الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليهود الأمازيغيون في المغرب
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 29 - 03 - 2014

نقف في الأعمال والحقول الدراسية المتعلقة بماضي اليهود المغاربة، على أن تاريخ اليهود المقيمين بالمناطق ذات الأغلبية الأمازيغية لا يحظى باهتمام كبير. ويرجع ذلك، في جزء منه، إلى الطبيعة المتفرقة للمصادر الوافدة من المناطق القروية للبلاد. ومقارنة مع الوثائق المتوفرة حول اليهود الذين يتكلمون العربية، الذين يقيمون بالمناطق الحضرية للمغرب والذين أنتجوا عددا كبيرا من الكتابات، فالمعطيات التاريخية حول حياة اليهود الأمازيغين المقيمين في المناطق الأمازيغية، قبل الفترة الاستعمارية، قليلة جدا، تمت استعارتها في الغالب عن طرف آخر، وهي ترتكز عموما على حكايات الأصول أو على الأساطير.
دانييل ج. شورويتر
إن الرحالة الأجانب الذين زاروا مغرب ما قبل الاستعمار، والذين أعدوا -ولو بطريقة غير دقيقة - قوائم قبائل و «أعراق» البلاد، نادرا ما مميزوا بين اليهود الذين يتكلمون الأمازيغية واليهود الذين يتكلمون العربية. لقد اعتُبر اليهود شريحة مستقلة، إلى جانب مسلمي الأندلس، الأمازيغ و «الشلوح». فقلة من الأوروبيين فقط هم الذين زاروا المناطق الداخلية في المغرب قبل القرن العشرين، والذين قاموا بذلك، أمثال جون دافيدسون - الذي قُتل -، رووا عنه معلومات غير مؤكدة. أما جيمس ريشاردسون - المناضل المناهض للعبودية البريطانية - الذي زار المغرب سنة 1840، فقد عمق البحث في ملاحظات دافيدسون؛ و كان أول من أشار إلى يهود الأطلس باعتبارهم «يهود شلوح»، يتكلمون الأمازيغية وكانت عاداتهم وخاصياتهم هي نفس عادات وخاصيات جيرانهم غير اليهود 1.
رغم ذلك، ظلت تلك الإحالة إلى اليهود الأمازيغيين غير مألوفة؛ وبناء عليه لم تفتح المجال لفرضيات مجازفة حول الأصول الأمازيغية لليهود. ويرى معظم زوار المغرب الأوروبيين خلال القرن العشرين أن الجماعات اليهودية نفسها كانت تصرح بأنها لا تنحدر من البلاد. والتمييز الوحيد، الذي نجده لهم، هو المرتبط بالفصل القائم بين اليهود الإسبانين واليهود الأهالي، الفصل الذي يشير إليه يهود المغرب أنفسهم ب «المطرودين» و «المقيمين».
أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، سيقوم الرحالة ودارسو الإثنوغرافيا ب «اكتشاف» عدد كبير من الجماعات المتفرقة ويقدمون عن اليهود المقيمين بين الأمازيغيين صورة مختلفة جدا عن صورة الجماعات اليهودية المتواجدة في المناطق الحضرية. أثناء الحماية الفرنسية، سيتم تحديد صورة اليهود الأمازيغيين بشكل نهائي مطابق للدراسات التي ستخصصها لهم الإثنوغرافيا الكولونيالية، وكذلك الطائفة العالمية لليهود.
إننا سنعمل على تناول الطريقة التي تم اتباعها لصياغة إدراك العلاقات اليهودية - الأمازيغية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، معتمدين الوثائق المتوفرة حول يهود إيليغ، الجماعة التي كانت تعيش مع الأمازيغيين في منطقة حيث تسود تاشلحيت، أي سوس 2 .
اكتشاف اليهود الأمازيغيين
إن اهتمام الأوروبيين بيهود المناطق التي تبدو «بعيدة» عن العالم، لم يكن من ابتكارات القرن التاسع عشر: الجديد هو الدلالة التي اُعطيت لهذا الاهتمام. فالبحث حول القبائل الضائعة لم يكن تحركه اعتبارات مسيحية فقط، لأن البحث الإثنوغرافي حول المجموعات البعيدة في الشرق أصبح وسيلة للحكم في العهد الكولونيالي.
بالإضافة إلى ذلك، وبالنسبة لليهود الأوروبيين، لم يكن اكتشاف إخوان لهم في الديانة بدائيين يُثير فقط ذكرى قبائل ضائعة، بل كان يكشف لهم كذلك عادات قديمة اختفت، في لحظة شرعوا فيها هم أيضا في اعتبار أنفسهم كأمة ويلتفتون نحو الأراضي التوراتية في المشرق لإقامة السيادة اليهودية.
مطلع القرن العشرين، جاب المستشرق والمُتَعَبْرِن ناحوم سلوشز إفريقيا الشمالية ليدرس بها أصول وتاريخ الجماعات اليهودية. كان أول من درس تاريخ الجماعات المقيمة في المناطق الداخلية بالمغرب العربي بشكل جدي. كان سلوشز يعتقد أنه خلال القرون التي سبقت انتشار العرب في شمال إفريقيا، كان اليهود، المنحدرون من فلسطين، قد انتشروا بين السكان الأمازيغيين وأصبحوا عنصرا مهيمنا. وخلال الفترة الكولونيالية، ستصبح لهذه الآراء حول الأصول الأمازيغية لليهود قوة القانون. سنة 1906، سيتم بعث سلوشز في مهمة إلى المغرب من طرف اللجنة العلمية المختصة بالمغرب، نظرا للعلاقات التي كانت تربطه بمديرها، لوشاتوليي. وقامت اللجينة، التي كانت تُشرف عليها لجنة إفريقيا الفرنسية، بنشر الأعمال المهمة الأولى حول المجتمع المغربي. كان سلوشز ضمن تلك الحلقة فأثرت أفكاره بشكل واسع في النظرة الفرنسية لليهودية في المغرب. بعد إقامة الحماية الفرنسية، سيعود إلى المغرب مكلفا من قِبل السلطات الاستعمارية بدراسة الجماعات اليهودية وتقديم خلاصاته للمقيم العام ليوطي بغرض إعادة ترتيبها. لقد كان سلوشز صهيونيا ، باعتباره كذلك، فكّر في «إحياء» اليهودية المغربية وإيقاظ وعيها الوطني اليهودي. وبسبب أفكاره الصهيونية، قررت السلطات الفرنسية عزله من وظائفه الرسمية.
كانت ميول سلوشز الصهيونية ومجهوداته لاكتشاف الماضي اليهودي الأمازيغي ما قبل العربي بالمغرب، تنبع من نظرة جد متماسكة. فالسكان اليهود في المدن العربية الكبرى، كانوا مرتبطين جدا بعلماء تلك المدن وتقاليدها. ويرى سلوشز أن اليهود المنحدرين من أصول أمازيغية، بعاداتهم البدائية والحاملة لتأثيرت محلية، هم الممثلون «الحقيقيون» ليهود شمال إفريقيا، إذ يقول: «الآن وقد دخلت إفريقيا هي الأخرى تحت رعاية التأثير الغربي، فإن دخول الحضارة الفرنسية وتحرر إخواننا في تونس والمغرب، سيرا على هدى يهود الجزائر، سيَمْحُوان الطابع الخاص لليهودي الإفريقي. ومثلما حدث ذلك من قبل في المدن الفرنسية الكبيرة بإفريقيا، فقد كان للتحولات الاجتماعية تأثير جذري في قواعد السكان، الذين ضيعوا فردانيتهم وتقاليدهم العريقة بسرعة ».
بعد التخلي عن تلك العادات، بفضل مزايا التربية الغربية، هل من أفق آخر أمام اليهودية المغربية سوى الالتحاق بالأمة اليهودية الحديثة؟
لقد كان ه. ز. هيرشبيرغ أول من شكك في الطرح السائد - الذي وضعه سلوشز في البداية ثم تبناه العديد من الباحثين خلال الفترة الكولونيالية - الذي يرى أن يهود إفريقيا الشمالية ينحدرون من قبائل أمازيغية اعتنقت اليهودية في العصور القديمة. وقد درس هيرشبيرغ بشكل ممنهج التقاليد القديمة وتمكن من استخلاص قلة الأدلة التي تؤكد طرح الأمازيغيين الذين اعتنقوا اليهودية. فهو يرى أن معظم الجماعات تشكلت بعد ذلك بكثير، بفضل وصول بعض التجار اليهود إلى داخل البلاد. ورغم عدم استبعاده وجود أمازيغيين اعتنقوا اليهودية، فقد كان هيرشبيرغ مُرتابا فيما يتعلق بأهمية هذه الظاهرة. وفي دراسة جديدة ترتكز على معطيات لسانية وإثنوغرافية مهمة، أعاد بول ويكسلر البحث في المسألة ليستخلص أن غالبية اليهود السيفراد ينحدرون من سكان إفريقيا الشمالية الذين تهودوا واستقروا بإسبانيا. و إذا كانت فرضية ويكسلر صحيحة، فإنه سيترتب عنها كون غالبية اليهود المغاربة ينحدرون من أمازيغيين اعتنقوا الديانة اليهودية.
إن الأدلة القليلة المعاصرة على وجود جماعات يهودية في إفريقيا الشمالية قبل حلول الإسلام بالمنطقة، لا تسمح بتأكيد الأهمية الديموغرافية والثقافية لليهودية بين الأمازيغيين. ويرجع المصدر التاريخي الأول الذي يتحدث عن قبائل أمازيغية يهودية إلى القرن الرابع عشر. إنه «كتاب العبر» لابن خلدون. والمؤكد أن هناك أساطير كثيرة حول اليهود الأمازيغيين بالجنوب المغربي قبل مجيء الإسلام. فجاك مونيتي، مثلا، مقتنع بأصالة تلك التقاليد والأساطير، ولو أن الكثير منها لم يتم تدوينه إلا مؤخرا 3 . وكيفما كان رأينا حول اعتناق قبائل أمازيغية الديانة اليهودية، يمكننا القول بأن الأساطير نفسها حول اليهود الأمازيغيين وجدت في العصر الوسيط وهي تعني كذلك أصل الأمازيغيين جميعهم. وقد تم إعداد تلك الأساطير لإضفاء الشرعية على الحكم الماريني خلال القرن الرابع عشر، قبل أن تعاد صياغتها خلال الفترة الكولونيالية. وقد أفادت تاريخانية الأساطير المتعلقة بانتشار المسيحية واليهودية بين الأمازيغيين في مرحلة ما قبل الإسلام، حاجات الإدارة الاستعمارية في رغبتها لفصل الأمازيغيين عن العرب. كما كتب جاك مونيتي: «رغم هشاشة الإشارات المتوفرة لدينا حول الانتشار القديم للمسيحية واليهودية في الجنوب المغربي، فإن [ تلك التقاليد] تستحق مع ذلك الاحتفاظ عليها لأن بإمكانها المساعدة في التعرف على مختلف عناصر السكان الأمازيغيين وتصرفاتهم اللا إسلامية، خلال القرون الأخيرة، وفي الفترة الراهنة كذلك».
إن النبش في آثار الماضي الأمازيغي اليهودي - المسيحي وسيلة، من بين وسائل أخرى، تهدف إلى تبرير النظام الكولونيالي في المغرب.
