يتجدّد جدل الهُويّات بالمغرب مع طبعة جديدة من كتاب للمؤرّخ اليمنيّ محمد حسين فرح، يتحدّث عن الجذور اليمنيّة للأمازيغ، من إصدار دار النّشر المغربيّة "الملتقى". واختار المؤرخ الراحل لهذا الكتاب عنوان: "عروبة البربر: الجذور اليمنيّة لقبائل البربر وتاريخ انتقالهم نحو المغرب". ويؤطِّر ناشر الكتاب عبد الصمد بلكبير هذا العمل برؤية يبسطها صراحة: "جذور البشريّة تعود إلى ما لا يقلّ عن 7 ملايين عام، ودخولها بشائر وممهِّدات المدنيّة والحضارة يعود إلى 100 ألف عام. فعن أيّ أصل تتحدّث المُنظَّمات "الدّولية" المختصّة والمشبوهة؟!" ويزيد بلكبير باسطا سياق إعادة نشر هذا الكتاب: "لا مجال (...) لتمييز عُنصُريّ، أو تفوّق "عِرقيّ"، أو دعوة لنزاع ما قبل تاريخيّ، وما "بعد حداثويّ"، نحن اليوم، وبسبب الظّاهرة الاستعماريّة خاصّة (...) الكثير من تناقضات ومعضلات تلك الاتحادات القوميّة النّاشئة أو المتجدّدة ستجد حتما سبيلا لتجاوزها إيجابيّا، في إطار الوحدة، وليس الانفصال والعزلة". ويقول بلكبير إنّ منطقة الشّمال الإفريقيّ قد تأخّرت نسبيّا عن دخول التاريخ، وتأسيس دولة، مقارنة بشرقها وشمالها، ويضيف: "وعندما تمّ إلحاقها بالتاريخ، فقد تمّ ذلك مِن خارجها، توسّعا وتجارة مِن قبل الشّمال (روما...)، وإلحاقا وتحريرا من قبل أشقّائهم في المشرق (فراعنة، فينيقيّين، عاشوريّين، يمنيّين... وعربا)". ويجزم الباحث والناشر المغربيّ في تقديمه لكتاب "عروبة البربر" أن "الأمازيغية" صناعة استشراقيّة-استعماريّة غربيّة. كانت التيفيناغ (=الفينيقيّة) لا أقلّ مِن أربع مئة لغة قَبَليّة أو جِهويّة مغربيّة، تماما كما كان عليه الأمر بالنّسبة للّهجات العروبيّة، قبل أن يتمّ تفصيحها (توحيدها، مَعيَرَتها، كتابتها...)، عندما تأسَّسَت بالإسلام دولة امتدّت مِن المشرق نحو المغرب، استقلالا من الاستتباع (عن الروم والوندال...)، وتوحيدا وتحريرا (مِن العبودية، ومِن القبَليّة، ومِن الوثنيّة، والسّحر، ومن الشعوذة...)، ونهوضا وتواصلا، اقتصاديّا وتجاريّا وعُمرانيّا وثقافيّا، بين المغرب والمشرق. ويكتب محمد حسين فرح أنّ قضية "جذور البربر ببلاد المغرب" من القضايا الهامّة، غيرِ الجديدة، التي تناولها العديد مِن المؤرِّخين، ثم يستدرك قائلا: "لكن الأهداف من وراء طرحها لَم تَعُد تاريخيّة ومعرفيّة، وإنّما تحوَّلَت عند البعض إلى أهداف استعماريّة تتستّر "بالعلم" للتّفريق بين الأمّة الواحدة، وللنَّيل من وحدة بلاد المغرب العربي، أو تُتَّخَذ أداة لمعاداة العرب والعروبة، ووسيلة للانفصال والانفصاليّة". ويرى المؤرّخ اليمنيّ أنّ ما يسمِّيه "النَّزعة البربريّة" يمكن أن تكون "مِن عوامل وحدَة الشّعب، وترسيخ وتحصين وحدة وعروبة بلاد المغرب، في ظِلِّ المعرفة التاريخية السّليمة بواحِديّة جذور البربر والعرب، وأنّ البربر إنّما هم عربٌ قدامى انتقلوا مِن اليمن إلى بلاد المغرب في عصور تليدة". ويذكر الكاتب أنّ "الأصل الأمازيغيّ للبربر يستند إلى معارف تاريخيّة قديمة ومتواترة"، ويضيف: "ليس البربر جميعا أمازيغ، وليس مجرّد أمازيغ ينتهي أو يتوقّف عنده النّسب، وإنّما هو (أمازيغ بن كنعان) أو (مازيغ بن كنعان)؛ فعلماء ونسّابة البربر منذ أكثر مِن 1400 عام، وفي كلّ العصور التي تلت، يذكُرون ويُجمِعون على أنّ "مازيغ هو أحد أولاد كنعان. وقد ورد الاسم في كتاب (التّيجان في ملوك حمير)، مطابِقا لما قاله نسّابَة البربر، وهو مازيغ بن كنعان". كما يسجّل الكتاب أنّ "عشرة مِن قبائل البربر الكبيرة ببلاد المغرب ليسوا مِن الأمازيغ، وإنّما هم من قبائل حميريّة قحطانيّة"، ويزيد: "ذكر العالِم المؤرِّخ نشوان بن سعيد الحميري أنّ "كتامة، وعهامة، وزناتة، ولواتة، وصنهاجة، قبائل ضخمة في المغرب مِن حِمْيَر"، ومن بينها قبيلتان تكتسيان أهمية أساسية، هما: صنهاجة وكتامة؛ لأنّ "صنهاجة تزّعمَت سائر قبائل البربر بالمغرب زمنا طويلا، ولأنّ زمن استقرار صنهاجة وكتامة ببلاد المغرب هو نفس زمن استقرار قبائل البربر الأمازيغيّة الكنعانية هناك". ويورد المؤرّخ في هذا السياق قول ابن خلدون: "قال ابن الكلبي: إنّ كتامة وصنهاجة ليستا مِن قبائل البربر وإنّما هم مِن اليمانيّة... وهذا إجماع التّحقيق بشأنهم"، منضمّا بذلك إلى قول المؤرّخين والنّسّابين وأهل التّحقيق بأن هاتين القبيلَتَين "مِن قبائل حمير اليمانيّة القحطانيّة، وليسوا مِن البربر الأمازيغ". وهو ما أورد نحوه ابن عذاري المراكشي في "البيان المُغرب"، حول قول المنصور الصنهاجيّ في خطبته لمّا وُلّيَ القيروان والمغرب: "وما أنا في هذا المُلك ممّن يُوَلّى بكتاب أو يُعزَل بكتاب، لأنّي ورثتُه عن آبائي، وأجدادي ورثوه عن آبائهم وأجدادِهم حِمْير". ولا تنحصر القبائل "البربريّة التي ليست أمازيغيّة" فيما ذُكِر، بل يرد في الكتاب ذكر قبائل غمارة، وزوارة، ومكلاتة، ومزاتة، وهوارة، وزويلة. ويستحضر لإثباتها منقولات تاريخيّة، من بينها ما كتبه ابن خلدون: "أمّا نسّابة البربر، فيزعمون في بعض شعوبهم أنّهم من العرب... مثل غمارة وزوارة ومكلاتة، يَزعم نسّابَتُهم أنّهم مِن حِميَر". ولا يعني هذا، بالنّسبة للمؤرّخ محمد حسين فرح، أنّ هذه القبائل "ليست من البربر"، بل يعني أنّ "البربر طبقتان، الطبقة الأولى: قبيلة أمازيغ بن كنعان، والطبقة الثانية: القبائل الحميرية اليمانيّة القحطانيّة، وهُم صنهاجة، وكتامة، ولواتة، وعهامة، وزناتة، وغمارة، وزوارة، ومكلاتة، ومزاتة، وزويلة، وهوارة"، وهي جميعها "قبائل بربريّة من اليمن". وعن دلائل الوجود السكاني بالمنطقة منذ العصر الحجَريّ، يرجّح المؤرّخ أنّ "أولئك ليسوا من البربر، وغالب الظّنّ أنّهم مِن الجنس الحاميّ الأسود"، قبل أن يتتبّع موجات الهجرة التي تعود إلى القرن 12 قبل الميلاد، وما يليها، في بلاد المغرب. وفي حديثه عن "عصر الفتح الإسلاميّ"، يذكر الكاتب أنّ موجة من القبائل العربيّة قد استقرّت ببلاد المغرب في هذا الزمان، وذكرَتْهم المصادر التاريخيّة باسم (العرب)، وذكرت سكّان البلاد الأوّلين باسم (البربر)؛ فظهر بذلك مصطلح (عرب وبربر) في التاريخ، ليُشيع البعض استنادا إلى هذا أنّ البربر ليسوا مِن العرب. ويقدِّر المؤرّخ أنّ الصّحيح هو أنّ "البربر يمانيّون قدماء، استقرّوا ببلاد المغرب في العصور التّليدة، فتقادمَت عليهم العهود، وتفرَّقوا في أرجاء بلاد المغرب الشّاسعة (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانية)، واحتفظوا بلهجاتهم العربيّة القديمة، التي تعود إلى ما قبل الإسلام بأكثر من ألف عام"، ويزيد: "البربريّة إحدى اللّغات العربيّة القديمة، بينما تطوَّرَت اللغة في الجزيرة وصولا إلى الفصحى التي سادت زمَن الشّعر الجاهليّ، باليمن وبقيّة الجزيرة العربيّة، وترسّخت بنزول القرآن الكريم، وكانت، عموما، لغة العرب زمن الفتوحات". وعن فترة مقاومة كسيلة وديهيا، يقول المؤرّخ: "لقد اتّخذَت المدرسة الاستعماريّة، وأتباعها من ذوي النّزعة البربريّة الانفصاليّة، مِن حركة كسيلة ثم الكاهنة دلائل على ما سمّوه مقاومة البربر للعرب (الغرباء)، والعداء بينهما"، بينما يتبيّن مِن المصادر التاريخية أنّ "العلاقة بين الفاتحين والبربر، كانت علاقة أخوية منذ سنة 27 للهجرة، ومنذ الفتح والاستقرار العربيّ بقيادة معاوية بن حُديج سنة 44 للهجرة، والكثير من قبائل البربر أسلم، بل الملك كسيلة نفسه اعتنق الإسلام على يد أبي المهاجر سنة 55 للهجرة"، ويذكر في السياق نفسه أنّ "ارتداد بعض قبائل البربر قد حدث مثله في الجزيرة العربية نفسها (...) ولم يكن وراء ذلك دافع قوميّ وعَداء، بل قضايا وراءها مصالح خاصّة". ويسترسل الكتاب مبيّنا أنّ الإشكال يعود إلى "عزل يزيد بن معاوية أبا المهاجر، وتوليته عقبة بن نافع عام 62 للهجرة، ونهجه سياسة عنيفة ومعادية، وغزوه مناطق من المغرب سبق فتحُها، ومصالحةُ أهلِها"، رغم نصيحة أبي المهاجر بألا يغزو من أسلَموا، ومنهم قبيلة كسيلة، قائلا: "ليس بطنجة عدوّ لك، لأنّ الناس قد أسلموا، وهذا كسيلة رئيس البلاد فابعَث معه واليا"، فأعرض عن ذلك "وأوغل في المغرب يقتُل، ويأسر طائفة بعد طائفة. وتَعمَّد عُقبَة إهانة وإذلال كسيلة". ويورد المؤرّخ في هذا السياق ما ذكره ابن خلدون: "إنّ كسيلة اضطعن على عقبة بما كان يعامله من الاحتقار، ثم اغتنم كسيلة الفرصة وراسل البربر، فاعترضوا عقبة في (تمودة)، وقتلوه في ثلاثمائة من أصحابه استشهدوا كلّهم، ثم راسل الروم الذين بمناطق سواحل المغرب وتحالف معهم، وزحف إلى القيروان، وكان بها القائد اليمنيّ زهير بن قيس