافية لذلك، غير أن الخلفية الإديولوجية الكامنة وراء هذا الاعتبار تبدو جلية – عندما نتأملها جيدا – فهي توحي بطريقة غير مباشرة بأنه إذا كان السلطان عاجزا عن تحقيق هذه الوحدة، فإن الآمال ينبغي أن تظل "معقودة على المستعمر"، ليقوم بتنفيذ ذلك. إلا أن الإديولوجية شيء والحقيقة كما هي شيء آخر مخالف، فأثناء الحديث عن المخزن – وذلك ما لاحظناه لدى روبير مونتني – يتم إبراز طابعه القهري الذي نجده في تلك "الحركات" التي كان يتم توجيهها إلى مختلف جهات المملكة لضمان الأمن وانتزاع الضرائب، خاصة مع المولى الحسن – ما حدا بواتربوري إلى أن يُعرف هذه الدولة كراسخة في العنف المستديم. إن الاستقلال الذي يعتبره الأنثروبولوجيون جوهر القبيلة البربرية لا يمكن أن يقدم حالة نموذجية، فقد ينقلب هذا الاستقلال، وفقا للظروف، وبالا يهدد القبيلة.. فقد حدث ما بين 1521- و1522 أن تعرض المغرب وإسبانيا والبرتغال لجفاف كبير ترك أثرا عميقا على القبائل المجاورة لحصني البرتغال (أزمور، آسفي) التي لم تكن آنذاك خاضعة لأي سلطان، ما أرغم القبائل المستقلة إلى أن تعرض للبيع "نساءها وأبناءها كعبيد للبرتغاليين من أجل الحصول على لقمة العيش"، في حين نجد أن الغرور الذي أصاب القبائل الخاضعة للدولة السعدية كان أثره خفيفا بالمقارنة مع القبائل السابقة – وهذا يؤكد ضرورة وجود الدولة ويُبطل في الوقت نفسه وهم الاستقلال القبلي الذي اعتُبر فضيلة. ومن الأحداث التي تبين اعتراف قبائل "السيبة" بالسلطة المخزنية ذلك النزاع الذي وقع بين قبيلتي هنيفيفة وأولاد بوسبع ناحية مراكش.. فقد احتلت قبيلة أولاد بوسبع أراضي قبيلة هنيفيفة التي غادرتها اضطرارا تحت كارثة المجاعة التي حدثت سنة 1850 – إلا أنها بعد عودتها ستُفاجأ باستيطان أراضيها من قبل القبيلة الأخرى، وبعد فشل كل المحاولات لاسترجاع الأراضي المفقودة يأتي تدخل السلطان الذي سيبعث لجنة مشكلتين من ضابطين كممثلين للسلطة، وثلاثة عدول للنظر في الجانب الشرعي؛ فهي لجنة تحقيق ومصالحة في نفس الوقت – ورغم إثبات حق قبيلة هنيفيفة إلا أن القبيلة المعتدية رفضت الانصياع لقرار اللجنة، ليتم خيار السلطان ليحسم في الأمر. تُوضح لنا هذه الحادثة عدة أمور منها: -السلطان حتى بالتسليم مع روبير مونتني بأنه يثير ويحرض قبائل ضد أخرى من أجل بسط نفوذه، فإن هذه الحادثة على الأقل تُبطل صحة تلك الفرضية، فنحن نلاحظ أن السلطان يتدخل لإيقاف النزاع وليس لإثارته. ويتجلى ذلك بوضوح في طبيعة اللجنة، وكذا العمل الذي قامت به.. وتصبح فرضية روبير مونتاني صحيحة لو أن السلطان رفض أن يتدخل، أو أنه انحاز إلى قبيلة دون أخرى، وهذا ما لا يمكننا استنتاجه من هذه الحادثة. -القبيلة المعتدية ترفض الانسحاب، وهذا يعني رفض قرار اللجنة المبعوثة من قبل السلطان. وقد يدل هذا الرفض، حسب روبير مونتاني، على تأكيد دعواه كتعبير عن رفض للمخزن، إلا أن الأمور تبدو على عكس ما يمكن أن يعتقده مونتاني.. دليل ذلك هو أن القبيلتين تركتا اللجنة تقوم بتحرياتها – وبعد الانتهاء يتم التوقيع على محضر الجلسة من قبلهما – فالرفض لا يتضمن رفض السلطة المخزنية بقدر ما هو طعن في قرار الحكم الذي اعتُبر غير عادل من قبل الطرف الذي يعتبر نفسه متضررا... وهو الطرف المعتدي حسب الحادثة.