العلاقات اليهودية - الأمازيغية:
هل هي حالة خاصة؟
إن الدراسات حول المغرب، خلال السنوات الأولى للحماية الفرنسية، تشير إلى الاختلافات التي كانت موجودة بين المناطق الخاضعة لمراقبة المخزن والمناطق غير الخاضعة لمراقبة الحكومة المركزية: بلاد المخزن / بلاد السيبة. وباعتباره بمثابة تفرقة بين العرب والأمازيغيين، فإن هذا الإدراك المهيمن على المجتمع المغربي الذي طورته الإثنوغرافيات الكولونيالية وأدامته - على مطاق واسع - الإثنوغرافيا ما بعد الكولونيالية، قد أُعيد النظر فيه بشكل جدي. لقد اُعير القليل من الاهتمام للطريقة التي أثرت بها هذه الثنائية التبسيطية بين المخزن و السيبة في النقاش حول اليهودية المغربية.
والتصريح القائل بأن العلاقات اليهودية - الأمازيغية كانت مختلفة تماما عن العلاقات العربية - اليهودية مرتبط عن قرب برؤية تفرع ثنائي بين المخزن والسيبة. نذكر مثلا الحماية الفعالة للتجار اليهود من طرف زعماء القبائل، أو السادة الأمازيغيين، إلى درجة منع الاقتراب منهم. «كل يهودي من بلاد السيبة هو ملك، شخصا وممتكات لسيده »، كتب شارل دو فوكول، الذي دخلت علاقاته مع الجماعات اليهودية ضمن المتن التاريخي حول اليهودية المغربية 4 . ورغم كون اليهودي كان محميا، فإن فوكول يصفه ككائن دنيء، يستغله سيده بلا شفقة. فبما أن المناطق الأمازيغية كانت تابعة لبلاد السيبة، فقد كان لا بد لليهود أن يحصلوا على حماية زعماء محليين ومستقلين عن السلطان. ويعتبر سلوشز وضعية يهود بلاد السيبة على طريقة فوكول: « في تيليلت ينطلق، بالنسبة لليهود، بلد الرق، بل يمكننا القول العبودية. فكل ما يملكه اليهود هو ملك للقايد، الذي له كل الحقوق على رعاياه. بإمكانه قتلهم من غير عقاب، يمكنه بيعهم إذا كانت تلك رغبته... ومقابل فقدانه كل حقوقه، يتمتع اليهودي بالحماية، التي يضمنها له السيد مخاطرا بحياته... فاليهودي الراغب في الزواج، يكون عليه شراء زوجته القادمة من السيد الذي يملك أب الفتاة والذي يكون وحده المتحكم في مصيره ».
بينما كان بعض كتاب الفترة الكولونيالية يرون أن حياة اليهود في الأراضي الأمازيغية أكثر صعوبة مما عليه في المناطق الحضرية المُعربة، كان آخرون يرون عكس ذلك متأثرين بالطرح الذي طورته الإثنوغرافيا الكولونيالية، القائل بأن الأمازيغيين كانوا أكثر حرية، أكثر ديمقراطية وأكثر استقلالية من العرب، واصفين ظروف عيش اليهود في المناطق الأمازيغية ب «الأفضل». وكان لهذه الفكرة من يُبشر بها ابتداء من النصف الأول من القرن التاسع عشر. حسب دافيدسون، مثلا، فيهود سوس والريف كانت غالبيتهم من «مسلمي الأندلس»، إلا أنهم «كانوا يستفيدون رغم ذلك، من حرية أكبر من حريتهم في طنجة » 5 . إضافة إلى ذلك، وحسب دافيدسون دائما، فإن «يهود الأطلس متفوقون جدا، جسديا وفكريا، على إخوانهم المقيمين بين مسلمي الأندلس. عائلاتهم كثيرة الأفراد، وكل واحدة منها تكون تحت الحماية المباشرة لأمازيغي - سكان إفريقيا الشمالية الأصليون - لرب عمل، أو لسيد. كما يكون لهم شيخهم الخاص بهم، وهو يهودي، ينظر في كل القضايا. بخلاف اليهود المقيمين بين مسلمي الأندلس، الخاضعين للشريعة الإسلامية، فهم لا يعيشون نفس وضعية الإذلال والاستعباد؛ يطورون علاقات من نوع رب العمل / الزبون [مع جيرانهم ]، تكون لهم جميعهم نفس الامتيازات، ويكون الأمازيغي مطالبا بالدفاع عن قضية اليهودي كلما استلزم الأمر ذلك. كانوا مسلحين، ويخدمون رب عملهم بالتناوب ».
في مكان غير محدد جنوب الأطلس، لم يتمكن دافيدسون من بلوغه أثناء رحلته، يُروى أن ما بين 3000 و 4000 يهودي «يعيشون كامل حريتهم، ويزاولون مختلف المهن؛ يمتلكون معادن ومقالع يستغلونها، لهم بساتين فسيحة وكروم كثيرة، يزرعون من الذرة أكثر من حاجيات استهلاكهم، لهم نوعية حكمهم الخاصة بهم، وأراضيهم ملك لهم منذ عهد سليمان ». [...] كانوا يعيشون منعزلين، وكانوا يعتبرون إخوانهم في باقي مناطق المغرب بِدعيين. أما يهود الأطلس ، فكانوا يتمتعون باستقلالية «شبه تامة تجاه السلطة الأميرية»، شأن جيرانهم الأمازيغيين. بالإضافة إلى ذلك، كان هؤلاء اليهود يمتلكون كل خاصيات سكان المناطق الجبلية... يرتدون نفس زيهم، ولا يمكن تمييزهم عن جيرانهم المسلمين .
