كانت حياة اليهود بآسفي تمتاز بكونها ظلت مفتوحة على هندسيات اجتماعية بنيوية عاشت بدون عقدة «الآخر» وسط شرائح المجتمع الآسفي العربي المسلم من غير داع رئيسي إلى إعلان الاختلاف وجعله حكما و ضابطا للعلاقات الاجتماعية، التي كان «الملاح» مركزا جامعا لها. تقتضي مقاربة التواجد والحضور اليهودي بآسفي منهجية خاصة تجعلنا أمام حالة استثنائية بكل المقاييس في تاريخ وذاكرة هذا الفصيل وهذا المكون البشري المغربي,انطلاقا من كون آسفي ظلت دوما المدينة المغربية المنفردة التي لم تعرف وجود ما سمي ب «الملاح اليهودي»، كبنية سكنية مادية واجتماعية وسياسية عرفها المغرب عبر تاريخه القديم والمعاصر. ومن منطلق انمحاء الفرق وغياب الملاح، كان ليهود آسفي وضعا اعتباريا لا يختلف عن باقي بنيات المجتمع الآسفي، فأحياء المدينة عرفت كلها تواجدا يهوديا ومسلما لا يقيم الضوابط على أسس عرقية أو دينية، مما سهل على اليهود العيش بجوار دور ومنازل وبيوت آسفية مسلمة. وبالرغم من كون الملاح كبنية سكنية اجتماعية كانت قد ظهرت إبان حكم الدولة المرينية، وبالضبط مع السلطان أبي يوسف المريني في القرن الثالث عشر، باعتباره كان أول من أمر بإنشاء حي خاص باليهود بطلب من يهود فاس، فإن آسفي ظلت وفية لنموذجها الخاص في التعايش بين الأديان الذي لا يقيم الفوارق ولا يؤسس للاستثناء في العيش والسكن، وهنا نشير عرضا إلى أن اليهود كانوا مكلفين من طرف المخزن المغربي بتمليح رؤوس المجرمين وقادة القلاقل والقيام بتعليقها على الأبواب الرئيسة للمدن، وهي إحدى الروايات الشفوية المفسرة لإطلاق اسم «ملاح» على أحيائهم. البنية البشرية وعلى مستوى البنية البشرية المكونة ليهود آسفي، فقد نقف بتأن حول مرجعيات أساسية تجعلنا نقسمهم إلى ثلاث فئات، منهم العنصر الإيبيري الوافد من اسبانيا والبرتغال بعد سنة 1492 م، في المرحلة التي تلت سقوط الأندلس وغرناطة، وهي الفترة التي عرفت دخول موجات هجرة يهودية مكثفة إلى المغرب استقرت بشكل أساسي في المدن الساحلية المغربية, ومن ضمنها آسفي، حيث استقرت بالمدينة عائلات يهودية ومسلمة حاملة معها الإرث الأندلسي في المطبخ والملبس والأدب والموسيقى والعلوم . وبخصوص الفئة الثانية المكونة ليهود آسفي فهم «الطوشافيم»، وهم يهود الأصل الذين ينحدرون من فترة ما قبل الفتح الإسلامي للمغرب، وهم اليهود الذين كان لهم انصهار اجتماعي وثقافي مع الأمازيغ، واشتركوا معهم في كثير من العادات والتقاليد المشتركة، نجد منهم بآسفي أسماء وألقاب عائلات يهودية تحمل هذه الهوية كعائلة آل أمزالاغ، وعائلة خنافو، وعائلة ملو. أما الفئة الأخيرة فهي تضم خليطا من «الطوشافيم» (يهود الأصل وما قبل الفتح الإسلامي) و«الميغوراشيم» (يهود الأصل الأندلسي)، ممن هاجروا للاستقرار بآسفي من مدن مغربية مختلفة لضرورات اجتماعية واقتصادية، وهؤلاء يتميزون بكونهم حملوا بآسفي أسماء مرجعية تحيل إلى أصلهم الأول قبل دخولهم المدينة ونجد منهم عائلات بلفاسي وبن الدرعي. أسماء وألقاب بقيت أسماء وألقاب الكثير من يهود المغرب حاملة لهوية مندمجة بين الأصل البربري والعربي والإيبيري الأندلسي، فأسماء مثل بوطبول تعني بالعربية صاحب الطبل أو أبو الطبل، وبودرهام تعني صاحب الدرهم أو أبو درهم، وهو اسم كان يحمله في الأعم يهودي يتحصل الضرائب أو يضرب سكة النقود، وأدهان