( حادثة يذكرها جرمان عياش ص 157). - وتوضح لنا أمرا آخر أيضا، وهو عجز القبيلتين عن التوصل إلى حل بينهما، وهذا يؤكد عجز مجالهما عن إيجاد حلول لذلك النزاع، كما يؤكد في الوقت نفسه بطلان دعوى مونتاني – في استقلال القبائل البربرية عن المخزن– كما يدحض فرضية "الجمهوريات المستقلة". وهناك حادثة أخرى من بين عدة، تتعلق هذه المرة بالريف، الذي كثيرا ما اعتُبر سكانه ينعمون بحريات واسعة واستقلال عن السلطان المستبد، إلا أن الوثائق تحسم هذا الأمر، فهي تشهد جميعا على وجود قصبات بمختلف أطراف ما تسمى ب"جمهورية الريف المتمردة". يعرض جرمان عياش بصدد هذه المسألة عدة أمثلة، نكتفي بواحد منها يوضح لنا موقف الريفيين من سلطة المخزن..في 1855 حدث نزاع حول توزيع مياه الري بين أفخاذ ثلاثة تنتمي إلى قبيلة بني ورياغل- ويرسل الفخذان المتضرران بعض الممثلين عنهم الى العامل الذي حسم النزاع بعد أن قدمت الأطراف المتنازعة – وبمساعدة هيئة من القضاة – تعهُدا كتابيا يقضي "باحترام الاتفاق الذي تم التوصل إليه". إن هذه الأحداث تؤكد أن استبدادية المخزن لم تكن استبدادية مطلقة، بل كانت مهمته تكمن في العمل على ضمان السلم العام أيضا. وهناك مسألة أخرى، وجد فيها مونتاني وغيره من النظراء ضالتهم، وتتعلق بتأدية الضرائب. وبهذه المناسبة يشير جرمان عياش إلى أنه ليس هناك ما يُثبت رفض الريفيين للمساهمة، سواء أتعلق الأمر بالنقد أم بالجنود. ودليل ذلك هو تقاطر الريفيين على جبهة سبتة أثناء حرب تطوان (ص 206)..وهذا الحماس الريفي دفع بمحمد الخطيب، نائب السلطان، إلى اقتراح تجنيد جيش ريفي، "وإن اقتضى الحال مكافأة الريف على ذلك بإعفائه من الضرائب لمدة عشر سنوات". إن اقتراح نائب السلطان هذا يثبت أن الإعفاء من تأدية الضريبة هو تأكيد على أن الريفيين كانوا يؤدون مساهماتهم بانتظام، وإلا فلا معنى للحديث عن إعفائهم. لقد كان السلطان يحظى باحترام وتقديس في أعين هؤلاء- وهذا ما أشار إليه روبير مونتاني - ولكن دون أن يفهم مغزاه ودلالته الحقيقية- فحتى في المخالفات التي كانت بعض القبائل ترتكبها – كعدم دفع الغرامة مثلا- كنا نجد المخزن يلجأ إلى الدبلوماسية بل إلى القوة في الإقناع – وتقدم شهادة Lucette Valensi دليلا عميق المغزى بهذه المناسبة، حيث تروي: "لقد رأى إريكمان جند السلطان يخوضون الحرب، وبين لنا بما يبعث على الدهشة أنها لم تكن قائمة تقريبا. ففي هذه "الحركات" التي تستغرق عدة أشهر تلعب المفاوضات