أما بالنسبة للأسباب التي جعلت بعض كتاب الفترة الكولونيالية يرون أن وضعية اليهود بين الأمازيغيين كانت أفضل مما كانت عليه بين العرب، فنجد على رأسها فكرة كون اليهود كانوا مندمجين كلية في المجتمع الأمازيغي، يتقاسمون العديد من عادات جيرانهم المسلمين. كان البعض يرى أن يهود الأطلس الكبير، مثلا، يتعايشون في سلام وتكافل مع المسلمين. وارتكز الباحثون المعاصرون، في الغالب، على الأدب الإثنوغرافي الكولونيالي لوصف العلاقات بين المسلمين واليهود داخل البلاد. وللأسف، فالقليل فقط من اليهود المنحدرين من المناطق الأمازيغية هم الذين تم استفسارهم حول تجربتهم. وكلما رجعنا إلى الماضي، كلما اكتشفنا بالتأكيد تنوعا في التجارب التي لا يمكننا إرجاعها إلى ثنائية العرب - الأمازيغ أو إلى نوع من التفسخ بين المناطق الحضرية والمناطق القروية. وعلى هذا المستوى، تُقدم لنا المصادر المتوفرة لدينا، حول العلاقات بين المسلمين واليهود بإليغ خلال الفترة ما قبل الكولونيالية، صورة متباينة جدا حول هذه العلاقات.
إن المصادر القادمة من إيليغ تثبت أن الجماعة اليهودية بهذه المنطقة، وكذلك الجماعة المجاورة بإيفران، كانت ترتبط بشكل وثيق بالعائلة القوية للشريف أبو دميعة.
أما توقيعات يهود إيليغ وإيفران أو التصريحات التي كانوا يقدمونها باليهودية العربية، كلما تسلموا مسبقات من الشريف، أو كلما أدى لهم ما عليه من ديون تجاههم، فكان يُحتفظ بها في سجلين للحسابات في ملكية هوزاين هاشم 26 . وكان يهود إيليغ، الذين كانوا يسافرون كثيرا إلى الصويرة لمزاولة تجارتهم، فكان يُنظر إليهم على اعتبار أنهم نحن حماية الشريف. فكلما تعرضوا للنهب أو للقتل، كان الشريف يرد بمعاقبة المنطقة التي ينتمي إليها المحرمون. بموازة ذلك، كان السلطان يوسع دائرة حمايته لتشمل تجاره الذين يسافرون إلى إيليغ للاتجار أو لاسترداد ديونهم. وكان اليهود يربطون مع أقوى قادة إيليغ غلاقات سبيهة بتلك التي كانت تربطهم بالسلطان. وقد ورد في تقرير من الصويرة «موغادور» على الطائفة اليهودية، سنة 1874، من طرف أبراهام كوركوس، لأن يهود إيليغ يضعون الشريف في مرتبة القائد الأعلى. «بما أن هذا الحاكم... ليس خاضعا لسلطة ملكنا في المغرب، فإن كل شيء يستوجب الصلاة والتوسل » 27 . فما كان مطروحا آنذاك ليس اضطهاد الشريف، بل الاضطهاد الذي كانت مسؤوليته ترجع إلى شيخهم الخاص - نجيد بالعبرية - الذي كان يقوم على سلطة الشريف. فالنجيد مسعود بن بوخا كان يوصف باعتباره شخصية غير متحضرة وفظة، تأخذ منهم [ يهود إيليغ ] غرامات دون سبب، أو لأتفه الأسباب » 28 . كما نعلم من التقرير نفسه أن الشخص نفسه، مسعود بن بوخا، كانت تربطه علاقات تجارية قوية بالشريف حسين بن هاشم 29 .
ابتداء من 1880، ستتغير طبيعة العلاقات بين يهود إيليغ وسلطانها. فمن كانوا يعانون اضطهاد شريفهم الخاص أكثر من اضطهاد الشيخ، سيلجؤون إلى الطائفة العالمية لليهود وإلى الرأي اليهودي العام في أوروبا الغربية: تحت غل الشريف حسين بن هاشم، كان من الممكن أن تُسلب منهم، في أي وقت، ممتلكاتهم وأبناؤهم الذين يُأخذون كرهائن. سنة 1889، رفع أحد كبار التجار بإيليغ، إسحاق سويسا، شكاية لأنه تعرض المؤدي إلى الموت بأمر من الشريف. ليفر بعد ذلك إلى الصويرة طلبا لمساعدة الطائفة العالمية لليهود وجمعيات وقنصليان أجنبية أخرى، لإلزام شريف إيليغ بتحرير زوجته وأبنائه والسماح لهم بالسفر إلى الصويرة. وحسب شهادات يهود من المنطقة، فإن معظم يهود سوس كانوا يعيشون في سلام مع جيرانهم الأمازيغيين ما عدا في وقائدها المستبد 30 . ويوضح فوكولد، الذي زار المنطقة في تلك الفترة، أنه بين الأمازيغيين الذين كانت لديهم مؤسسات ديمقراطية، كان لكل يهود رب عمله، بخلاف الوضعية تحت نظام الشيوخ الأقوياء كتازروالت - أي إيليغ - ، حيث كان اليهود أجسادا وخيرات في ملكية الشيخ 31 .
