كلما وطأت قدماي دوار العرب الذي يعيش على هامش صخب مدينة الصويرة، أستحضر رواية الكاتب الكبير غابريال غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة»، التي تعتبر وثيقة اجتماعية تاريخية ترصد فترة من أخطر فترات التاريخ الإنساني المعاصر، أستحضر روح الرواية من خلال معاناة الإنسان في هذا التجمع السكني الراسخ في القدم، وإصراره على التشبث الإجباري بقدر العزلة والمعاناة و الضياع، ورغبة التمرد التي تسكنه ضد مسببات العزلة، التي تنتج الألم وتوزع الفقر، على حد تعبير ابن خلدون في مقدمته. كلما قادتني الأقدار والنوسطالجيا إلى دوار العرب، هذه المنطقة التي تعيش في فقرها وأميتها وجهلها وعزلتها، ككثير من المناطق المهمشة في مغربنا العميق، تراقصت أمامي أسئلة القلق: هل يعيش سكان هذا الدوار في عزلة ذاتية فعلا، ويؤسسون بالتالي لأزمة حقيقية بين تفكيرهم وواقعهم؟ ألا تحتاج هذه المنطقة المعزولة وباقي المناطق المهمشة في المغرب العميق، إلى تنمية سياسية وثقافية بالموازاة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها؟ أسئلة عديدة تتزاحم في مخيلتي كلما استنشقت رائحة الدوار الذي يعول على برامج حكومة بنكيران للقطع مع العزلة. يجلس دوار العرب القرفصاء غير بعيد عن «تاصورت»، يعيش في صمت معاناته، وحين يعود أبناء الدوار مساء إلى مراقدهم، يروون لشباب المنطقة فورة الغضب التي تعم الصويرة، وينقلون أخبار الاحتجاجات التي تندلع هنا وهناك. يحكي الطلبة عن اعتصام تلاميذ مراكز التكوين المهني المطالبين بحقهم في الدراسة والسكن بداخلية المؤسسة، بعد أن تآكلت أقدامهم من جراء «لانافيت» يومية تنهك الأقدام والأذهان، وعن ساكنة حي الملاح بالصويرة العتيقة، واعتصامها المفتوح للمطالبة بحقها الدستوري في السكن اللائق، بعد سقوط أحد منازل الحي. ولأنهم في النكد سواء، فقد قرر سكان «دوار العرب» بنفس المدينة تنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر بلدية الصويرة، للمطالبة بحقوق مشروعة ترفع عنهم طوق العزلة، خاصة في ما يتعلق بالماء الصالح للشرب والسكن اللائق وتوفير مستوصف لتلبية حاجيات الساكنة. تقرر أن تنطلق مسيرة الغضب، كما جاء على لسان أحد المنظمين للوقفة الاحتجاجية، من مقر سكناهم البعيد عن وسط المدينة بحوالي 8 كيلومترات، مشيا خرج السكان في وقفة احتجاجية مصحوبين بنسائهم وأطفالهم ورجالهم وكذلك بجمالهم الصبورة، رمز ذاكرتهم الجماعية. تقرر أن يكون الاحتجاج سلميا ومنبثقا من حقهم الدستوري في القلق. حذر محدثنا سلطات المدينة من استصغار المبادرة، و«اللعب بنار الملفات المطلبية الملتهبة خاصة الاجتماعية منها، سنكتوي جميعا بلهيبها الحارق وبدون استثناء، وسنظل أوفياء لإنتاج الألم واليأس والبؤس بيننا، وبذلك نخطئ الموعد مع التاريخ مرة أخرى كما أخطأناه سابقا». ولأن العزلة تؤدي إلى الهجرة، فإن الدوار شهد عمليات نزوح واسعة نحو موكادور بينما هاجر آخرون إلى أكادير والدار البيضاء وفاس، هربا من قسوة الحياة، وفي غفلة من الزمان القاسي قرر بعض أفراد الساكنة مرة أخرى الدخول في مغامرة الهجرة، حتى الذين نادوا بالصمود والارتباط بالدوار، كالمختار