تعني بالعربية الدهان وهو شخص كان يمتهن الصباغة بالزيت، وأفلالو تحيل إلى عائلة يهودية من منطقة مزكًيتة بواد درعة، وأفريات عائلة يهودية مغربية أمازيغية من منطقة سوس، وأكنين هو تصغير اسمي بالأمازيغية ليعقوب، وأسراف تعني بالعربية الصراف، وعائلة أزروال وهي تعني بالأمازيغية صاحب العيون الزرق، وأزويلوس وهي عائلة يهودية تنحدر من مدينة أزوويلو الاسبانية. وكأسماء الكثير من العائلات المغربية العربية اتخذ يهود المغرب أسماء مرجعية تحيل إلى المهن أو إلى اسم الأب المرجعي، وهنا نجد عائلات بن عطار، وبن يعيش، وبن حاييم، وبن كًيكًي، وبن حمو، وبن يشو، وبن لولو، وبن ميمون، وبن زكري، وبن الشرقي، وبن حداد وبن كتان، وبن سلامة. وفيما يتعلق بطبيعة التواجد اليهودي بآسفي، تشير المراجع التاريخية في هذا الصدد إلى بداية الاهتمام بأخبارهم مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وهي الفترة التي صادفت التواجد البرتغالي على السواحل الأطلسية المغربية، كما صادفت لعب اليهود أدوارا سياسية واقتصادية بدأت تؤرخ لحضور متميز وغير عاد في التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب. وبالاستناد إلى ما تناقله الرواة والمحدثون لمؤرخين تقاة، ممن زاروا آسفي في فترة القرن الخامس عشر من أمثال حسن بن محمد الوزان، الشهير بليون الإفريقي، فإن أعلى نسبة سجلت في تاريخ آسفي من حيث عدد السكان هي تلك المسجلة في بداية سنة 1500 م حين كان يهود آسفي يشكلون أكثر من رُبع الساكنة المدينية، في مقابل الثلث مع نهاية القرن 19، حيث وصل عددهم إلى حوالي 3 آلاف نسمة لحوالي 8 آلاف من المسلمين. تعداد يهود آسفي ومع بداية القرن 20 ومباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية في سنة 1912 ستصل ساكنة آسفي إلى ما يقارب 17 ألف نسمة من المسلمين في مقابل 4 آلاف يهودي، وستبقى هذه الأرقام تتأرجح بالتقارب حتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، حيث ستصل ساكنة آسفي من المسلمين إلى رقم يقارب 40 ألف نسمة، يقابله أكثر من 5 آلاف يهودي مغربي. وستكون الخمسينيات بداية الاندحار بالنسبة للتواجد اليهودي بآسفي والمغرب، حيث ستعمل الوكالة الصهيونية الدولية، مباشرة بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في ماي 1948، على تهجير شبان يهود المغرب ابتداء من سنة 1951، وستستقطب عبر عملائها العديد من الشبيبة اليهودية الآسفية التي رُحلت إلى إسرائيل وأُلبست البذل العسكرية وأقحمت في الجيش وتم استعمالها في حروب إسرائيل ضد الدول العربية. فبعد سنة 1950 سيشكل اليهود بآسفي حوالي 4 آلاف نسمة، وهو الرقم ذاته الذي سيصبح مع سنة 1960 يقارب 1500 نسمة، وسيتقلص أكثر إلى حوالي 500 نسمة في بداية سنة 1970 حتى أضحى مجموعة بشرية مصغرة من 50 فردا في الثمانينيات، أما حاليا فعدد اليهود بآسفي يحسبون على أصابع اليد, فيهم 3 عائلات مستقرة بشكل دائم، والآخرون فضلوا الاستقرار بالدار البيضاء أو الهجرة المتأخرة إلى إسرائيل، فيما هناك عدد محدود ممن عادوا للاستقرار بمدينتهم الأم بعد أكثر من 4 أو5 عقود من الهجرة، وخير مثال على هذه الفئة اليهودية يامطوك بالاص، الذي كان قد هاجر إلى الدولة العبرية في سنة 1951 وعاد قبل سنين قليلة للاستقرار بآسفي التي غادرها وهو شاب لم يكمل