دورا أوليا ... ولا تُستعمل المدفعية في الغالب إلا لإثارة الضجيج". كانت غايتنا من سرد هذه الأحداث والشهادات هي إثبات بطلان دعاوى الأنثروبولوجيين الذين بالغوا وأفرطوا في إبراز طابع العداء بين السلطة والرعايا في إبراز "الخصائص الجوهرية" للبربري في الاستقلال والحرية، وحجتهم طابع التنظيم "الزمني" الذي يتمتعون به. إلا أنه غاب عن بال هؤلاء أن ذلك التنظيم كان لا يتعارض مطلقا مع رغبات السلطة في ضمان الأمن والسلم وتأدية المساهمات الضريبية بانتظام؛ وذاك هو ما ترجوه السلطة. ومن بين النماذج المُثلى – التي اعتمدها روبير مونتاني لإثبات استقلالية البربر عن المخزن وعدم الاعتراف بسلطته –النموذج الذي تقدمه مملكة تازروالت بسوس الأقصى تحت ظل زعيمها الحسين بن هاشم - دون تقديم أي سند وثائقي يدعم به دعواه، ورفعا لكل لبس يطبع علاقة السلطة المركزية بهذه "المملكة البربرية". لقد حاول المرحوم بول باسكون ومحمد الناجي أن يجمعا من خلال المراسلات المتبادلة بين السلطة المركزية وزعيم دار إيليغ الخيوط التي كانت تربط بينهما. وتُوضح هذه الرسائل وكذا الرموز ذات الدلالة بما لا يدع مجالا للشك اعتراف "مملكة تازروالت" بسلطة السلطان على كل مناطق المغرب بما فيها "مملكة" سيدي الحسين بن هاشم. ورغم بعض لحظات التقلص التي سادت حقبة القرن التاسع عشر فإن سلطة المخزن لم تُمس إطلاقا. "مملكة" تازروالت وعلاقتها بالمخزن: لقد امتدت الحياة السياسية للحسين بن هاشم منذ 1842 إلى سنة 1886، وهي سنة وفاته، عاصر خلالهما سلطانين علويين هما: سيدي محمد بن عبد الحمان والحسن الأول. ما يُلاحظ في هذه الرسائل هو التمييز الذي يحظى به زعيم إيليغ. ويمكن محورة هذا التمييز حول العبارة التي يخاطب بواسطتها السلطان زعيم الدار، وهي "مُحبُنا". وتحمل هذه العبارة دلالة عميقة تجاه شخصية ذات وزن ونفوذ سياسي أيضا.. وبالإمكان الافتراض أن الحسين بن هاشم وعيا منه بالوزن الذي يمثله يستغل علاقة الاحترام هذه، إلا أن ردوده الكتابية تؤكد عكس هذا الافتراض، وهو ما يدحضه باسكون قائلا: إنه يعتبرهما دائما بمثابة متكلم باسم الخلافة الإسلامية بالمغرب ككل، بمافيه السكان الذين يراقبهم هو نفسه حتى في أشد اللحظات تأزما. لا نلاحظ في الرسائل المبعوثة إلى العاهلين نفس العبارة "مُحبنا"، وإلا فإنه سيوحي لنا بأنه كان يضع نفسه على قدم المساواة مع العاهلين، غير أن عدم استعماله هذه العبارة بالذات هي ذات دلالة تؤكد الخضوع والاحترام لسلطة الآخر.. والعبارة الدالة في هذا السياق، والتي كانت رسائل الحسين بن هاشم تتضمنها، هي عبارة "مولانا"، وهي تحمل مضمون الطاعة والخدمة للعرش لعله يحصل على صفة خادم. ما يثير الانتباه في هذه المراسلات هي تلك المجاملات التي كان السلاطين يُبدونها تجاه الحسين بن هاشم، ولم تكن بدون هدف، بل كانت تحمل بُعدا سياسيا واضحا يكمن في "صيانة