هناك ملاحظات كثيرة تفرض نفسها حول هذه الشهادة. فكونهم نُقلوا إلى الصويرة ، التي كانت تربط يهود إيليغ بهت علاقات وطيدة، يثبت أن اليهود كانوا على وعي بتأثير المنظمات اليهودية الأجنبية وكانوا يطلبون تدخلها. كما ينبغي الإشارة إلى أن استقلال شريف إيليغ أصبح مشبوها فيه حوالي 1880 من طرف » حَرْكَة « السلطان مولاي الحسن 32 . بل إن محمد بن الحسين عُين قائدا للمخزن وحصل على سكن بالصويرة 33. وبنا أنه كان خاضعا للسلطان، فإن سلطنه كانت تابعة للمخزن. وفي ذلك الوقت، أيضا، أصبحت مدينة تيزنيت هي المركز السياسي الرئيسي لسوس. وقد حاول بعض يهود إيليغ الاستفادة من ذلك التطور والرحيل إلى تيزنيت أو الصويرة حيث يكون بإمكانهم الاستفادة من إمكانات تجارية جديدة. بذلك حل إسحاق سويسا بمحلة السلطان خلال « حَرْكَة » 1886 لالتماس الحماية الملكية واستئذان السلطان للاستقرار هو وأهله بتيزنيت. ويبدو، مع ذلك، أن السلطان لم يكن يرغب في أن تتضرر علاقاته السياسية الجديدة مع إيليغ بالتسبب في انهيار اقتصادها الذي كان يتوقف على التجار اليهود. هكذا، وباستحضاره لهيبة «مرابط» إيليغ، تجنب السلطان الضغط على الشريف لأجل السماح برحيل اليهود. واصل إسحاق سويسا وأهله العيش بإيليغ، إلى أن تمكن من الهرب إلى الصويرة سنة 1989 . وأنكر الشريف أنه أساء معاملة إسحاق وأهله ورفض رحيلهم. بعد مرور شهور، أخبر السلطان بأنه أطلق سراح أبناء سويسا لوضع حد للاتهامات المغرضة التي توجهها إليه الجماعة اليهودية 34 . وقد اعترف شريف إيليغ بتلك المناسبة بأن السلطان أصبح هو ضامن حماية يهود سوس، بفعل ضغوط أجنبية.
مثلما كان هناك ميل لاعتبار العلاقات اليهودية - المسلمة بمثابة انعكاس للعلاقات بيت السلطان ورعاياه اليهود، كان هناك كذلك ميل إلى اعتبار العلاقات اليهودية الأمازيغية بمثابة امتداد للعلاقات بين قادة القبائل ومحمييهم اليهود. ومهما قمنا بإسقاط المعنى على الماضي، فإن الدراسات الحديثة حول إيليغ ويهود إيليغ تبين أن الروابط الاجتماعية بين اليهود والعرب في إيليغ كانت وثيقة جدا، ربما كانت وثيقة أكثر من الانطباع الذي تخلفه لدينا لوحة علاقات الشريف بالطائفة اليهودية. و نستخلص من بعض المحادثات التي أجريت سنة 1980 أنهم ترددوا عليهم كثيرا. وقد اطلعنا على مخطوط كتبه هو نفسه حول الطائفة اليهودية، يشير في بداية النص إلى أن اليهود الذين كانوا يقيمون في إيليغ «خرجوا من بلدنا إلى بلدهم»، ثم يذكر كل واحد من أفراد الجماعة، باسمه الخاص، في ثماني صفحات؛ إنه لا يذكر فقط أرباب الأسر، بل زوجاتهم وأبنائهم كذلك. ليواصل بوصف عاداتهم، ثم يشير إلى الكنيست الخاص بهم، الذي يُدعى «سلا» ويذكر بعد ذلك أسماء أعيادهم وصلواتهم اليومية [... ]. كما روى لنا أنه كان يكتب تمائم لليهود. كما أكد اليهود الذين التقيانهم في الدار البيضاء وفي الخارج على روابطهم الاجتماعية الوثيقة بالمسلمين، رافضين كون الفقيه كان يعد لهم تمائم. بذلك، وبناء على هذه الجماعة اليهودية فقط، يمكننا التأكيد على أن العلاقات اليهودية بعيدة كل البعد على أن تكون سكونية أو غير متغيرة.
الاستعمار
والقضية اليهودية - الأمازيغية
إن السياسة الاستعمارية الفرنسية تجاه الأمازيغيين، كما تم تطوريها في عهد ليوطي وبلوغها أوجها سنة 1930، بإعلان الظهير البربري الرامي إلى فصل الأمازيغيين عن العرب، كانت ترتكز على مثل نموذجية؛ نجد على رأسها، مقاومة الأمازيغيين أهالي المغرب للعرب ثم للسلطة المركزية بكل أشكالها، محتفظين بنوع من الغيرة على حريتهم، فردانيتهم وعلى مؤسساتهم الديمقراطية؛ ثانيا، ما كان على الأمازيغيين أن يتبنوا سطحية الإسلام، للإبقاء على عاداتهم كاملة أو تقريبا، معتقداتهم وخرافاتهم التي عرفوها قبل الإسلام. وبالتالي مقاومة تطبيق الشريعة والحفاظ على أعرافهم بقوة. بسبب عدم احترام السلطة العليا لأمير المؤمنين، كان على الأمازيغيين أن » ينتجوا « أولياءهم الخاصين بهم، بما أن عقيدة الأولياء، المنتشرة بين الأمازيغيين، جاءت كنتيجة لممارسة قبل إسلامية. وبفعل التأثير القوي الذي كانت تمارسه تلك الأفكار، اعتقدت السلطات الفرنسية أن مناطق السيبة سابقا يمكن أن يتم استلابها بسرعة من خلال الثقافة الفرنسية للوقوف في وجه تطورات التعريب.
