تبدو من المصادر التاريخية عن وضعية اليهود في المغرب صورة شبه متناقضة. فالرحالة الأوروبيون والمستطلعون الغربيون الذين زاروا المغرب في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يشيرون خاصة الى الحالة المأساوية التي يعيش فيها اليهود المغاربة. وهو مذهب وظفوه خدمة لايديولوجيتهم الاستعمارية وتبريرها. بينما يؤكد فريق من المؤرخين المحدثين على درجة عالية من الحكم الذاتي لليهود المغاربة والاستقلالية في ادارة شؤونهم الداخلية والتصرف فيها. بالإضافة إلى ذلك يشير هؤلاء عادة إلى فترة الحماية الفرنسية (1912-1956) كنقطة تحول بارزة في تاريخ اليهود المغاربة. فالى اي حد شكل التدخل الفرنسي في تدبير الادارة المغربية تحسنا حقيقيا في وضعية اليهود بالنسبة للفترات السابقة؟ وماذا حدث سنة 1956 عندما حصل المغرب على الاستقلال؟ من اجل فهم التغييرات التي طرأت على حياة الطائفة اليهودية في القرن العشرين، ينبغي أولا التعرف على وضعيتها في المغرب ما قبل الاستعمار. بعد ذلك نتطرق لتنامي نفوذ القوى الأوروبية في شمال أفريقيا في القرن التاسع عشر الذي أدى في النهاية إلى فرض الحماية على المغرب. ثم نقف فيما يليه عند بعض الإصلاحات الهامة التي تم ادخالها خلال الحماية الفرنسية في المغرب. في الختام نتعرض لوضعية اليهود في المغرب بعد الاستقلال. اليهود في المغرب ما قبل الاستعمار تشير المصادر التاريخية الى وجود مجموعتين من اليهود في المغرب، بحيث يتم التمييز بين "اليهود الاصليون" الذين استقروا في المغرب منذ زمن سحيق، واليهود الذين كانوا يعيشون في إسبانيا والبرتغال، ثم نزحوا الى المغرب مع نهاية القرن الخامس عشر عندما طردوا من تلك البلدان. يشار الى المجموعة الأولى في المصادر الحديثة باسم توشافيم (السكان الاصليون بالعبرية) والى المجموعة الثانية باسم ميكوراشيم، المطرودون بالعبرية أو الروميون (بمعنى الأوروبيون او الأجانب). علاوة على ذلك، عاشت في المغرب مجموعة اخرى من سلالة اليهود، وبخاصة في مدينة فاس، ممن اعتنقوا الإسلام. وهذه الطائفة تذكرها المصادر التاريخية باسماء منها الاسلاميون او المهاجرون، اسم اطلقه عليهم اخوانهم اليهود قدحا فيهم لانهم هجروا دينهم اليهودي او البلديون نسبة الى حومة البليدة بفاس، والله اعلم. وقد شكل اليهود منذ القرن الرابع عشر الأقلية الدينية الوحيدة في المغرب. حول تاريخ المسيحية في المغرب بعد الفتح الإسلامي لا نعرف الا القليل جدا. فالمسيحيون الأندلسيون الذين تم نقلهم وترحيلهم الى المغرب في القرن الثاني عشر كانوا في الواقع يعيشون وسط جماعاتهم المحلية كما كانت لهم كنائسهم الخاصة، غير ان من لم يعد منهم في القرن الرابع عشر الى إسبانيا انصهر كلية في السكان المسلمين. غير هذا هناك إشارات في المصادر إلى وجود عرضي لمسيحيين في المغرب خاصة من سجناء الحرب او العبيد المسيحيين من اروبا. وكما هو الشأن في أماكن أخرى من العالم الإسلامي كان اليهود المغاربة يخضعون لأحكام اهل الذمة. مقابل دفع الجزية كانوا يتمتعون بحماية الحكومة