الانسجام والبيعة". ولم تكتف هذه الحقبة السياسية بأسلوب الرسائل فقط، وإنما تجاوزته إلى أساليب أخرى لا تقل أهمية عن الرسائل إن لم تكن تفوقها من حيث الدرجة كالهدايا –والخدمات – وغيرها. وقد لعبت الهدايا في هذه المرحلة دورا أساسيا، سواء على مستوى التعامل الداخلي بين العاهل وبين بعض المتنفذين – كما في هذا المثال –أو على مستوى التعامل الخارجي، كمحاولة للتقرب من قبل الأجنبي إلى داخل التراب المغربي. ولعل هذا ما سيعبر عنه المولى حفيظ لاحقا من خلال نموذج لرسالة من أبي فارس إلى ملك إسبانيا يقول فيها: "على شأن ما انتهى لمقامنا العلي من جميلكم مسألة ما بعثتم لمقامنا العلي صُحبة خدمكم من المائدة والبراقلالبلار قد جاء على خاطرنا على حسن المراد ...وعلى غرضنا في أحسن حال". تبادل الخيرات: إن الرسالة الخفية التي تحملها الهدية هي الرغبة في التقرب ونيل رضى المتقرب إليه بغاية استجلاب عطفه واتقاء غضبه وسخطه – وبالنسبة لشريف دار إيليغ– يلاحظ باسون أن هناك 15 رسالة يدور مضمونها حول الهدايا المرسلة إلى السلطان، وهي بهذا المعنى تعبر عن ولاء جماعي كما هي في الوقت نفسه إثبات ضمني للنفوذ الذي يمتلكه زعيم إيليغ، لأنها تتعلق بأفضل ما يمكن الخروج به منها وهو التزام دقيق بإرسال منتظم من قبل دار إيليغ، لرغباتها في البيعة ...( ن ص) ولا يطعن في شيء كون الحسين بن هاشم لم يزر يوما قصر السلطان - شخصيا- إلا أنه كان حريصا جدا على أن يقدم بيعته وكذا هدايا رأس السنة من أفراد قريبين منه. 2-تبادل الخدمات: إن صعوبة المواصلات وغياب قنوات الاتصال الإداري بسوس جعلا من لجوء المخزن إلى دار إيليغ عملية ضرورية، فهي بما تحمله من رغبة في إدماج تدريجي للدار – نظرا للموقع الإستراتيجي الذي تحتله بالنسبة للمخزن – أيضا بمثابة اعتراف بالنفوذ الذي يحظى به شريف تازروالت على منطقة سوس وقبائلها. ويتجلى ذلك في مطالبة السلطان الحسين بن هاشم بأن يقوم بدور الوسيط بين بيروك والمخزن للوقوف أمام التراب الأوروبي بشواطئ الجنوب.. فمن جهة يمثل طلب السلطان هذا دعوة ضمنية إلى الحسين بن هاشم ليبتعد عن نفس العمل الذي يقوم به بيروك.. وما يؤكد ذلك هو دعوته إلى الجهاد إبان حرب تطوان، والرسالة رقم 28 المثبتة في كتاب بول باسكون تؤيد هذا الرأي، فتلبية لطلب المخزن ذهب الحسين بن هاشم إلى حد مطالبته بإيفاد المحلة: وبدعم تجاه آخرين.( ب. باسكون). لقد ترتبت عن هذه العلاقات آثار عميقة، لاسيما مستقبلا، حيث أدت إلى تأسيس سياسة بين سيد وخادم. اللقاءات: في لقاءات شخصية بين زعيم إيليغ والعاهل يشير باسكون إلى رواية شفوية ذات حيوية حتى الآن، وهي من هذه الزاوية تعبر- سواء صحت أم لا- عن رغبة ضمنية في حصول لقاء فعلي. وتشير الرواية إلى زيارة مزعومة وغير معروفة لخليفة السلطان – الحسن – إلى قصر إيليغ.. فقد بعث الحسن بن هاشم بابنه البكر إلى الحسن الأول ليقدم له البيعة باسم أبيه والقبائل، فتم تعيين محمد كقائد على تازروالت وبعض القبائل المحيطة التي تخضع لنفوذ أبيه. ويعتبر هذا التعيين في منصب قائد الأول من نوعه بالنسبة لهذه السلالة.. وبعد مضي أربع سنوات بعث الحسن الأول بولده مولاي عبد العزيز ليقوم بزيارة لإيليغ.. التقى بابنه محمد، وهو علي الذي كان في نفس سن مولاي عبد العزيز، وهو خمس سنوات...