البلوي، فاستجاب لرأي غالبيّة الجند والقادة بالانسحاب، لكثرة العدوّ، إلى برقة، وتمركز مع جنوده فيها، بينما دخل كسيلة وأتباعه القيروان". ويستشهد الكاتب هنا بقول ابن الأثير إنّه قد كان بالقيروان "أصحاب الذراري والأنفال من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمَّنَهم، ودخل القيروان، واستولى على أفريقيّة"، فخرجت بذلك القيروان، أي تونس، ومناطق المغرب، من السّلطة الإسلامية، وباتت تحت سلطة كسيلة المتحالف مع الرّوم وأتباعه من الذين ارتدّوا عن الإسلام. وهو ما استمرّ إلى أن "أمدّ الخليفة عبد الملك بن مروان، الأمير زهيرا بت قيس البلويّ اليماني بالعساكر، فزحف من برقة إلى أفريقيّة (تونس)، فجمع كسيلة البربر والروم فاحتشدوا"، فيُقتَل كسيلة و"تنهزم الجيوش البربريّة والبيزنطيّة بعد قتال عنيف". كما يذكر المؤرّخ أنّ حركة ديهيا لم تكن حركة قوميّة، لترؤسِها قبيلة واحدة، هي جراوة بجبال الأوراس، ويرى أنّ دوافعها التي اجتمع حولها غير المسلمين والمرتدّون بجهات المغرب الأدنى بعد مقتل كسيلة، ثلاث، هي: عقيدتها اليهودية، وعقائد غالبيّة من اجتمعوا حولها من وثنيّين، لمقاومة الدّين الجديد، وتحالفها مع الرّوم ذوي المصلحة الرئيسية في صدّ العرب والوقوف في وجه الإسلام، وضعف موقف المشارقة بسبب انشغال الدولة العربية الإسلاميّة بالانقسام والصراع على الخلافة بين عبد الملك بن مروان، وعبد الله بن الزبير. ومن بين ما يورده هذا الكتاب للبرهنة على أطروحته، التشابه بين 15 حرفا مِن التيفيناغ، والحروف التي تشابهها في المَسند الحميريّ، والكتابة الفينيقيّة، ثم يقول إنّ أغلب هذه الحروف "امتداد لحروف كتابة المسند الحِميري، والفينيقيّ اليمنيّ العربيّ القديم"، كما يستحضر نماذج أخرى من صيغات الصّرف، وتأنيث بعض الكلمات، والمشترك اللغوي في بعض الكلمات قبل مجيء الإسلام. ومن بين الاستشهادات التي يوردها المؤرّخ اليمنيّ في هذا السياق، ما كتبه المختار السوسي حول "الألفاظ القديمة التي تسبق عند الشِّلحيّين الفتح الإسلاميّ"؛ والتي لا يعرف "ما يقوم مقامها عندهم"، وتساؤله: "لا أدري أهي ألفاظ غمرت مرادفاتها من الشّلحيّة منذ تسرَّبَت مِن العربيّة القديمة على عهد الفتح الأوّل للفينيقيّين، الذين نعرف مَن هم بالنّسبة لأبناء الجزيرة العربيّة (...) أم هي ألفاظ قديمة في اللّغة الشِّلحيّة، فتكون حجّة للمؤرِّخين الذين يؤكِّدون أنّ البربر موجَة مِن موجات المشرق في عصور ما قبل التّاريخ". كما يقدّم الكاتب أمثلة على تشابه شواهد الفنّ المعماريّ بين مناطق مثل مرتفعات الأطلس، وما في اليمن من بناءات وفنّ مِعماريّ، ونماذج من تشابه الموسيقى، وتاريخ أساليب الزّراعة والرّيّ؛ ليزكّي أطروحة كتابه: كلّ هذا "شواهد لا تخطِئ على الأصول العربيّة لسكّان المغرب الأوائل، وهم قبائل البربر".