وحرية التدين، دون مساواة فعلية مع المسلمين الذين كان عليهم اظهار الاحترام لهم. لهذا كان اليهود يمارسون أساسا مهنا ذات الوضع الاجتماعي المتدني مثل حرفة الصائغ، كما كان عليهم الالتزام بارتداء ملابس خاصة تميزهم، مثل الجلاب الأسود او حزام خاص (الزنار). وبموجب عقد الذمة لم يكن يسمح لليهود كأقلية دينية بممارسة السلطة السياسية أو تقليد الوظائف في مكاتب الدولة. غير ان مقتضيات عقد الذمة لم تتم مراعاتها دائما بدقة في الواقع، كما يتضح مثلا من تعيين السلطان مولاي اسماعيل (1672-1727) احد كبار الشخصيات اليهودية المدعو ابراهام ميموران Maïmoran وزيرا. كما ان السلطان مولاي سليمان (1792-1822) قام بتعيين وزيرين من اليهود في حكومته كما بعث بالبعض الآخر سفراء لتمثيل المغرب في الخارج. بيد ان هذه التعيينات لم تكن تمر دائما دون احتجاج من طرف السكان المسلمين، الذين رأوا في هذه السياسة خرقا لمعاهدة اهل الذمة. لقد كان اليهود على العموم يعاملون بطريقة أفضل في المناطق التي كانت تخضع مباشرة للحكومة المركزية، على العكس من بلاد السيبة حيث كانوا في كثير من الأحيان ضحايا الصراع المتبادل على السلطة بين مختلف القبائل الامازيغية. في هذه المناطق كان اليهود يضطرون الى طلب حماية ما يسمى السيد أو الحامي. وهذه الحماية مقابل دفع مبلغ سنوي يتم ضبط بنودها فيما سمي بعقد الحرم، نوع من شهادة الحصانة. وكان اليهود خاصة في المناطق الخاضعة للحكومة المركزية يرغمون على السكن في احياء خاصة معروفة باسم الملاح. وهذا الحي الخاص باليهود والذي لم يكن له في الواقع أساس في عهد الذمة، عرف في العديد من البلدان الإسلامية. تأسس أول ملاح في المغرب سنة 1438 بفاس. وبحسب المؤرخين فان الغرض الأصلي من تدشين الملاح هو حماية اليهود ضد أعمال التعصب وعدم التسامح من طرف السكان المسلمين. ولهذا فان الحي كان يتواجد بجوار قصر السلطان ليمكن له الحفاظ على سلامة سكانه بطريقة مباشرة. ومع مرور الزمن تم فرض سكن الملاح في عدد كبير من المدن ليكتسب شيئا فشيئا طابع الحي الخاص باليهود وإن كان ذلك مع بعض أوجه التناقض في الامر. هكذا كان ملاح وجدة مثلا يسكنه كل من اليهود والمسلمين، كما لم يكن محاطا بسور مثل ملاحات فاسوالرباط ومراكش. بينما كانت تقطن في الملاح أساسا الفئات الفقيرة من اليهود، نجد الفئات المحظوظة منهم كالتجار بما في ذلك تجار السلطان، غالبا ما كانوا يتخذون سكناهم في القصبة. في المجال الديني كان التنظيم الداخلي للجالية اليهودية بالمغرب يعمل باستقلال تام تقريبا. كان التنظيم الداخلي هذا في يد مجلس الأعيان، المكون من أبرز اعضاء الجالية اليهودية. وكان هذا المجلس مسؤول من بين أمور أخرى على تعيين الحاخام، الذي يقوم بتنظيم الشؤون الدينية، والإشراف على التقيد بالقواعد الدينية وكذا تلقين التعليم الديني للاطفال والشباب. كما كان يعين أيضا أمين الصندوق الذي يدير الشؤون المالية للجالية ويجمع الضرائب ويوزع التبرعات الخيرية على الفقراء والمرضى والأيتام. صيانة المعابد والمقابر اليهودية