إن المثل النموذجية التي طُبقت على العرب، ستتم إعادة إنتاجها على نحو ما في التعامل مع اليهود الذين كانوا يعيشون بين الأمازيغيين والذين لن يكون تاريخهم، حسب سولشز، «سوى خلاصة لتاريخ الأمازيغيين». كما يرى أنه « في بلاد السيبة، في القصور الجزائرية وأثارها، التي ظل التسلل إليها متعذرا على اليهود الأوروبيين، يمكننا العثور على اليهودية - الأمازيغية في وضعية تكاد تكون شبيهة بوضعية المغاربيين كما يقدمهم لنا الأدبين اليهودي والعربي خلال العصر الوسيط». على غرار المواطنين الأمازيغيين المسلمين، الذين تأسلموا سطحيا، فإن الأمازيغيين البدائيين «لم يكونوا يعرفون شيئا عن اليهودية تقريبا ». فحيثما وُجد أولياء يهود - أمازيغيون، ما قبل إسلاميين، نجد أولئك المواطنين القدماء 37 . ويعتبر سلوشز صدى للخطاب الاستعماري حول الأمازيغيين، حين يكتب بأن يهود الأطلس أبانوا عن «جرعة قوية من الحرية » 38 . إن الثنائية المبالغة بين المخزن والسيبة، كما أُعدت خلال الفترة الاستعمارية، قد أعاد إنتاجها سلوشز، فيهود بلاد المخزن كانوا يحظون بالحماية الملكية جماعيا، في حين لأن يهود بلاد السيبة كانوا يتمتعون بحماية السيد فرديا. وقد استمرت تلك المثل المرتبطة باليهود الذين كانوا يعيشون بين الأمازيغيين، طيلة الفترة الاستعمارية، ليصبحوا جزءا من الأفكار المُحصلة حول المغرب التقليدي الذي نقف على إعادة إنتاجه في العديد من المؤلفات.
مع ذلك، لم يكن الأمر يتعلق فقط بتمثلات الآخر كما كانت سائدة بين الأوروبيين. فقد انتهى الأمر باليهود المغاربة أنفسهم إلى استبطان تلك المثل، لا سيما أؤلئك الذين تلقوا من بينهم تربية فرنسية. فيهود الأطلس الكبير، سوس والصحراء، المناطق التي تطلبت مراقبتها وقتا طويلا من الفرنسيين، كما تعتبر من قبل اليهود المغاربة المقيمين بالمدن كمهمشين. فأسطورة اليهود الأمازيغيين الذين استردهم أسياد الطائفة والباحثون الفرنسيون، أصبحت حقيقية بالنسبة لليهود المغاربة أنفسهم. وفي الدراسات المفصلة حول ظروف عيش يهود الجنوب المغربي، التي نشرت فترة قصيرة بعد الحصول على الاستقلال والمرتكزة أساسا على المعلومات التي قدمها مدراء مدارس الطائفة اليهودية، يوضح بيير فلامان كيف تعرضت «عقلية» اليهود الأصليين المنحدرين من المناطق الأمازيغية للصياغة من طرف الوسط الأمازيغي. واليهود الذين يسمون «شلوح» يسهل، حسبه، التعرف عليهم اعتمادا على أسمائهم، على مميزاتهم الفيزيقية وعلى نوعية سلوكهم التي تعتبر نمطية بالنسبة لهم: إخوانهم في الديانة المنحدرون من أصول أخرى، يتعرفون على اليهود الذين يسمون «شلوح» من خلال الأٌلبهم: أبرغيل، أبوزاغلو، أموش، أسولين، شريكي، هاروس، واكنين، إلخ، ومن بعض سماتهم البسيكولوجية والمزاجية المجملة: أكتاف عريضة، صدور قوية، عيون شاخصة تحملها وجوه صارمة ومستقيمة، روح المقاولة، تحمل المهام الشاقة 39 .
قبل المرحلة الاستعمارية، كانت هجرة اليهود القرويين باتجاه المدن قد أنتجت تفسخات بين اليهود الأمازيغيين واليهود - العرب. ففي الصويرة ومراكش، كان اليهود «الأهالي» يتميزون عن إخوانهم القرويين في الديانة. مع ذلك، وبمجرد استقرارهم في إحدى المدن، كان اليهود الأمازيغيون يتعربون ويتكيفون مع محيط حضري يفوقهم حضارة 40 . وقد تكثفت هذه السيرورة خلال الفترة الاستعمارية، إلا أن عددا كبيرا من اليهود مكثوا في مناطقهم الأصلية. وبالتالي، فإن الناطقين الرسميين باسم التعمير والتطور أقاموا تقسيما تراتبيا بين مختلف أنماط اليهود المغاربة، وهو التقسيم الذي نجده في الغالب عند سلوشز ومن جاءوا بعده. وستُبنى هذه الأنماط اعتمادا على اليهود الناطقين بالإسبانية في طنجة وفي مناطق الشمال، اليهود الناطقين بالفرنسية أو بالعربية على الساحل أو في المدن الداخلية، المجموعة العربية - الأمازيغية وسط البلاد، المجموعة العربية و «الشلوح» في الجنوب، اليهود المعربون في الصحراء 41 . أما التصنيفات السابقة التي تبناها من نشدوا التعريب، فهي تُرجع هذه التقسيمات إلى أربعة فئات أساسية : الهسبانيون، المفرنسون المغربون، المعربون و الأمازيغيون.
