تشهد ظاهرة الهجرة تطورا واسعا في كثير من بقاع العالم. ذلك أن الكائن البشري عندما تضيق به السبل فانه يحدث في وجدانه شعور يدفع به بمغادرة محيطه إلى مكان آخر، قد يكون هذا على الصعيد المحلي أي يهاجر من قريته إلى مدينة ما في بلده أو من مدينة قد لا تعرف إنتاجا يحقق الاكتفاء الذاتي لمواطنيها إلى مدينة تعرف تصنيع أو رواجا لا بأس به فينزح إليها للاستقرار والعيش فيها. فإذا لم يتحقق له العيش في هنا أو هناك في بلده فإنه سيضطر إلى الذهاب بعيدا عن مجتمعه أي من ضفة إلى ضفة أخرى أوالى بلد آخر لتحسين ظروفه المعيشية . والكائن البشري معروف عنه تاريخيا انه يهاجر مثله مثل الكائنات الحية الأخرى. إن هناك أصناف عديدة من الحيوانات تقطع مسافات طويلة وقد تمتد هذه المسافات أحيانا من قارة إلى قارة أخرى بحثا عن ظروف معيشية أحسن . فلا ينبغي أن نتصور أن الحيوانات البرية من نوع "مارمس" أو "الفنك" مثلا أو الطيور، أو الكائنات المائية مثل الأسماك في البحر أو حتى الحشرات المتباينة، تهاجر هكذا عشوائيا أو تيها في الأرض، بل تكون وراء رحيلها بواعث وأسباب قاهرة. من هذه الدوافع أو الأسباب الموقع الجغرافي الذي تعيش فيه إما انه لم يعد ينزل فيه الغيث فيكون جفافا وينتج عن الجفاف النقص في التغذية، أو تنشب فيه حروب إما داخلية أو غزو خارجي على هذه الحيوانات أو الحشرات فتضطر إلى مغادرة المكان لا طوعا ولكن كرها منها. كذلك الإنسان تحكمه نفس الدوافع والأسباب، وقد ينفرد الإنسان ببعض الخصائص عن الكائنات الحيوانية الأخرى، حيث إنه لايملك أدوات تؤهله للدخول إلى سوق الشغل نضرا للنقص في التعليم والتكوين المهني أو يكون هناك إجحاف أو حيف في توزيع غير العادل للثروة وخيرات البلاد على أفراد المجتمع أو المواطنين بالمفهوم الحديث للمصطلح، فلا يحصل على نصيب منها، أو نافرا إلى طلب العلم ... ان الهجرة ليست ظاهرة جديدة إنها قديمة العهد غير ان هذه الظاهرة بدأت وتيرتها تتصاعد بشكل حثيث في العقود الأخيرة من القرن العشرين لتصبح جزء لا يتجزءا من عملية التكامل العالمي. من هنا سنتلمس بعض جوانب الظاهرة سوسيولوجيا حتى يتمكن القارئ من الإطلالة على ما يجري في هذا الحقل، اقصد بهذا الجاليات المغربية المقيمة في الخارج. إن تاريخ هجرة المغاربة إلى الخارج يرد إلى سنة 1912م أثناء دخول فرنسا إلى المغرب بهدف الحماية او الكولونيالية، زاعمة أنها تحمل رسالة التمدن لهذا الشعب القروي الذي لايعرف عن التمدن إلا قليلا. وبالفعل لم تمر إلا مدة زمنية غير طويلة حتى سيطرت على معظم الأوضاع والمجالات في المغرب وأحدثت تخلخلا في البنيات الاجتماعية التقليدية، وشيئا فشيئا بدء أفراد المجتمع ينفتح على الفرنسيين والتعرف نوعا ما على الدولة الفرنسية مما حدى بهم للتحرك نحو أراضيها ولكن ببطء شديد. وكانت كذلك حتى بداية الستينات أي بعد رحيل المستعمر عن المغرب ببضع سنوات. فبعد رحيل الدولة الكلونيالية الفرنسية عن المغرب خلفت آثارا سلبية على كثير من الأصعدة ناهيك عن سلبية النخب التي كانت تتنازع عن الحكم، هذه النخب اهتمت كثيرا بالمجال السياسي أكثر منه