والحفاظ عليها كان ايضا من الشؤون الداخلية للجالية اليهودية التي كان يمثلها لدى الدولة في المدن المغربية شيخ اليهود. يتم تعيين شيخ اليهود من قبل الباشا قصد الاضطلاع بمسؤولية الحفاظ على النظام العام داخل الملاح، الإنذار بالغارات من جانب المسلمين، جمع الضرائب وفرض العقوبات والغرامات وتوفير العمال للسلطات المغربية. في مجال القضاء تم تقييد حرية اليهود في الحكم الذاتي لشؤونهم. هكذا فقد كان قضاء الأسرة في أيدي المحاكم اليهودية، بينما في القضايا الجنائية أو الحالات التي يكون فيها الطرف الآخر مسلما كان القاضي هو الذي يقوم بالفصل في القضايا وفقا للشريعة الإسلامية. في عام 1882 عندما قام اليهود في ملاح فاس بتعيين ثلاثة قضاة للفصل في القضايا الجنائية تدخل السلطان مولاي الحسن (1873-1894) على الفور معتبرا هذا التعيين خروجا عن عادة اليهود. ثم قام بعرض الدعوى على القاضي بالمحكمة الإسلامية والمجلس الاستشاري لمدينة فاس. نفوذ القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر بداية كانت حقوق الاجانب الذين استقروا بالمغرب لأغراض تجارية أو دبلوماسية من الأوروبيين خاضعة في الغالب لاحكام الشريعة الإسلامية. ولما تزايد عددهم نتيجة التدخل الأوروبي في المغرب خلال القرن التاسع عشر، اذ وصل عددهم حوالي 5000 نسمة، طالبت القوى الغربية بالمزيد من الحرية لمواطنيها، على غرار الإصلاحات في تنظيمات الإمبراطورية العثمانية. وهكذا تم التأسيس خلال اتفاقية مدريد في 3 يوليوز 1880 لما يدعى الامتيازات التي اعطت لموظفي القنصليات الاوروبية والتجار حقوقا تتجاوز الحدود الإقليمية: الاعفاء من ضريبة الاستيراد والتصدير والضرائب. هكذا وضع الاجانب تحت النظام القانوني لبلدهم، الذي طبق عليهم في المغرب وسط جاليتهم بشكل مستقل. وقد تم استبعاد اليهود المغاربة من هذه الامتيازات. في معاهدة مدريد يذكر بصريح العبارة ان اليهود المغاربة مثلهم مثل المسلمين يعتبرون من رعايا السلطان ولذلك فانهم مرتبطون بالعرش عن طريق "الولاء الدائم". بهذا تم الحفاظ على وضعيتهم كاهل ذمة واعتبروا كجماعة فحسب.لم يسمح لهم بالحصول على الجنسية الاروبية دون الموافقة المسبقة من السلطان. ومع ذلك، فقد تمكنت مجموعة صغيرة من اليهود عن طريق قناصل اروبية اكتساب وضعية "المحمي" protégé. وقد ادى هذا الامر الى تدهور واستياء العلاقة بين الحكومة المغربية وهذه المجموعة من اليهود المتمتعين بالامتيازات، نظرا لكونهم اعتبروا متواطئين مع القوى الاوروبية. سبب تدهور الوضع الاقتصادي والقانوني لليهود مقارنة مع المسيحيين الأوروبيين في استياء كبير لدى اغلبية اليهود تجاه الحكم الإسلامي. وبالتالي بدأت الفجوة بين الجالية اليهودية والحكومة الإسلامية تتسع على نحو متزايد. وقد تعزز هذا بفضل النفوذ المتزايد في المغرب للمنظمات اليهودية العالمية مثل منظمة التحالف الإسرائيلي العالمي (Alliance Israélite Universelle). بعد عامين من تأسيسها في باريس سنة 1860، فتحت المنظمة اول مدرسة لها في مدينة تطوان. وقد