"قال قوم: إنهم من بقايا ولد حام بن بنوح -عليه السلام- وادعت طوائف منهم إلى اليمن، إلى حمير، وبعضهم إلى بر بن قيس عيلان. وهذا باطل، لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس عيلان ابناً اسمه بر أصلاً. ولا كان لحمير طريق إلى بلاد البربر، إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن." (ابن حزم الأندلسي في جمهرة أنساب العرب) حظي فن الأنساب باهتمام العديد من الأمم, ولم يكن العرب أو الأمازيغ خارج هذا التعميم, غير انه إذا كان بإمكاننا إعادة هيكلة المشهد القبلي العربي القديم لما تأتى له من تدوين النسابة والرواة (حتى لا أقول مؤرخين), فإنه يستعصي علينا فهم الآليات والأعراف الطبقية التي حكمت المجتمعات القبلية الأمازيغية القديمة. تفيدنا هذه المقدمة في معرفة أهمية الأنساب التي يتخصص فيها ما عرف ب"النسابة" سواء عند العرب أو الأمازيغ. وما يهمنا في هذا المقال بشكل خاص هو الخلفيات الأسطورية لما يسمى ب "آباء البربر". يعتبر آدم هو أول البشر في الأديان الأبراهيمية, لكن على الرغم من ذلك يعتبر نوح هو أبو البشرية, لأن الطوفان قضى على كل شيء ولم يبقى غير ذريته, ومن تم فأن النسابة الكلاسيكيين توقفوا عند نوح في جل ما "استلهموه" حول أصل الأمم. لذا فأن نوح هو الجد المشترك للبشرية حسب السلسلة السلالية الشائعة. تختلف حلقات هذا النسب من نسابة إلى آخر. لكن بما ان الغرض هو إبراز الخلفية الأسطورية لبعض أشخاصه, اقتصر على بعض ابطاله و أقتبس سلسلة الطبري التالية: " أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق، فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد وغزا أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر، وقيل البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم بن حام" (منقولة من مقال "المغاربة أبناء العماليق و الله أعلم" لكمال نحيلة في الحوار المتمدن"). خلفيات أجداد "المغاربة": - بربر: هو جد البربر (الأمازيغ) حسب عدد من الرويات, لكن حسب روايات أخرى فاسم بربر أطلق على الأمازيغ بسبب عجمتهم (ما أكثر بربرتكم). إذا كانت هذه هي النظرية الكلاسيكية, فأن الباحثين العلميين يرجحون بأن الأسم مرتبط بكلمة اغريقية رومانية (برابرة) حيث سمى الأغريق والرومان الأجانب ب"البرابرة" خاصة القبائل الجرمانية. لكن مع ذلك اعتقد أنه يجب توخي الحذر, لأننا نجد كلمة "بربر" و"بربرة" خارج تلك الرقعة الجغرافية التي تأثرت بالرومان والأغريق, إذ أن هناك, على سبيل التوضيح, سوء فهم عند الحديث عن الجارية البربرية على لسان النخاسين القدماء, اذ قد يكون المقصود هو الجارية الصومالية وليس الأمازيغية, مثلا. - مازيغ: وهي أقدم من "بربر" في السلسلة السلالية السالفة, وهو اسم يتسمى به الأمازيغ بشكل عفوي وليس اسما متبنا. تعود جذوره على ما يبدو الى آلاف السنين, حيث ذكر بأكثر من صيغة عند الأغريق والرومان كأسماء لقبائل افريقية, وهذا الأسم يبدو أنه قد سقط من ذاكرة أمازيغ "لقبايل" بالجزائر لكن بقي منتشرا في أنحاء شمال افريقيا حتى عند أمازيغ الصحراء كمالي والنيجر بصيغ مختلفة نوعا ما ك: إموشاغ وإموجاغ... - كنعان ابن حام: هو حفيد نوح