بالمجال الاقتصادي والاجتماعي أو بعبارة أخرى المجتمع المدني فانعكس هذا سلبا على كثير من الفئات الاجتماعية خاصة تلك التي تسكن في المناطق الريفية أو القروية بشكل عام، بعد أن لاحظ قطاع واسع من الشرائح الاجتماعية المسحوقة والمغلوبة على أمرها أن حل ظاهرة الأزمة الاقتصادية بعيد المدى أو مجهول المصير، ذلك أن الدولة خرجت من رحم المستعمر وهي منهكة القوى، إذ ينبغي أولا وقبل كل شيء تقوية نفوذ الدولة وتعزيز مؤسساتها سياسيا، بادرت إلى التفكير في عملية الهجرة. فانطلق المغاربة يهاجرون تارة على شكل جماعات وتارة أخرى على المستوى الفردي. ومن هنا برز ما يصطلح عليه ب"الهجرة السرية" او "غير الشرعية". لكن بعد ذلك تمت تسوية أوضاع معظم هؤلاء المهاجرين المغاربة إلى الدول الغربية، وحصلوا على رخصة الإقامة فيها، ذلك أن هذه البلدان بعد خروجها من الحرب الكونية وجدت نفسها عاجزة على إعادة بناء مجتمعاتها، وهذا العجز نتج عن الحرب التي اشرنا إليها ، سقط فيها ملايين من الشباب الأوروبي مما اضطرها إلى فتح أبوابها أمام اليد العاملة الأجنبية إما عن طريق منح رخص الإقامة للمهاجرين الذين ولجو هذه البلدان عن سبيل "الهجرة السرية"، أو عن طريق عقد التفاقيات بين البلدين، أي بين الدولة المصدرة للهجرة والمستقبلة لها. هؤلاء المغاربة الذين ساعدهم الحظ بولوج هذه البلدان الأوروبية (الدول الغربية) لم يكونوا يمتلكون أية علوم أو حصيلة معرفية تمكنهم من الانخراط في بنيات ومؤسسات المجتمعات التي ولجوها ناهيك عن أنهم يجهلون المعرفة السياسية ولا يعرفون ما هو المجتمع المدني أقول المجتمع المدني ونحن نعلم انه لم يكن يحتل المرتبة الأولى في تفكير أو إستراتيجية النخب الحاكمة آنذاك فتم إرجائه إلى ما بعد، أي بعد تثبيت ركائز الدولة. ولم يبدأ النقاش حوله إلا في نهاية السبعينات. بينما كان قد ظهر أو بدأ النقاش حوله في مجتمعات العالم الأول في القرن الثامن عشر الميلادي، وحسب بعض النظريات كان قبل ذلك أي قبل قرون من الزمن مضت، وبالرغم من ذلك فإن المجتمع المدني ظهر في المغرب قبل المشرق. إن جل المهاجرين المغاربة إلى اليوم، لم يمتلكوا الأدوات والآليات التي تمكنهم من الانخراط الفعلي في هذه المجتمعات، وأصبحوا عاجزين عن مسايرة التقدم، ولم ينتبهوا ويفيقوا من سباتهم العميق إلا بعد ما مرت عقود من الزمن. ورغم نهضتهم المتأخرة ما تزال أمامهم تحديات وصعاب لايمكن تجاوزها إلا بتنظيم صفوفهم والسهر على تربية وتعليم أبنائهم، والعمل الجدي في متابعة ما يجري في البلدان المضيفة، خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، دون إهمال الجانب الأكاديمي، والفضاء الجامعي، لأنه السبيل الطبيعي الذي سيسمح لهم باللحاق بالركب الحضاري الأوروبي، ومن خلاله فرض وجودهم في المجتمع، ويمتازوا في الصراع الإثني، ويخرجوا نسبيا من الطبقة البروليتاريا (أي الطبقة الكادحة) بالتصنيف "الماركسي" للطبقات الاجتماعية، خصوصا أن جزءا مهما من أفراد المجتمع الأصليين ينظرون إلى الأجانب باعتبارهم غرباء وبرابرة أو حتى منحطين ومتخلفين. *باحث في سوسيولوجيا الهجرة