ساهمت بشكل ملحوظ في وصل اليهود بالتعليم الحديث على النمط الأوروبي ومع الحضارة الأوروبية والمفاهيم الغربية الحديثة حول المجتمع. وبفضل المعرفة الحديثة التي اكتسبها اليهود المغاربة عن اللغة الفرنسية ومعرفتهم االتقليدية باللغة العربية والتقاليد والعادات المغربية، بدأ ألاكثر ثراء وليبرالية منهم يشتغلون بشكل متزايد كوسطاء بين الأوروبيين والسكان المغاربة المسلمين. ونتيجة لذلك بدأ اندماجهم مع القوى الأوروبية يتزايد، وهي عملية استمرت خلال الفترة الاستعمارية للحماية الفرنسية على المغرب. تحت الحماية الفرنسية (1912-1956) الصراع بين فرنسا وبريطانيا واسبانيا والمانيا حول الهيمنة التجارية والاستراتيجية والدبلوماسية في المغرب تم الحسم فيه سنة 1906 في معاهدة الجزيرة الخضراء بين القوى الأربع والسلطان مولاي عبد العزيز (1894-1908). تقرر آنذاك جعل المغرب محمية دولية على الشكل التالي: حصلت اسبانيا على الجزء الشمالي من البلاد، وفرنسا على الجزء الشرقي والجنوبي، في حين أعلنت طنجة ونواحيها منطقة دولية. وقد تم في معاهدة الحماية الموقعة بين فرنسا والمغرب سنة 1912 الحفاظ على كثير من بنود معاهدة الجزيرة الخضراء. مما يذكر في المعاهدة أن السلطات الفرنسية تتعهد باحترام الدين الإسلامي والحفاظ على المؤسسات الدينية، الامر الذي يعني ضمنا الحفاظ على الوضع القانوني لاهل الذمة. كما نصت على المحافظة على سيادة وسلامة الدولة المغربية وبالتالي الابقاء على المكانة الدينية والسياسية التي يحظى بها السلطان. بينما حكم البلاد يتم من قبل ممثل فرنسا، وهو المقيم العام، احتفظ السلطان بحق التصديق او عدمه على المراسيم التي يصدرها المقيم العام. بهذا بقي السلطان يلعب دوره في السياسة الداخلية للدولة واصبح اليهود في الواقع مرتبطين بقوتين حاكمتين مع ضرورة التزامهم بالولاء الدائم لسلطان المغرب مما لم يتغير معه بالتالي وضعهم الذمي. في تونس والجزائر الخاضعتين منذ 1830 و 1881 للحكم الفرنسي، استطاعت الادارة الفرنسية ادخال التغيرات السياسية في هاتين المستعمرتين بشكل مستقل. وكان كلا البلدين قد شهدا تغييرات اجتماعية وسياسية عميقة خلال الهيمنة العثمانية. الباشا الذي كان يعين من قبل الباب العالي في إسطنبول في تونس والجزائر كان يتصرف في ادارة الحكم بشكل مستقل تقريبا عن تدخل الامبراطورية العثمانية. عندما دخل الفرنسيون الجزائر وتونس وجدوا انفسهم احرارا في حكم هذه المناطق بشكل مستقل:لم يكن هناك رئيس دولة مسلم ليعرقل الحكومة الفرنسية في سياستها، مما جعل عملية التحديث تتم دون صعوبة كبيرة. من ثم بلغ التحرر الاجتماعي والاقتصادي والقانوني للأقلية اليهودية في الجزائر وتونس شأوا ابعد بكثير مما كان عليه الحال في المغرب. في الجزائر التي كانت بمثابة مقاطعة فرنسية، تم في عام 1871 اصدار مرسوم Crémieux كريميو القاضي بتسليم السكان اليهود في الجزائر الجنسية الفرنسية. نفس الشيء حدث في تونس وإن كان ذلك على مدى فترة أطول. وقد مكن الحصول على الجنسية الفرنسية اليهود من تحسين وضعهم