وابن حام, أصابته لعنة بسبب خطيئة اقترفها والده حام حسب الأسطورة, فلعن نوح حام بالدعوة على ابنائه بالعبودية. وهذه الأسطورة ربما كانت تستهدف السود بالدرجة الأولى, بحيث لا تزال فئة ترادف بين كلمة أسود وعبيد. أما كنعان تاريخيا أوإنجيليا فمنطقة غير دقيقة التعريف كانت تقع في الشرق الأوسط ربما في الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان وهي منطقة سامية تنتمي لغتها الى نفس عائلة اللغة العربية لكنها أقرب الى العبرية (يذكر أن اسمي "عرب" و"عبري" اشتقاقان لنفس المصدر, وهما يفيدان العبور أي حياة الترحال). حول هذا الأسم -كنعان- يذكر أن الفينيقيين الذين استقروا في شمال افريقيا يحسبون على الكنعانيين ولربما تسموا بذلك الأسم, وهذه الذكرى جعلت الأمازيغ يعتقدون بأصلهم الكنعاني الفلسطيني, كما ذكر المؤرخ الفرنسي غابرييل كامس. اذ تحفظ لنا تصريحات أوغسطين أن الناس في القرى سيجيبون السائل بأنهم كنعانيين عندما يسألون عن أصلهم, بل أن "القديس" أوغسطين اعتقد بأنه من أصل فينيقي. - افريقش: يبدو أنه فر من فلسطين (كما فرت عليسا الفنيقية حسب الأسطورة) فأسكن البربر بأفريقية, وافريقية هذه كانت قديما اسما لتونس الحالية وهي المستقر الرئيسي للبونيقيين (أي الفينيقيون الأفارقة). الأسم نفسه يعود للرومان, ف"سيبيو" الذي هزم قرطاج وسيفاكس سمي ب"افريكانوس" جريا على نهج الرومان. ويبدو أن الأسم ذكر في البدء من طرف أحد المسجلين الرومان عند حديثه عن اسيلاء قرطاج على أراضي "الأفري" أو "الآفر" (الإسم الذي اشتقت منه افريقيا التي هي صيغة تأنيث ل"آفر" باللاتينية), وإذ يقول المؤرخ سيرج لانسل أنه اسم فينيقي ألا أنني استبعد ان يسمي الرومان أراضي الغير باسماء أعدائهم العسكريين, بل أن الأسم نجده عند قبائل الأمازيغ ك"بني يفرن" ومدينة "افران" ... الخ. في الميثولوجيا التي خلدها قدماء الأغريق, نجد أن "آفر" هو أحد أبناء "هرقل الليبي" وهو الذي أعطى اسمه لأفريقيا. وفي أحد الروايات, تذكر الأسطورة أن "ساردوس" قاد الليبيين واستوطنوا بالجزيرة الأيطالية سردينيا التي سميت باسمه, وتضيف الرواية أن "ساردوس" هو ابن "ماسيريس" (الأسم قد يكون "مازيغيس") الذي يسميه الأمازيغ والمصريون بهرقل. فهل يكون "آفر" هو "إفريقش"؟ فالمؤرخ اليهودي يوسوفيوس فلافيوس يورد بأن آفر ابن مدين وحفيد ابراهيم غزا ليبيا -بلاد الآمازيغ بشكل عام- ومن تم أخذ اسم افريقيا, والملاحظ انها نفس قصة افريقش. ودائما في إطار الميثولوجيا يرى الأستاذ مصطفى أعشي ان الربة الأفريقية الرومانية "إفريقيا" الخالدة في الفسيفساء الرومانية الرائعة ماهي إلا ربة أمازيغية تبناها الرومان بعد احتلالهم افريقيا كانت تسمى "إفري". - جالوت : هو أحد العماليق التوراتيين والأنجيليين, بطل ما كان يسمى بالفلسطينيين, لكن قتله داوود ملك إسرائيل. وهنا لا بأس بأن أشير الا أن البطل الأغريقي هرقل يعتبر أيضا عملاقا في المعتقدات القديمة وهو يختلف عن الآلهة الأخرى بأنه ابن من علاقة بين إلاه وإنسانة. وهنا نذكر أن المغاربة يتحدثون عن مغارة هرقل, وبالرغم من أنني لست ملما بخبايا الأسم إلا ان الكتابة الإغريقية أوردت أن هرقل جاء الى طنجة وقتل