استند اتحاد كتاب المغرب –كما هو معلوم- في منطلقاته، وأساساته، وتصوراته، ورهاناته، وتشوفاته، منذ التأسيس، إلى وعي فكري وثقافي نوعي ومفارق، استوعب السياق الاجتماعي الحارق، والمرحلة التاريخية التي نَغَلَتْ بالصراعات والمعارك، والسجالات عن الديموقراطية، و العيش الكريم، ومشروعية النظام من عدمها. ولا أراني ملزما لأفصل فيها الكلام لأن المقام لا يسمح بذلك. رام اتحاد كتاب المغرب – في أواخر الستينيات والسبعينيات، خلخلة البنيات التقليدية، والعقليات المتحجرة، والثقافة الماضوية المشدودة إلى الفقهيات والإخوانيات، والأسمار الشعرية الكسلى التي لم تكن لتعتبر بالزمان، فَخَذَلَها الزمان، وتجاوزها التقدم والتطور، والقطع مع أعصر خرافية انحطاطية تعلي من شأن الزاويا والعتاقة والبلى، والأموات. ولقد نجحت منظمة الكتاب المغاربة نجاحا بَيِّنًا، وَبَصَمَتِ السياق، المومأ إليه، بالسجالات الفكرية التي فتحتها، بالانتصار للحداثة والتحديث على مستوى الكتابة والفن والإبداع والفكر، ما يقود إلى التذكير بموقف المنظمة بإزاء العديد من القضايا والملفات الساخنة سياسيا، واجتماعيا واقتصاديا، وثقافيا، إذ نُظِر إلى الثقافة بعامة، ووجود المنظمة الفعلي والرمزي بخاصة، كعِلَّتَيْنِ رئيستين ومركزيتين لمنازلة طاغوت الاستبداد بمعناه الشامل، والذي كان متغلغلا في المؤسسات الحكومية، ومجسدا في ماكينة الاستغلال والاحتكارات التي قَادَها أذناب الاستعمار، والمستظلون بفيء النظام، كما جسدها مؤسسة "الفقهاء" الذين لعبوا دورا تاريخيا لا ينسى –إلا من رحم ربك- في التعمية، وإلهاء الشعب بالهوامش والحواشي والقشور الدينية التي باعت له الأوهام في جنة موعودة، وتركته على الطوى، يَتَشَوَّفُ إلى الأعالي، ليجد لضائقته مخرجا. ومن ثم، كان موقف اتحاد كتاب المغرب صارما وواضحا عبر عن نفسه في ما نشر وكتب، وطبع –على قلته- وما صدر من دوريات ومجلات، عرت أكاذيب وتُرَّهَات الحقبة التي امتدت إلى التسعينيات، أخطبوطا لا يُبْقي ولا يذر. إن تورط اتحاد كتاب المغرب –بالمعنى الجميل والمسؤول والنّبيل لكلمة تورط في معمعان الشأن الثقافي، والشأن العام بالبلاد، رفع من أسهمه في "بورصة" القيم، و"بورصة" السياسيين، وفي أوساط الطلبة الجامعيين، والنقابات، بل في عين النظام نفسه، من دون أن نشير إلى مكانة المنظمة عربيا- لدى اتحادات أدباء العرب- من حيث التقدير والاحترام والاعتبار. أما الآن، فلم يعد الحال هو الحال، لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر فيما تقول العبارة التي أصبحت مسكوكة –ما يعني : ظهور المجتمع المدني، وصعوده إلى مقدمة المشهد صعودا لافتا، قويا، ومدويا. وتنوعت مجالات اشتغال هذا المجتمع، إذ باشرت جمعيات "أهلية" الاهتمام بالمواطنة وحقوق الإنسان، وأخرى بالسوسيولوجيا وتطور المجتمع، وثالثة بمسألة المرأة وقضاياها، ورابعة بالبيئة والرياضة، وخامسة بقضايا اللغة والثقافة الأمازيغيتين (المعهد الملكي)، وسادسة بالشعر (بيت الشعر)، وأخرى بالثقافة والفنون (الائتلاف