القانوني والاجتماعي والاقتصادي بشكل ملحوظ. في السنوات الأولى بعد سنة 1912 تحت حكم المارشال ليوتي Lyautey، مهندس الحماية الفرنسية في المغرب،لم توضع سياسة يهودية واضحة بحيث تم الحفاظ بداية على الوضع السابق لليهود. ونظرا لوجوب الحفاظ على المؤسسات الدينية بالمغرب، كما جاء في معاهدة الحماية، استعصي على اليهود باعتبارهم رعايا السلطان الحصول على الجنسية الفرنسية. فالمحاولات التي قام بها اليهود في المغرب من أجل تحقيق هذا لم تؤد الى نتيجة تذكر. في المرسوم بشأن تجنيس الأجانب في المغرب الصادر في 29 أبريل 1920 من قبل رئيس الجمهورية الفرنسية، ظل فيه ذكر اليهود المغاربة خارج الاعتبار. كما رفضت أيضا الطلبات اللاحقة من قبل السلطات الفرنسية بسبب الضغط من السلطان. إصلاحات تحت ضغط من الجالية اليهودية في المغرب وبعض المنظمات اليهودية العالمية بدأ الفرنسيون في عام 1918 في سن قوانين ترمي الى القضاء على بعض القوانين السلبية للجالية اليهودية قصد الغائها. نتيجة للفرص الاقتصادية التي خلقتها فرنسا في المغرب، وبفضل التدريس الأوروبي المقدم من طرف منظمة التحالف الاسرائيلي العالمي، استطاعت ايضا الفئات الفقيرة من اليهود الاستفادة من ذلك. قامت الطبقة اليهودية العليا، التي ارتبطت منذ البداية بعلاقاتها الوثيقة مع السلطات المغربية منذ بداية الفترة الاستعمارية، بدور الوسيط بين فرنسا والحكومة الإسلامية، حيث نشأت طبقة متوسطة من فئة من اليهود أصحاب المشاريع والمقاولات الصغيرة في القطاعات الحرفية والتجارية. وقد لعبت هذه الطبقة دورا مهما في جلب مختلف أنواع المنتجات الأجنبية التي لم تكن معروفة بعد في المغرب، من مثل الملابس والأدوات المنزلية والمواد التجميلية. في سنة 1938 صدر قانون جديد يعطي لليهود حق تقلد مناصب الدولة وبذلك تم الغاء القانون القديم الذي كان يمنع غير المسلمين من ممارسة السلطة باسم السلطان. في عام 1947 قررت السلطات الفرنسية أيضا السماح لليهود بتولي كراسي الاعضاء في مجلس الدولة. وقد ظلت الغالبية العظمى من السكان اليهود فقراء، لكنهم تمكنوا رغم ذلك خلال الحماية ان يصبحوا ناشطين في مجال التجارة والصناعة. ساعد نمو ظروف الشغل في المراكز الاقتصادية على ظهور هجرة مهمة داخلية من المناطق الريفية إلى المدن الكبرى، وكذا من الملاحات التقليدية إلى الأحياء الأوروبية الحديثة التى برزت في هذه المدن. كما تمت الاستعاضة عن بنية الأسرة التقليدية في العديد من العائلات التي تعيش معا تحت سقف واحد بالأسرة النووية المكونة من الاب والام والأطفال. هذه العملية الديمغرافية التي طرأت على الساكنة اليهودية لم يعرفها المغاربة المسلمون في الواقع الا بعد الاستقلال. وقد نشط الجدال ايضا خلال الحماية حول القانون المطبق على اليهود. تجسد ذلك سنة 1913 عندما قامت منظمة التحالف الإسرائيلي العالمي بتقديم ملتمس لدى السلطات الفرنسية طالبة وضع اليهود خارج النظام القانوني الإسلامي واخضاعهم للقضاء الفرنسي. بنت منظمة التحالف الإسرائيلي العالمي موقفها على كون