بطل الأمازيغ وعملاقهم "أنتايوس" (حسب الصيغة الأغريقية) وله معلم جنائزي ميغاليثي ضخم بالقرب من طنجة حقيقي لكن لم يستثمرلا سياحيا ولا ثقافيا. وفي إطار الحديث عن العماليق يذكر المؤرخ الأغريقي بلوتارك أن الملوك النوميديين -نسبة لمملكة نوميديا- زعموا أنهم أبناء العملاق "سوفاكس". هذا العملاق الأسطوري من طينة هرقل وأنتايوس كان ثمرة من ربة أمازيغية تدعى تينجيس -طنجة- وهرقل الأغريقي بعد أن قتل زوجها السابق والخصم العنيد "أنتايوس". هذا العملاق "سوفاكس" يجعلني أعتقد بأنه المقصود حين قال ابن خلدون "وسفك أبو البربر كلهم" في حين يعتقد محمد شفيق أنه ربما كان يقصد الملك سيفاكس, وهو الملك الموريطاني الذي تحالف مع قرطاج وهزمتهما روما. وبالعودة إلى جالوت نسرد أيضا الرواية التالية: "أن البربر كان مسكنهم فلسطين من أرض الشام مع الكنعانيين وكانوا ملوكا, وكان كل من يملكهم يسمى جالوت كتسمية الفرس كسرى, والروم قيصر, والترك خاقان إلى أن ملكهم جالوت الجبار, فرعون داود, فقتله داود عليه السلام.و جلت البربر نحو المغرب". نفهم من هذه الرواية,إذن, أن جالوت لم يكن شخصا فريدا بحد ذاته لكنه كان لقبا لكل الملوك الأمازيغ, والسبب الكامن وراء هذه الرواية هو استيطان الفنيقيين لشمال إفريقيا واختلاط لقب "أجليد" التي تعني الملك والمسؤول في الدولة باللغة الأمازيغية مع الأسم جالوت (رأي الأستاذ سالم شاكر وغيره). وما تجدر الأشارة اليه هو ان التقديرات الكرونولوجية "الدينية" تضع حياة جالوت في القرن الحادي عشر قبل الميلاد, ومن المعلوم أن بداية الإنتشار الفينيقي على سواحل شمال افريقيا تتزامن مع تلك الفترة, وهو ما قد يجعلنا نعتقد أن أسطورة الأصل الفلسطيني ماهي إلا صدى لذكرى بعيدة نشأت مع انتشار الفنيقيين في شمال إفريقيا, والأكيد أن الأمازيغ عاشوا هنالك قبل زمن بعيد, وقد ميز المؤرخ الأغريقي هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد بين الأمازيغ باعتبارهم أصيلين في افريقيا وبين الفينيقيين باعتبارهم وافدين كالأغريق (في قورينا). مما سبق يتبين لنا أن المناهج التي تدرس لنا أو تردد تلك الروايات رغم بساطة تفنيدها لا تنشد التطور الفكري والتنوير التاريخي بقدر ما تنوي الحفاظ على تراتبيات سلالية ونظريات عقيمة غير صالحة للعصر الحديث ولا تناولها في مواضيع علمية إلا من باب دراسة الأساطير القديمة. وللفائدة فإن هذه البساطة الساذجة -الأصح أنها متساذجة- تنطبق على أسطورة الأصل الحميري اليمني لأن مملكة حمير قامت في اليمن في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد. في هذا الصدد يزعم الباحث الأمين سواق أن السبب وراء الاعتقاد بالأصل اليمني هو اختلاف لغة أهل اليمن عن اللغة العربية ووجود مفردات مشتركة بين اللغة اليمنية القديمة وبين الأمازيغية. سواء أكان مخطئا أو مصيبا في ذلك, فأنه يشير الى أن المتشبثن "بعروبة البربر" -لاحظ أن لكل خطاب أدواته الأصطلاحية المتحجرة- عبر أسطورة الأصل اليمني تناسوا أن لغة اليمن القديمة هي لغة سامية لكن ليست عربية, مثلها مثل اللغة الأمهرية الأثيوبية, وقد تبقى منها -بعد التعريب- اللغة المهرية التي تستعمل في مناطق يمنية وعمانية.