"قطرة المطر تحفر في الصخر..ليس بالعنف ولكن بالتكرار"قول مأثور يعتبر الحوار إحدى نعم الديمقراطية، إنه أسُّها الذي لا تستقيم بدونه وتبرز فضيلته في كونه يسمح للأفكار والمواقف والبنيات أن تجد لنفسها متنفساً، يمنع كل اصطدام غير ودي، ويُنجي المجتمع من الانفجارات المفاجئة التي تُحول اتجاه التاريخ... إن ما يبرز تحت الضوء لا يشكل خطراً، لأن ما ينمو في الظلام، يعاني أصحابه من الكبت والمنع وأشكال الرقابة التي لا تمنح الناس الحرية في تصريف قناعاتهم وخطاباتهم أمام الآخرين، وهنا بالذات تكمن الأهمية القصوى للحوار، إنه يُنشئ أسس اختلاف سعيد، حيث يؤمن المنتسبون للمجموعة الواحدة بوجود الآخر الذي يتجاورون معه، ويضفون على أفكارهم ومعتقداتهم بُعد النسبية عوض الإطلاقية العمياء التي تتحصن وراءها خطابات وآراء تتشكل خفية في الثنايا المعتمة للمجتمع، وفي الظلام البعيد للهامش المقصي من دائرة الاهتمام الرسمي. وهنا الدور المركزي لوسائل الإعلام الأوسع انتشارا، أقصد الإعلام البصري خاصة، للأسف ليس لدينا في البرامج الحوارية التي تهتم بالقضايا السياسية والاجتماعية، غير برنامج حوارية نادرة، تظل بالرغم من كل الانتقادات الموجهة لها، مناسبة للحوار في قضايا تهم الشأن المغربي وتحظى بنسب عالية من المشاهدة، وهو ما يدل على حاجة المجتمع إلى الإنصات للآخر والتعطش لسماع رأي مختلف الفاعلين بشكل مباشر... والتراجع في نسب البرامج الحوارية يبدو ملموساً في القناة الأولى والثانية بشكل أكبر، فقد كان لدينا لدى القناة الثانية مثلا أربعة برامج حوارية:" في الواجهة"، الذي كانت تديره الزميلة مليكة ملاك، والبرنامج الناجح "Pour tout vous dire" للزميلة سميرة سيطايل، ول "الصحافة رأي"للزميل حميد ساعدني، وعمر سليم كان يدير برنامج "Grand témoin" دون ذكر البرامج التالية للعمراني وعبد الصمد بن الشريف في مختلف برامجه النوعية وآخرين. لكن هل هذا التراجع في نسبة البرامج الحوارية إلى الحد الأدنى، جاء بمحض الصدفة أو نتيجة سهو أو خطأ؟ بالعكس ثمة إرادة سياسية وراء تقليص مساحة البرامج الحوارية في قناتينا الأولى والثانية، مرتبطة بتوجه استراتيجي في المجال السياسي، سمته الأساسية، تلافي إزعاج الأصوات المختلفة التي لم يعد هناك مجال للاستمرار في إقصائها، مع وجود هيئة مفترض فيها القيام بوظائف التحكيم والإنصاف، ولأن رموز الصحافة المستقلة المزعجة وبعض الوجوه السياسية التي لا تقبل بالحزب الوحيد ودولة الشبيه هم من يشكلون نجوم هذه البرامج الحوارية التي تسمح بانفلات الآراء عن دائرة الضبط والمراقبة، فإنه يجب على التلفزة "الرسمية" ألا تساهم في صنع نجومية هؤلاء الفاعلين الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين، الذين لا يهادنون، ولا يؤمنون بالخطابات الملساء أو المسطحة، لأن لهم آراء مغايرة لا تساير بالضرورة أهواء القيمين على برامجها التلفزية أو مزاج أصحاب الحال في الدهاليز السرية للقناتين العموميتين. والحال أن العالم لم يعد ضيقاً في زمن الصحون المقعرة والأنترنيت وتكنولوجيا التواصل الدقيقة التي تسمح بنقل ما يشبع نَهم المشاهدين، ومع ذلك نشكو من تدني مستوى متابعة المغاربة للإعلام السمعي – البصري. والدولة لا تشعر بخطورة أن يعزف المواطنون على إعلامها، الذي يعتبر أداة مركزية في يدها، من خلالها تقوم بوظيفة التنشئة الاجتماعية وكل أشكال الضبط والترويض الاجتماعي، فهي وسيلتها لإبلاغ صوتها وأفكارها ومن خلالها، والمدرسة والجامعة والمسجد، تقوم بوظائف خلق المواطن الصالح أو النموذج. إن المواطن المغربي اليوم أصبح لديه الاختيار بين متعدد من القنوات الأشد تطرفاً إلى القنوات الأكثر إباحية، ومع اتساع شبكات التواصل الاجتماعي أصبح للدولة مشكل حقيقي في ضبط المجموعة الوطنية مع أشكال الاختراق القادمة في زمن العولمة وتقنيات الاتصال العالمية، لذلك تعتبر البرامج الحوارية متنفسا حقيقيا لصراع الأفكار والآراء لتأسيس قواعد اختلاف رحيم وخلق بنيات حوارية في مجتمع متنوع يتطور بشكل سريع وصادم أحيانا لحساسياتنا كآباء وأمهات وكمربين ومسؤولين عن الشأن العام، ونحس كما لو أن هناك انقلابا في المجتمع غير مؤطر وغير مراقب على مدى العشرية القادمة، فهل يعي مسؤولونا هذا الدرس؟