اليهود يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية في اطار الشريعة الإسلامية بحيث لا يعترف هذا القانون لا بيمين ولا بشهادة اليهودي. وعندما لم يتم الاستجابة لهذا الطلب قام اليهود بعد سبع سنوات لاحقة في 1920 بمحاولة جديدة توجت بنجاح أكبر. اذ قرر الفرنسيون حينئذ ان اي خلاف يقع بين يهودي مغربي مع مواطن فرنسي في قضية من القضايا الإدارية او بعض المخالفات المتعلقة بالحالة المدنية يمكن لليهودي ان يلتجأ للبث فيها الى محكمة فرنسية. في القضايا الجنائية ظلت الشريعة الإسلامية هي المعمول بها، بينما قضايا الأسرة استمر التحاكم فيها امام المحاكم الحاخامية العبرية. في سنة 1918 تم ادخال بعض الإصلاحات على التنظيم الداخلي للجالية اليهودية، وذلك بفضل السياسة الفرنسية المتبعة في اطار ما سمي "التحرر تحت رقابة السلطات الفرنسية". هكذا اصبح مجلس الأعيان يعين من طرف الوزير الاعظم، رئيس الوزراء بدلا من أفراد الجالية اليهودية، واصبح تحت إشراف ما سمي "مفتش المؤسسات الاسرائيلية" وظيفة جديدة احدثها الفرنسيون سنة 1919. وكان هذا المفتش مكلف بالرقابة الداخلية للجالية اليهودية، وتقديم المشورة حول القضايا اليهودية الخاصة، سواء على الصعيد السياسي او الديني. في عام 1945 حدث تغيير آخر لإعادة التنظيم. فقد تم تأسيس منظمة جامعة تتألف من أعضاء الجاليات اليهودية المختلفة التي تم انتخابها من طرف اليهود وقام بتعيينها رئيس الوزراء لتمثل الجالية اليهودية المغربية لدى الحكومة الفرنسية-المغربية. وكانت تعقد اجتماعاتها مرة في السنة في الرباط للتشاور فيما بين اعضائها تحت إشراف السلطات الفرنسية. لقد وضعت هذه الرقابة من جانب الحكومة حدا للكفاءات والسلطات الأصلية التي كانت تتمتع بها سابقا كل جالية يهودية على حدة. كما ان عملية إعادة التنظيم هذه ادت أيضا الى الغاء مهمة شيخ اليهود القديمة. وضعية اليهود في المغرب المستقل منذ مطلع الثلاثينات من القرن الماضي نشأت الحركة الوطنية التي كان السلطان محمد الخامس رمزا لها في المغرب. أعلن رواد هذه الحركة في 1933 أن اليهود مواطنون مغاربة وانه بعد الحصول على الاستقلال سوف يتمتعون بنفس الحقوق والواجبات مثل كافة المغاربة. الجهود التي بذلتها الحركة الوطنية أدت في النهاية إلى عودة محمد الخامس من المنفى سنة 1955، الذي اصبح في السنة التالية ملك المغرب المستقل. كان الملك محمد الخامس يتمتع بمكانة مرموقة وسط الجالية اليهودية: خلال السنوات 1940-1942 عارض علنا تطبيق التدابير المعادية لليهود على الأراضي المغربية، التي اتخذت في فرنسا من قبل حكومة فيشي Vichy. لقد صرح في عام 1955 قبيل استقلال المغرب أمام وفد من اليهود أن اليهود المغاربة سوف يتمتعون بعد الاستقلال بالمساواة الكاملة مع المسلمين. وقد تم لذلك الاحتفال بعودته من المنفى في 16 نوفمبر 1955 احتفالا كبيرا في الملاحات. ان الدستور الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1956 اعطى فعلا ضمانات للمساواة الحقيقية بين اليهود والمسلمين، وبه وضع حد