تبادلا خلال هذا للقاء المزعوم هدايا وأُلبسا نفس اللباس...هذه اللقاءات، فعلية أو وهمية، كانت تعبر عن احترام متبادل بين المخزن وإيليغ. لقد حاول المخزن في القرن 19 أن يُكسر بوسائله الخاصة شبكة المصالح المعقدة، سيما الاقتصادية التي تربط قبائل سوس الأقصى بالبيوتات التجارية الكبيرة، بغاية إدماجها تدريجيا ضمن النظام المخزني، ولهذا الغرض نجد السلطان يلجأ إلى تعيين وُكلائه كممثلين محليين له، إلا أن هؤلاء كانوا ضعافا إلى درجة أن مهامهم اقتصرت فقط على تقديم "شهادات بسيطة على ما يجري أمام أعينهم بمنطقة سوس (دون إمكانية) القيام بأي شيء آخر باستثناء الأخبار". كما نجده أحيانا يحاول التدخل في النزاعات القبلية من خلال قيامه بعملية التحكيم، مستغلا التعارض بين القبائل – خاصة بين العصبتين القويتين، من بينها عصبة جزولة، متحيزا لأحدها ضد الأخرى – وبهذا الصدد يشير إلى أن جيرمان عياش، من خلال محاولته إثبات علاقة المخزن بالقبائل، والكامنة في وظيفة التحكيم وإقامة الصلح، قد أهمل الجانب الآخر، الذي يكمن في المعارضة. لقد ظل القواد المخزنيون هامشيين ومعزولين، لذلك نلاحظ أنه إثر موت الحسن الأول قامت تمردات على أولئك القواد، ولم يتم الاحتفاظ إلا بأولئك الذين كانوا خارج الشرعية المخزنية، والذين كانوا منبثقين من قبائلهم الأصلية. إن هذا يوضح لنا إلى أي حد كان المخزن جاهلا بالأوضاع القبلية؛ ذلك أنه عمل على تعيين وكلاء غير معروفين وضعاف، وهو ما جعل النظام القبلي القديم يبقى منتعشا... كان من الفروض أن يتم تفهمها واستغلالها بدل العمل على إدماجها بالقوة، من خلال تعيينات لرجال ضعاف كما فعل الحسن الأول. لقد كانت هذه الوضعية كافية لتؤدي إلى تمردات فعلية – في منطقة حساسة – هذه التمردات هي التي حملت اسم "السيبة". لقد خضعت هذه الظاهرة لنقاش حاد بين المفكرين من مختلف التخصصات، وتراوح النقاش ما بين مؤيد لها وبين منكر لها، رابطا إياها بالأسباب الخارجية فقط – كما نجد ذلك لدى جيرمان عياش – وبين موقف وسط كما نجد لدى عبد الله العروي. إن الأمانة التاريخية تفرض علينا البحث الجدي والصارم في هذه الظاهرة، لذا علينا أن نتساءل حول طبيعتها ودلالتها..ما هي أسبابها العميقة وما هي غاياتها وما هي أسبابها الاجتماعية وما علاقتها بالنظام المخزني؟. هذه التساؤلات وغيرها هي ما سنحاول الإجابة عنها ومناقشتها في العنوان التالي. الحلقة الثامنة: شروط ظاهرة السيبة.