الملقب «بالمخ» لحدة ذكائه وفطنة بصيرته، والذي اختار الاستقرار في العاصمة الرباط. سكان دوار العرب الأصليون وسط الصحراء القاسية العنيدة، قرر سكان مجموعة من القبائل الصحراوية السفر والهجرة، بعد أن جفت الأرض وتضررت الماشية وانعدمت المياه وأصبحت الحياة شبه مستحيلة بالنسبة إلى البشر والشجر والحيوان وحتى الحجر. في سنوات الجفاف، بدت الساكنة، كما روى أحد أحفاد المهاجرين الأوائل «أكثر حزنا وأقرب إلى الانطواء والكسل، فلم تجد من بد سوى تحمل مرارة الرحيل في اتجاه المجهول لضمان البقاء والاستمرار». كان ذلك قبل أكثر من مائة سنة، حينها استقر جزء من القوافل المهاجرة بإقليم الصويرة، وبالضبط بمنطقة تدعى دوار العرب، نسبة إلى عروبته الصحراوية بعد أن تكالبت عليهم قسوة الطبيعة وندرة المياه وشحها. كانت ومازالت هذه المنطقة غنية بغطائها النباتي المتنوع وبثروتها الغابوية وبكثافة أشجارها ودفء جوها، إضافة إلى موقعها الاستراتيجي الذي يطل على مدينة موكادور العتيقة. في فترة الهجرة هذه كان المغرب يعيش فترات عصيبة، خاصة بعد هزيمة المغاربة في معركتي إسلي سنة 1844 وتطوان سنة 1860، حينها اكتشف الغرب حقيقة ضعف المغرب وتخلفه، فبدت لحظتها بوادر الاستعمار تلوح في الأفق، خلال هذه الفترة وفي الفترة الاستعمارية التي تلتها، كان أصدقاؤنا المهاجرون وطنيون حتى النخاع رغم مرارة العيش وقسوته. حاول سكان القبائل المهاجرة استدراك الخصاص والحرمان حينها، لكن وجدوا أنفسهم عاجزين، فاستسلموا لجبروت القدر، فتسلحوا بالصبر الذي كان خير سلاح لضمان بقائهم واستمرارهم جذور في طرفاية وغصون في موكادور نعود إلى دوارنا دوار العرب، الذي يقع حاليا على عتبة مدخل مدينة الصويرة الشمالي على بعد 8 كيلومترات من المدينة القديمة. يقدر عدد السكان بأكثر من 4 آلاف نسمة، هاجروا من منطقة طرفاية في نهاية القرن التاسع عشر بحثا عن الحياة والبقاء والاستمرار لهم ولماشيتهم ولذاكرتهم الجماعية، كانوا يمثلون مجموعة من القبائل كقبيلة توبالت، الوركيين، الزفاطيين، آيت لحسن والركيبات... كانوا يعيشون من ألبان إبلهم ولحومها، هم دائمو التنقل، كثيرو الترحال لا يعرفون الاستقرار، «فلا يربط بينهم حقل أو مزرعة أو جبل، والرابطة الوحيدة بينهم هي الرابطة الطبيعية، رابطة الدم التي تبقى لديهم واضحة لصفاء ونقاوة أنسابهم. رغم قساوة الطبيعة التي تؤثر على طبائعهم وأخلاقهم وأنماط سلوكهم، ونظرا لاقتصارهم على الضروري من العيش فهم أحسن حالا في أجسامهم وأخلاقهم، فألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات، وبالتالي فهم أقرب إلى الفطرة الأولى كما تقول كتب التاريخ. دوار لعرب يراقب صخب الصويرة لقد اختار هؤلاء المهاجرون هذه المنطقة بإقليم الصويرة لموقعها الاستراتيجي ولقربها من المدينة العتيقة، إضافة إلى الازدهار الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي الذي كانت تعرفه مدينة موكادور في هذه الفترة. فالمنطقة غنية بثرواتها الغابوية وغطائها النباتي المتنوع، حيث يوجد شجر الأركان والعرعار والتين والزيتون والحلحال والزعتر.... لقد مارسوا منذ عهد بعيد أنشطة متعددة