ضمني ورسمي للوضعية الذمية لليهود. وهذا ما يشهد به على سبيل المثال تعيين الطبيب اليهودي الشهير ليون بنزاكن Benzaquen وزير البريد في أول حكومة مغربية. كما تم تعيين مواطنين من اليهود أيضا في المجالس البلدية وفي ادارات الأحزاب السياسية. عندما توفي الملك يوم 26 فبراير 1961 نعى من طرف الطائفة اليهودية والمسلمة جنبا الى جنب. وقد قام الملك الحسن الثاني الذي خلف والده الملك في عام 1961 أيضا بتعيين عدد من اليهود في حكومته. تعيين يهودي مغربي رئيس الديوان في وزارة الدفاع سنة 1965 يعد مثالا فريدا في تاريخ العالم العربي. وفي عام 1968 تواجد العديد من اليهود في المجالس البلدية لاهم المدن المغربية الكبرى. بيد انه نتيجة للابقاء والحفاظ على الهيكل الاقطاعي والثيوقراطي للدولة والمجتمع المغربيين، فان الدمقرطة والتحديث ومن ثم تحقيق المساواة بين اليهود والمسلمين التي كانت الحركة الوطنية المغربية تسعى اليها لم تتحقق الا جزئيا. لقد بقي اليهود مستبعدين عن تقلد عدد من الوظائف الرسمية، مثل العامل والسفير، ولم يكن يسمح لهم دخول الخدمة العسكرية ولا شغل مناصب مهنية في الجيش. بالاضافة الى ذلك تم ايضا تقليص حرية الجالية اليهودية فيما يتعلق بتنظيمها الداخلي. لقد تم الابقاء والاستمرار إلى حد كبير على الإصلاحات التي ادخلت على حياة اليهود خلال الحماية. كما خضعت بعض المؤسسات التي كانت تشتغل سابقا بشكل مستقل للرقابة المباشرة من قبل الحكومة المغربية. هكذا اصبحت وزارة العدل مسؤولة عن المحاكم الحاخامية ووزارة التربية والتعليم عن المدارس العبرية بحيث اصبحت هذه المؤسسات مقيدة في حركتها. كما مارست الحكومة المزيد من النفوذ على تعيين أعضاء الاتحاد العام للمنظمات اليهودية. على الرغم من التحسن الذي طرأ على حياة اليهود المغاربة خلال الحماية الفرنسية وبعد استقلال المغرب، فان تحقيق المساواة الكاملة مع المسلمين ظلت دائما مسعى الجالية اليهودية في المغرب. بالفعل اكتسبت الحركة الصهيونية الدولية خلال الفترة الاستعمارية أتباعا بين عدد من السكان اليهود في المغرب، كان لتأسيس دولة إسرائيل عام 1948 دورا مهما في ذلك. شهد هذا العام نفسه اول هجرة جماعية لليهود المغاربة إلى الدولة اليهودية الجديدة. تلتها موجة ثانية من الهجرة في الخمسينات، وخاصة بعد استقلال المغرب سنة 1956. على الرغم من محاولة محمد الخامس منع هجرة اليهود، فان رحيل الفرنسيين وعملية التعريب المتزايدة اعتبره العديد من اليهود المغاربة بمثابة عقبة في طريق تحررهم الاجتماعي وتحسين وضعهم القانوني. أغلبية اليهود -معظمهم من الفقراء- هاجروا إلى إسرائيل. وقد ساعدتهم على الهجرة منظمة قاديما Kadima الجناح المغربي للمنظمة الصهيونية العالمية، والتي تم تأسيسها سنة 1954 بالدار البيضاء. بعد ذلك بعامين، اغلقت منظمة كاديما مكاتبها بامر من الحكومة المغربية. لم يكن رحيل اليهود تقويضا لهيبة الملك في العالم العربي فقط بل كان يعني أيضا خسارة في رأس المال وفقدان للأطر الاجتماعية. هكذا نشأت هناك ضد سياسة المنع