أما التقسيمات الاجتماعية، حسب ترسيمة سولشز، فكانت مطابقة للتقسيمات بين: المخزن والسيبة، العالم الحضري / العالم القروي. وكان لا بد لهذه الرؤيا التبسيطية أن توؤثر في العديد من الباحثين الذين اشتغلوا على اليهود المغاربة خلال عهد الحماية الفرنسية 42 . وسواء كانت مبتكرة أو واقعية، فإنها ستؤثر على نحو مماثل في سياسة التنظيم التي طبعت أكثر حياة اليهود المغاربة خلال الحماية الفرنسية: الطائفة العالمية لليهود ومدارسها التي ميزت بين يهود «البلاد»، كما كان يسمى اليهود القرويون ويهود المدن. وقد تم استبطان هذه النماذج من قبل اليهود المغاربة أنفسهم، الذين يعتبرون يهود المناطق التي تتكلم تاشلحيت، بشكل خاص يهود قرى الأطلس، بمثابة «شلوح بدائيين»، رغم أن هؤلاء كانت لهم عموما شروط عيش أفضل من شروط عيش إخوانهم الحضريين في الملاح. خلال فترة الحماية، صاحبت توترات عنيفة جدا بين مختلف شرائح الساكنة مجيء عدد كبير من اليهود القرويين لمنحدرين من الأطلس إلى ملاح مراكش. ما جعل أحد الملاحظين، الذين كانوا يقيمون بالمدينة، يقول سنة 1940 بأن اليهود «الأجانب»، المنحدرين من إسبانيا والحاصلين على تربية أفضل، تعرضوا لاكتساح اليهود الأمازيغيين. وكان الاعتقاد السائد أن هؤلاء اليهود القرويين «لا يمارسون سوى يهودية بدائية جدا خاصة بعقليتهم [... ]. وبمجرد ن تعربوا، أصبح هؤلاء اليهود الأمازيغيون أكثر يهودية. إلا أنه» من بين هذه الاًصول الفلاحية والجبلية بوجه الخصوص، كان يبدو أن يهودي مراكش حافظ على شيء من الفظاظة والفساد. ومن بين إخوانه المغاربة في الدين، فهو الذي ظل يرتبط اليوم بقوة بعبادات أسلافه »44 . ففلامان، الذي كان يعتمد على معلومات مخبريه، كان يرى أن التقاليد الدينية ليهود الجنوب أصابتها عدوة تأثيرات «شرقية » حرفنها عزلة قديمة للمراكز الكبرى لليهودية العالمية، بحيث أنها استوعبت وأدمجت مفاهيم الإسلام ورموزه، وكذلك كل أنواع الشعائر الوثنية التي استمدت جذورها من إحيائية أرواحية زراعية محملة بالممارسات الخرافية. أما اليهود الذين ظلوا في المناطق الأمازيغية، والذين كانوا يُعزلون أكثر فأكثر كلما تكثف التعمير، فكانوا لا يزالون مهمشين، وذلك كلما كانت الهجرة تحرمهم من خيرة عناصرهم 46 . لذلك كانت الهوة بين أولئك ظلوا في القرى، من بين الأمازيغيين، وألئك الذين يعيشون في المدينة، أكثر عمقا مما كانت عليه في السابق: « لقد كان التعارض حادا بين اليهودي الإسباني أو الشرقي المتعلم والبحاثة، الحضري واليهودي الأمازيغي، الخشن البدائي، المرتبط بأرضه » 47 .
هكذا، فصورة اليهودي الأمازيغي، «المعزول عن العالم المتحضر » 48، المنحدر من القبائل الأمازيغية الأصلية والمتمسك بالعادات البدائية، كانت مقبولة من طرف المجتمع الاستعماري. وفكرة وجود «يهود شلوح» هي التي قادت أساسا أبحاثي في الجنوب. ومن بين الأسئلة التي كنت أرغب في الرد عليها هي معرفة إلى أي حد كان يهود الأطلس الصغير يستعملون الأمازيغية في التدريس لتفسير النصوص الدينية وترجمتها، أو لتلاوة الصلوات لا غير 49 . وكان سبقني إلى طرح السؤال غالان وزافراني بخصوص يهود تينغير، من خلال التركيز على نص شفوي بتمازيغت. إلا أن النتيجة كانت طرح المزيد من الأسئلة بدل إيجاد الأجوبة؛ لأن المشهد اللساني للمجموعة اليهودية، كما يشير إلى ذلك زافراني، ليس واضحا. ويظل استعمال الأمازيغية من طرف هذه المدارس ومجموعات أخرى يهودية - أمازيغية لغايات طقوسية بعيدة كل البعد عن الوضوح.
يبدو أن بعض الأدلة اللسانية تثبت أنه وُجدت، خلال القرن العشرين، مجموعات يهودية تتكلم الأمازيغية في حالة شتات. ويعتقد بعض الباحثين أن هذه الظاهرة كانت أكثر انتشارا مما اعتقدت أنا نفسي. وهناك أبحاث جديدة، أُجريت في أماكن أخرى بين اليهود المنحدرين من مناطق يتكلم أهلها الأمازيغية، أثبتت لي مع ذلك، أن القليل فقط من المجموعات كانت تتكلم الأمازيغية داخل البيت قبل الحرب العالمية الثانية 50 . كما أن قلة فقط من الباحثين السابقين هم الذين انكبوا على الجغرافية اللسانية اليهودية في المغرب القروي؛ باشتثناء فوكول الذي أكد: « إن يهود المغرب يتكلمون العربية، كما كانوا يتكلمون الأمازيغية في المناطق حيث كانت تُستعمل؛ بل إنها كانت مألوفة لديهم أكثر من العربية في بعض المناطق، بل إنها لم تكن مجهولة بالنسبة لهم في أية واحدة من المناطق »51 . لكن، هل كان فوكول يرجع إلى لهجتي الأطلس المتوسط، تامازيغت وتاشلحيت؟ ليس ذلك واضحا. إلا أن ملاحظاته التي، تعود إلى القرن التاسع عشر، تذهب إلى أن معظم يهود المناطق التي تتكلم العربية كانوا يعرفون العربية والأمازيغية معا، ويبدو مستساغا أن الأمازيغية كانت معروفة أكثر من العربية في بعض المناطق. وقد ظهر، مع ذلك، أن عددا من المجموعات المهمة بسوس والأطلس الكبير كانت معربة ولو أن معظم اليهود بها كانوا يتكلمون الأمازيغية كذلك 52 . تلك كانت حالة إيليغ التي كان سكانها اليهود يتكلمون العربية؛ ورغم ضعف معرفتنا بماضيهم البعيد، فإن الوثائق المكتوبة تبين أن اليهودية - العربية كانت هي لغة ثقافتهم، على الأقل منذ مطلع القرن التاسع عشر. كما كانت العبرية لدى النخبة الثقافية، إلا أنه لا وجود لأي أثر لليهودية - الأمازيغية في أية منطقة، لا في النصوص المكتوبة، ولا في التقليد الشفهي. لم نعثر على أي تقليد يشير إلى أن الأمازيغية كانت تستعمل في التدريس، في قراءة النصوص الدينية أو في تلاوة الصلوات.