انطلاقا من موروثهم الثقافي، فتفننوا في تربية الجمال ولهم دراية كبيرة بثقافتها، كما أنهم يبدعون في صناعة الجير التقليدي وتربية النحل، إضافة إلى كونهم ملمين بخبايا الغابة اللامنتهية. إلا أن هذه الأنشطة تبقى عرضة لمجموعة من المشاكل التي تعيق تطورها بداية بطرق الاستغلال والإنتاج والتسويق التي مازالت تقليدية جدا، كما أن هناك نقصا في الخبرة والمعرفة الحديثة لدى الساكنة، إضافة إلى ظاهرة الجفاف التي تأخذ طابعا بنيويا بالإقليم. كما تعرف ساكنة المنطقة ضعفا في الفكر التعاوني والتضامني، أما المرافق العمومية والبنيات التحتية فهي ضعيفة بل غائبة؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى غياب المستوصف والمدرسة الإعدادية ودار الشباب. كما تنعدم مجاري الصرف الصحي؛ إلا أن تزويد الساكنة بالماء الصالح للشرب يبقى النقطة السوداء، إذ في منطقة يقال عنها حضرية، قريبة جدا من مركز المدينة، المدينة العالمية بثقافاتها المتنوعة والعريقة وبمهرجاناتها ذائعة الصيت، مازال أطفالها ونساؤها يمتطون الدواب لجلب الماء من مناطق بعيدة عن سكناهم وبالتالي يشكل ذلك عائقا أمام تنميتهم وتطورهم. كما يلاحظ غياب أنشطة حقيقية مستمرة ودائمة مدرة للدخل وخاصة بالنسبة إلى الشباب، أما بالنسبة إلى السكن فتلك حكاية أخرى إذ تنعدم كل شروط الكرامة الإنسانية. أما المسنون فلم تبق من إنسانيتهم سوى الذكرى، ينتظرون في كل لحظة ملك الموت لتخليصهم من مرارة الشيخوخة وقساوتها. المجتمع المدني ينتشل الدوار من العزلة من أجل تشخيص وضعية المنطقة أكثر وإيجاد الحلول الناجعة لإخراجها من العزلة والتيه، بادر المجتمع المدني في أوائل شهر يناير، المتمثل في جمعية وودادية دوار العرب للتنمية، حديثي التأسيس، بتنظيم لقاء تحسيسي وتواصلي مع الساكنة من أجل مساندتها ومساعدتها على تحقيق مطالبها الاجتماعية المشروعة تحت إشراف مديرية الفلاحة والصيد البحري الإقليمية، بمشاركة ومساهمة قسم العمل الاجتماعي بعمالة الإقليم والمصلحة الإقليمية للمياه والغابات والحد من التصحر ومركز التأهيل الفلاحي وجمعية رابطة الكفاءات من أجل التنمية، التي تمثل المجتمع المدني إضافة إلى عدة فعاليات من المجتمع المدني. كان الموضوع الأساسي في هذا اللقاء بعد التشخيص الجماعي لحاجيات المنطقة، هو استعراض كل الآليات الممكنة التي توفرها مؤسسات الدولة من أجل الدعم والإرشاد، وكذلك عبر شرح مختلف المساطر المواكبة لذلك بطريقة سلسة، فكانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية حاضرة في صلب النقاش كما هو الشأن بالنسبة إلى مخطط المغرب الأخضر، إضافة إلى دعوة الساكنة إلى الحفاظ على التوازنات البيئية في ظل الجدلية القائمة بين الحفاظ على الثروة الغابوية من جهة وحاجيات الساكنة المستمرة لها من جهة أخرى. كانت كل المداخلات تصب في كون الدولة، بمختلف مؤسساتها، جادة في إعادة بناء علاقة نوعية مع المناطق المهمشة والنائية بالإقليم والعمل على إخراجها من العزلة ومساعدتها على تحقيق تنمية محلية مستدامة بمشاريع قابلة للتطبيق على أرض الواقع انطلاقا من ثرواتها الطبيعية وذاكرتها الجماعية والثقافية وعزيمة