هجرة سرية لليهود ادت مع بداية الستينات إلى مفاوضات بين الحكومة المغربية والحكومة الإسرائيلية. في عام 1964 كان قد غادر المغرب أكثر من 100.000 يهودي بهذه الطريقة. ومع تصاعد حدة التوتر خلال الحرب بين اسرائيل والدول العربية في عام 1967 أخذت الهجرة اليهودية في التزايد، مما أدى إلى نمو الدعاية المناهضة للصهيونية من طرف الحكومة. خاتمة ان التحسينات التي أدخلت خلال الحماية الفرنسية وبعد الاستقلال على وضعية اليهود في المغرب لم تمنع من انخفاض عددهم بشكل كبير. فاذا كان اليهود يشكلون في بداية القرن العشرين 4،5 في المئة من مجموع السكان - ما بين 250.000 و 300.000 من اليهود في المغرب- فان نسبتهم اصبحت سنة 1952 لا تتعدى 5،2 في المئة. قدر عدد اليهود المغاربة الذين هاجروا بين 1948 و 1956 ب 90.000، ذهب معظمهم إلى إسرائيل وفرنسا، واستقر عدد أقل منهم في اسبانيا وكندا. اذا كان عدد اليهود في المغرب سنة 1956 يبلغ 170.000 نسمة، فانه وفقا لآخر التقديرات لم يكن يتعدى 5000 نسمة. بذلت الحكومة المغربية في السنوات الخمسين الماضية جهدا كبيرا لحماية مواطنيها اليهود في هويتهم واحترام مؤسساتهم الدينية مثل المدارس والمقابر. كما ان اليهود كأقلية دينية في المغرب احتفظوا على نظامهم الخاص من قانون الأسرة. يمكن فهم هذه الحماية من جانب الحكومة نظرا للدور الاجتماعي الهام الذي يلعبه اليهود في التنمية الوطنية. مقابل ذلك يتسم موقف المسلمين من الجالية اليهودية بنوع من التناقض. تناقض يجد اصوله في مشكل الصراع العربي الإسرائيلي القائم الى الآن. ولعل ادل تجسيد لهذا التناقض العبارة الشائعة "الاخوة الاعداء nnemise Frères ". * نشر اصل المقال بالنيرلندية في مجموع تحت عنوان: اليهود في العالم الاسلامي. طبع تحت اشراف يولي-مارت كوهن & ايرين زفيب. مطبعة بولاق، امستردام 1995. مراجع: 1. امحمد احمد بن عبود: مركز الاجانب في المغرب. الرباط، 1988 ط. 3 2. مجهول: قضية المهاجرين المسمون اليوم بالبلديين. دراسة وتحقيق محمد فتحة. الرباط، 2004 ط. 1 3. D. Bensimon-Donath, Evolu-tion du Judaïsme marocain sous le Pro-tectorat Français 1912-1956. Paris-Den Haag 1968. 4. A.Chouraqui. La condition ju-ridique de l'israélite marocain, Paris 1950. 5. S. Deshen, The Mellah Society: Jews Community Life in Sherifian Morocco, Chicago-London 1989. 6. H. Goldberg, The Mimuna and the Minority Status of Moroccan Jews, in: Ethnology 17 (1971), pp. 75-87. 7. H.Z. Hirschberg, A History of the Jews in North Africa. Leiden 1974-1981. 8. P.S. van Koningsveld. 'Christian-Arabic Manuscripts from the Iberian Peninsula and North Africa: Historical Interpretation', in: Alqantara xv (1994), pp•423-451. 9. N.A. Stillman. The Jews of Arab Lands in Modern Times, Phila-delphia/New York 1991. 10. H. Zafrani, Mille ans de vie juive au Maroc. Histoire et culture, religion et magie, Paris 1932.