المغربي)، وأخرى بالقصة القصيرة (نادي القصة القصيرة)، ونقابة المسرح (نقابة المسرحيين المغاربة)، وعاشرة بالموسيقى والغناء (النقابة المغربية للمهن الموسيقية)، وأخرى بالتشكيل (جمعية الفنون التشكيلية)- ثم (رابطة أدباء المغرب) التي ولدت ميتة. هذا الإنبثاق الجمعياتي الميمون، ساهم في انكماش دور الاتحاد، وزحف على كثير من مربعات ملعبه. ما يعني، من جهة ثانية، أن حضور المنظمة المعنية، وانتشارها المهيمن على الساحة لأكثر من أربعة عقود، تَحَجَّمَ لفائدة هذا الفوران الجمعياتي، وَصَيَّرَ- بمنطق الأشياء والواقع- اتحاد كتاب المغرب جمعية مدنية لها تاريخها واستمرارها، نعم، ولكن ليس بالزخم والدفق والجريان الذي كان. ومع ذلك، فهذا الدور الذي انكمش بفعل ارتفاع الوعي، وانتشار مجموعة من الكيانات الأدبية والفنية والفكرية والحقوقية والسياسية، اقتضتها حركية المجتمع، وتطور بُنَاهُ، ونواتج مثاقفة رجاله ونسائه، واقتضاها موت قيم، وانبعاث قيم، بل وميلادها تبعا للإنقلاب المعرفي الهائل الذي وَقَّعَهُ التواصل والاتصال والإعلام، والتكنولوجيا الرقمية. ومع أن الدور انكمش، وتلك حقيقة لا تعفيه من الانخراط في معمعان المجتمع، والصَّدْعِ بالرأي في تحولاته من خلال المساءلة الخلاقة والبانية، من خلال المساءلة الخلاقة والبانية لأصحاب القرار، عبر المواقف والبلاغات والبيانات، أتعلق الأمر بالشأن الثقافي العام، أم بتدبير قضايا التربية والتعليم والتكوين، والبحث العلمي، ومجتمع المعرفة، والعصر الرقمي. هذه بعض القضايا المتقاطعة ثقافيا ومعرفيا واجتماعيا وحقوقيا وسياسيا، والتي على منظمتنا أن تغمس في محبرتها القلم، وفي دمها ريش الهدهد الرائي. وله في ذلك أن يعقد وينظم (كما كان العهد)، ندوات ومناظرات وملتقيات ذات بعد وطني، يدعى لها أهل الفكر والرأي والثقافة والسياسة والإبداع. فهذا ما ينبغي أن يراهن عليه الاتحاد في المدى المنظور، والمدى المتوسط، طالما أن الإرادة العامة، والتي تَحَصَّلَتْ كقناعة لدى مختلف الطوائف السياسية ذات المشارب المختلفة، والنزوعات الفكرية، هي في القطع مع التذبذب والارتباك، وَتَرْكِ الحبل على الغارب، وقضاء الحاجات بتركها، وليس غير هذه الأدوار مجالا وميدانا وأرضية وأفقا لاتحاد كتاب المغرب، ليرفعها بالاحتضان والبلورة إلى مرقى الانهمام المُمِضّ، والانشغال المُسَهِّد إذا أراد أن يستمر وأن يكون له موقع قدم وسط مئات الجمعيات التي تعج بها البلاد. لا أخفي أن الاتحاد حاد –في السنوات الأخيرة- عن الجادة والهدف اللذين أُحْدِثَ من أجلهما، وتكرس بهما حين لعب أدوارا طلائعية: (يسارية، متنورة وديمقراطية)، ضمن تلك الجادة وعملا بذلك الهدف. وقد يكون جشع البعض ممن أعماهم الاستفراد بالمنظمة، وتملكها، واستملاك "ريعها" ومددهها، مما يسر –في ظل قوانين ومواثيق حامية ومسعفة، وفي ضوء ثقة نِيلَتْ في المؤتمر. هذا الإعماء والعمى هما ما دفع وشجع على افتعال الغيرة على المنظمة، بإقصاء هذا، وتهميش ذاك، والتآمر على فلان، واحتضان علان، وهو ما غيب حضور الاتحاد المشع، وَطَوَّحَ بفروعه، بل زرع بين أعضاء بعض الفروع العداوة والبغضاء. فهل كان ذلكم الضمور والتضاؤل العياني في المشهد والحركية الثقافية العامة، سببا في ظهور الجمعيات المدنية التي أشرنا إليها، إذ سارعت إلى تدبير مجموعة من الملفات العالقة، والقضايا الشائكة التي كانت حكرا على منظمة الكتاب التاريخية العتيدة بسبب من غَفْلَتِهِ وإغفاله وغيابه؟ أم أن انتشار هذه الجمعيات، لم يكن إلا رد فعل سريع ومحسوب موعى به، ومفكر فيه، لما لوحظ تأرجح اتحاد الكتاب بين الإقدام و الإحجام، وتباطؤه في اقتحام الساحة والمشهد العام، بالفكر والأدب، والنضال الثقافي؟ أم يكمن السبب في إعراض المنظمة وإشاحتها النظر عن بعض الكتاب والمبدعين الشباب الذين كانوا طلبوا العضوية؟ أو في قطع الطريق على بعض من تقدم في محطات معينة إلى طلب يد الرئاسة الجميلة "المتبرجة"؟ أختم بالقول : إن الاتحاد لن يتعافى، ويعود إليه وهجه وعنفوانه، ومكانته المعتبرة، إلا إذا غير أو عدل بعض البنود التنظيمية في القانون الأساسي للمنظمة، وكذا في القانون الداخلي لها، لتلائم وضعية جديدة، من علائمها، التطور المُتَسارع للأحداث، والربيع العربي المزهر والمتفجر في كل مكان، وَسَامَتَ أسس وأبعاد الدستور الجديد، ثم المطالبة بالحق في إعمال صفة المنفعة العامة التي حازتها المنظمة في عهد الصديق الشاعر محمد الأشعري، والتي بقيت ريحا تَصْفِرُ في قوقعة فارغة على شاطيء مهجور. كما ينبغي أن يكون المؤتمر القادم (الثامن عشر)، مؤتمرا حقيقيا بما يفيد، أن يدرك المؤتمرون أنه برلمان ثقافي مسؤول عن المصير الذي ستؤول إليه منظمتهم إذا تُعُومِلَ مع الأشياء تعاملا متراخيا إن لم أقل عبثيا. وأن أصواتهم هي أصوات شريحة واعية رفيعة الثقافة، ومتشبعة بقيم الجمال والحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مما يحتم عليهم أن يضعوها: (أصواتهم) في مكانها، ولصالح من يرونه أهلا لقيادة منظمة ثقافية عتيدة. أما الأهلية المطلوبة في أعضاء المكتب التنفيذي والرئيس المنبثق من المكتب، أو من المؤتمر مباشرة، فهي الحضور والإشعاع الثقافيان في الوطن، عبر ما راكموه من فكر أو إبداع أو فن، وعبر الصقل التجاربي، والخبرة التدبيرية، والإدارية للمنظمة، إذ لا ينبغي أن ننسى أن المكتب بكامله – وفي إطار صلاحياته، ومبدأ التفويضات المعمول بها – في الانتداب والتمثيلية – مطالب بإدارة الملفات القانونية والاجتماعية، و التنظيمية، والمشاركة الفعلية والفاعلة في مؤسسات الدولة أو المنظمات غير الحكومية، أو في الخارج، وما وراء البحار، عند التمثيل، لأن المكتب –بقضه وقضيضه- يمثل الثقافة والأدب والفن المغربي. وذلك ما ينبغي أن نعيه، ونتحصله، ونتداوله فيما بيننا، إذا أردنا –فعلا- أن نساهم- بكل نكران ذات وأريحية ومسؤولية وتطوع، في إعادة الوهج لاتحاد كتاب المغرب. وإعادة الاعتبار له، وترسيخ مكانته، و"سطوته" الثقافية الحداثية، والتحديثية، في إهاب من العلمية، والنقد الخلاق، و العقلانية، والحرية والديمقراطية.