ساكنتها وإصرارهم على الخلق والإبداع. بعدها فتح باب النقاش أمام الحضور وكان نقاشا صادقا وجادا لكنه لا يخلو من عتاب، وبشهادة الجميع كان يتجه نحو التأسيس لعلاقة جديدة واقعية وحقيقية بين سكان المنطقة ومؤسسات الدولة الغائبة منذ الزيارة التاريخية للمغفور له محمد الخامس، كما جاء على لسان أحد المتدخلين. دوار لعرب يستنشق هواء التحول عرف المغرب خلال بداية السنة الماضية حراكا سياسيا واجتماعيا، فكان لابد لإقليم الصويرة ومناطقه المعزولة الضاربة في قدم المعاناة والضياع أن تدخل هي الأخرى ضمن هذه التحولات والتغييرات الكبرى. ولكن السؤال السياسي والثقافي كان دائما مؤجلا إلى أجل غير مسمى لسنوات. «المطلوب اليوم استحضار وطرح برامج سياسية وثقافية لتأهيل الإقليم ضمن رؤية إستراتيجية، ووضع برامج حقيقية يكون المتحكم فيها الفعل السياسي والثقافي أولا وأخيرا»، يقول فاعل جمعوي. يجمع أبناء المنطقة على أن «الصويرة اليوم محتاجة إلى ثورة هادئة وعميقة تعيد الاعتبار إلى البرامج السياسية والتنافس الشريف بين التصورات والأطروحات وتجاوز عقلية الشخصنة والتأسيس لمرحلة المؤسسات والكف عن صناعة كائنات انتخابية، مل منها المواطنون، بريع اقتصادي تاريخي قديم ومتجاوز». مضيفين أنه لابد اليوم أن يستحضر الفاعل السياسي والاقتصادي والمدني والثقافي أن هذه المدينة العتيقة بإقليمها الشاسع ومناطقها المعزولة محتاجة إلى إنجاز قطائع حاسمة مع تقليدانية الفعل والممارسة، محتاجة إلى وجوه جديدة تحمل الهم الوطني وهدفها إعادة تشكيل مشهد سياسي متوازن ومتماه مع مختلف الفاعلين المركزيين والمحليين. الحاجة اليوم في إقليمنا إلى تنمية سياسية حقيقية تدعمها الأفكار التقدمية والوطنية والحداثية، المنفتحة على التحولات التي تعيشها مملكتنا. ويعتبر أبناء المنطقة أن «الحاجة اليوم إلى تفعيل سؤال المواطنة وأجرأته على أرض الواقع بدون تخوف نفسي مازال يأخذ بتلابيب البعض، فالصويرة قدرها ومنتهاها أن تجد نفسها في سؤال المؤسسة». توصيات لإخراج الدوار من العزلة من بين التوصيات التي خرج بها اللقاء، إعادة الاعتبار إلى هذه المنطقة المنسية الغارقة في عزلتها من خلال دعمها بموارد بشرية دائمة ومساعدات متنوعة بما فيها تكوين الساكنة نظريا وميدانيا عبر مجموعة من البرامج وتنظيمها في إطار تعاونيات وجمعيات قابلة للتطور والاستمرار وتحقيق التنمية المحلية المستدامة. ومن بين المشاريع الاجتماعية التضامنية القابلة للتحقيق التي جاءت بها التوصيات: - تكوين تعاونية تربية الجمال والعمل على إظهار منافعها الغذائية والعلاجية -تعاونية صناعة الجير التقليدي - تعاونيات النباتات والأعشاب الطبية - جمعية نسوية تساهم في إخراج المرأة المحلية من عزلتها القاتلة وذلك بتنميتها والدفاع عن حقوقها. إضافة إلى العمل وبأقصى سرعة مع شركاء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على تزويد المنطقة بالماء الصالح للشرب، ثم العمل على إحياء تراثها الثقافي الصحراوي، وأن يتم استثماره وتسويقه وترويجه عبر السياحة الثقافية والإيكولوجية التي يراهن عليها المغرب والمتماشية مع ثقافة الساكنة وذاكرتها الجماعية.