فيما يتعلق أيضا بالمجموعة اليهودية بإيليغ، فالمدهش في تاريخها القصير نسبيا - اقل من 400 سنة - هو مواطنيتها العالمية وانفتاحها النسبي على العالم.
لقد تعرضت إيليغ للتدمير من طرف مولاي رشيد سنة 1670، إلا أنها استردت موقعها السياسي أواخر القرن السابع عشر في عهد سيدي هاشم، الذي وُصف سنة 1815 بأنه «رجل سنة ما بين الخمسين والستين، له ثروة كبيرة وسلطة واسعة؛ كان محتالا وشجاعا، إلا أنه كان جشعا وقاسيا؛ كان يحكم 15.000 جندي مسلحين بشكل جيد... كل القوافل التي كانت تعبر الصحراء ... كانت ترى من الضروري ضمان صداقته وحمايته. كانت تسود بين هذا القائد وسلطان المغرب أحقاد دفينة وغيرة متواصلة انفجرت، قبل سنوات، إلى حرب معلنة » 54 .
مؤكد أن رقم 15.000 مبالغ فيه، لأن بحارا غرق ثم اعتقل لمدة بواد نون تكلم عن 600 عربي فقط كانوا يجوبون البلاد 55 . لكن بعض الملاحظين المعاصرين يستحضرون قوة هاشم السياسية ودور إيليغ المرجح في التجارة عبر الصحراء. وبفضل تجارها اليهود، كانت إيليغ مرتبطة بأوروبا عبر ميناء الصويرة 56. لم تكن البضائع والتجار فقط هم الذين يصلون إلى إيليغ من الساحل. فبعض المبعوثين من فلسطين، أمثال هايم جوزيف ماسلياه، سنة 1817، مروا أيضا من إيليغ 57، وكذلك بعض التجار الاروبيين الذين غرقوا في الشاطئ واتُخذوا رهائن بإيليغ. كما أنه بفضل علاقتهم بميناء الصويرة، عمل يهود إيليغ كوسطاء للقناصلة المقيمين بالمدين ة في استرجاع الرهائن والمختطفين 58 .
نتيجة لانحطاط التجارة عبر الصحراوية والخراب الذي عرفته الصويرة كميناء دولي أواخر القرن التاسع عشر وطلع القرن العشرين، لم تعد إيليغ مركزا للتجارة الدولية. وقد أضر ذلك بالجماعة اليهودية المحلية التي تراجعت علاقاتها بالعالم الخارجي. وازدادت الوضعية سوءا خلال الفترة الاستعمارية وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب، شرع ائتلاف اليهود في تطوير شبكته الخاصة ب «مدارس البلد». فقد كان قادته يرون أن هذا التوسع داخل «البلد الحقيقي»ينبغي أن يشمل «القرى المعزولة في الأطلس، في الجنوب وفي الواحات شبه الصحراوية » 59 . أواخر عهد الحماية الفرنسية، إذن، كان على إيليغ أنى تشد انتباه الائتلاف الذي أسس بها أول مدرسة سنة 1954 - 60 إلا أنها أُغلقت بعد رحيل الجماعة سنوات قليلة بعد ذلك. لتوثيق افتتاح المدرسة، تم تصوير شريط «سيكون رجالا» ، خلا عرضه صرح جيل برونشفينغ، نائب رئيس الائتلاف: «سيُخرج المدرسة هؤلاء المواطنين من بؤسهم » 61 . وخلال زيارته لإيليغ، وصف مندوب من الائتلاف المدرسة بكونها «بطلة الشريط الجديد لائتلاف، إذا أمكن القول، وهي تستحق ذلك » 62 [...].
الخلاصة، أنه لا يزال مطلوبا تعميق البحث حول اليهود بين الأمازيغييين. وما حاولت إبرازه من خلال هذه الدراسة هو أن معرفتنا باليهود القرويين ظلت مرهونة بما هو جاهزبخصوص اليهود الأمازيغيين والذي كان مقبولا سواء من طرف المستعمِر أو من طرف المستعمَر.
* عن دانييل ج. شورويتر» العلاقات اليهودية - الإسلامية في المغرب: إدراكات وحقائق «، منشورات ستافيت، باريس، 1979، ص ص.169 ? 187.
1- Travels in Morocco , Londres, Charles J. Skeet. 1860. II. Pp 7 - 10
2 - نشرت والراحل بول باسكون مقالا أول حول يهود إيليغ » المقبرة اليهودية في إيليغ، 1751 ? 1955: دراسة شاهدات القبور كوثائق في التاريخ الاجتماعي « ، مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض المتوسط. 34، 2، 1982، ص ص. 39-62.
3 - جاك مونيتي، » المغرب الصحراوي من الأصول حتى القرن السادس عشر «، باريس، مكتبة كلينسزيك، 1982، 173 ? 188.
4- اعترافا بالمغرب، 1883 ? 1884، باريس، سالاميل، ص. 398.
5- John Davidson, Votes Taken during Travels in Africa, Londres, 1839, p. 165


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.