بعد العشرين من عمره. لقد كانت آسفي تشكل فضاء اجتماعيا حضريا جد مناسب لعيش اليهود المغاربة، وبجانب انعدام أي ملاَّح خاص بهم، كانت دروب وأزقة المدينة تضم أزيد من 30 معبدا يهوديا، في حين كانت الصناعات التقليدية بآسفي تضاهي في النوع والعدد كبريات المدن المغربية العريقة، بحيث كانت آسفي تتوفر على أمناء ل 110 حرف وصناعات تقليدية يدوية، وكان اليهود يشكلون الأسس المتينة لليد العاملة المبدعة. وإلى جانب امتهان اليهود للصناعة التقليدية ولبعض المهن البسيطة، كانت هناك فئة برجوازية يهودية تمتهن التجارة الخارجية والفلاحة والاستيراد، حيث اشتهر جنوبآسفي بضيعات فلاحية نموذجية وضخمة كانت كلها تعود لليهودي لالوز، وهو ذاته اليهودي المغربي الذي سيكون محور تقارير الرحالة والصحفي الفرنسي ديسكوس ليون أوجين أوبان الذي زار المغرب وخاصة آسفي سنة 1902، وكان ينشر حلقات رحلته في الصحافة الفرنسية قبل أن يجمع كل مدوناته في كتاب صدر سنة 1904 بعنوان «مغرب اليوم». أصحاب مواقع حساسة ولعل أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل آسفي مركزا نشيطا لاستقطاب اليهود المغاربة للهجرة الإسرائيلية، هو تواجد النخبة الفكرية والسياسية اليهودية الآسفية ضمن الطلائع الأولى المشكلة والمؤسسة للفكر الصهيوني العالمي، وهنا نقف عند أسماء يهودية آسفية من منتصف القرن ال19 وبداية القرن ال 20 كانت لها من المكانة ما يؤهلها لتلعب أدوارا مصيرية في تشكيل وعي الهجرة عند يهود آسفي وبالتحديد عند فئات الشباب في مطلع الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي. وبالعودة إلى وثائق تحصلت عليها «المساء» بمناسبة إنجاز هذا التحقيق الصحفي عن يهود المغرب في آسفي، نورد هنا وبشكل استثنائي مجموعة من أسماء ليهود مغاربة من آسفي مع صفاتهم السرية التي ظلت إلى وقت بعيد طي التكتم في أوساط العموم، نظرا لما كانوا يحتلونه من مواقع حساسة لم تكن معروضة للتعميم وحصر تداولها في أوساط يهودية وإسرائيلية ضيقة. ومن خلال ما تحصلنا عليه من معطيات وهي كلها ليهود مهاجرين إلى إسرائيل من آسفي، نجد أسماء مثل صموئيل بن شباط المزداد سنة 1889، كان مديرا لمدرسة الرابطة الإسرائيلية بحيفا وأحد كبار المناضلين الصهاينة المشاركين في المؤتمر ال 20 للحركة الصهيونية العالمية بزوريخ، كما نجد اسم يوسف بن شباط ( -1883 1944)، الذي عمل صحفيا مكلفا من قبل الحركة الصهيونية بإصدار دورية بمصر خاصة بإشاعة اللغة العبرية، وهناك برشاط مايير، وهو حزان وتاجر يهودي مؤسس للجمعية الصهيونية «آشڤاط صهيون» سنة 1903، كما كان يراسل ثيودور هرتزل (-1860 1904) مؤسس الفكر الصهيوني وحركة شراء الأراضي للاستيطان بفلسطين من آسفي حيث دعاه هذا الأخير إلى حضور المؤتمر الصهيوني العالمي. ونجد أيضا أسماء مثل شميون الشرقي (1860 – 1930)، وهو «حزان» يهودي آسفي تكلف بصلاة اليهود بالقدس وعمل مبعوثا للحركة الصهيونية في الهند والعراق وبإفريقيا الشمالية، وهناك النهمياش أهارون، وهو ناشط صهيوني ورجل سياسة تقلد في السابق منصب عمدة مدينة صفد، كما نال مقعدا في الكنيست الإسرائيلي وانتخب رئيسا لجمعية اليهود من أصل مغربي بإسرائيل، وهناك مارسيانو مناحيم، وهو من مواليد سنة 1905، استقر بشكل مبكر بإسرائيل قادما من آسفي، حيث مثل اليهود المغاربة بالقمة الاستثنائية للمؤتمر اليهودي العالمي الذي انعقد سنة 1944 بأطلانتك سيتي بالولايات المتحدةالأمريكية. حكاية الشقوري ونورد هنا بشكل استثنائي حكاية مغربي مسلم من آسفي اسمه الحاج عبد الله الشقوري كان قد زار فلسطين في بداية القرن ال 20 واستقر هناك لفترة قبل أن يقوم بزيارة حجازية انتهت باستقراره في طنجة، حيث خادع الطائفة اليهودية هناك وقدم نفسه كأحد كبار حاخامات اليهود، واستطاع بذكائه ولون بشرته الشقراء وإتقانه للعبرية وللشعائر الدينية اليهودية أن يصبح حزانا ليهود طنجة لأكثر من سنة، حتى انكشف أمره ذات يوم لما سقط من السلم وقال «آرسول الله»، فتم تكبيل يديه ورجليه في باخرة أقلته من طنجة إلى آسفي. مزارات مختلطة وخلال السنين الأخيرة، وبالضبط مع مطلع العقد التسعين من القرن الماضي، قام من تبقى من يهود آسفي وبالتعاون وتوجيه من الحركات الدينية اليهودية العالمية ذات الصلة بالمغرب، بتنظيم وإقامة حفل سنوي بآسفي خاص بالترحم والتبرك بأضرحة أولياء بن زميرو، حيث يحج إلى آسفي ما يقارب 5 آلاف يهودي قادمين من مختلف ربوع المعمور وبشكل خاص من أوربا وأمريكا وكندا وإسرائيل. و إذا كان هذا الحدث يشكل استثناء على مستوى التدبير الأمني له بآسفي، فان كثيرا من أهالي المدينة أصبحوا ينظرون إلى الأمر من زوايا نظر مختلفة، خاصة وأن أولياء بن زميرو كانوا مزارا مزدوجا لليهود والمسلمين، تماما كما كان بعض أولياء المسلمين يشكلون مزارا لليهود، كأولياء الغليميين وضريح سيدي مومن، في حين أضحى تنظيم حفل «الهيلولة» بضريح بن زميرو في شهر غشت من كل سنة وقفا يهوديا بامتياز، لا يشارك معهم في إحيائه إلا أسماء منتقاة بعناية من سلطات المدينة وبعض الأعيان. وبالاستناد إلى دراسات اليهودي بن عامي إيسشار، التي اهتمت بظاهرة صلحاء وأولياء وقديسي اليهود المغاربة، فقد أحصى هذا الأخير ما مجموعه 652 وليا ضمنهم 126 مشتركا بين المسلمين واليهود و15 وليا مسلما يقدسه اليهود و90 وليا يهوديا عند المسلمين، في حين يتنازعون فيما بينهم 36 وليا كل ينسبه إلى ديانته ومعتقداته. لقد عاش يهود آسفي ضمن نسق سياسي مغربي قديم جعلهم يحظون بأهلية أهل الذمة، التي لم تكن سوى شكل من أشكال التدبير السياسي للاختلاف الديني، فكان وضعهم الاعتباري من منطلق أنهم أهل ذمة شبيها بإطار مؤسساتي يتيح لهم فرصة الاستقلال الذاتي في تدبير أموالهم وميراثهم وأحوالهم الشخصية، وهنا نستحضر مقولة المؤرخ اليهودي المغربي حاييم الزعفراني الذي أقر ب«تمتع المجموعات اليهودية المغربية باستقلال ذاتي كامل إداري وثقافي بنظام الخاص، كانت له محاكمه وماليته، وكانت يضمن لتابعيه حقهم في التدين والرعاية والتعليم وتطبيق قانون الأحوال الشخصية، وكانت للطائفة سلطة تنظيمية تلزم أفرادها بكل ما يتعلق بالجوانب الضرائبية والمصالح العامة». لقد شكلت آسفي عبر تاريخها نموذجا خاصا بعيش يهود المغرب، نموذجا أسس للطبائع الأولى للتعايش والتسامح غير المبني على خلفيات سياسية أو عرقية، فكانت مدينة آسفي بذلك نموذجا ثريا واستثنائيا بهذا الخصوص، يكفي أن تحتفظ لنفسها عبر تاريخها بنماذج حية من حالات زواج مختلط بين اليهود والمسلمين، هي حالات عديدة تحفظها الذاكرة تماما، كما لازالت تحتفظ بروائح طعام «السخينة» المشترك المنبعث من بيوت نار أفرنة أزقة ودروب المدينة القديمة.