« إنّما بُعثت لأُتمِّم مَكارِم [أو صالِح] الأخلاق.» (حديث نبوي، عند البخاري في كتاب "الأدب"، والسيوطي في "الجامع الصغير") « وأمّا تَتِمّة مَكارم الأخلاق، فهي تعريتُها ممّا نُسب إليها من السَّفْسفة ؛ فإنّ سَفْساف الأخلاق أمرٌ عَرَضيٌّ، ومَكارم الأخلاق أمر ذاتيّ ؛ لأنّ السَّفْساف ليس له مُستنَد إلهيّ، فهو نِسبةٌ عَرَضيّةٌ مَبناها الأغراض النفسيّة ؛ ومَكارم الأخلاق لها مُستنَد إلهيّ، وهو الأخلاق الإلهيّة. فتَتِمّة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) مكارم الأخلاق ظهر في تَبيينه مَصارِفَها، فعيَّن لها مَصارِف تكون بها مكارمَ أخلاق وتَعْرَى بذلك عن مَلابس سَفْساف الأخلاق. فما في الكون إلا شريعةٌ.» (محيي الدين ٱبن عربي، الفُتوحات، الباب 262) «في النقاش الفلسفيّ الأُوروبيّ، كلمة "شريعة/قانون" (loi)، كما تُفكِّر فيها الفلسفة السياسيّة، لا تأتي فقط من الفلاسفة الإغريق - "أفلاطون"، "أرسطو"، "الرواقيين"، "شيشرون"- والقانونيِّين الرومان، بل لها أيضا مصدر في "الكتاب المقدس" الذي هو موضوع للتفكير بالنِّسبة للاهوتيِّين مثل القديس "أُوغسطين" والقديس "تُوما الأكوينيّ". وهو أيضا موضوع للتفكير بالنِّسبة إلى الفلاسفة، منذ مشروع "ماكيافيل" المتعلق بالقيام بقراءة "معقولة" ل"الكتاب المقدس"، [مُرورًا بِ] "هُوبز" و"إسپينوزا" و[انتهاء بِ] "كنط". ففكرة "الشريعة/القانون" أتت إلى أُوروبا الحديثة من ترجمة "الكتاب المقدس" في الألمانية (Gesetz) من قبل "لُوثر" ومن ترجمته الإنجليزية (law) في "الرِّواية المشروعة"، اللتين تَقعان ضمن أُفقٍ مطبوعٍ سلفًا بالتّرجمة الإغريقيّة (nomos) في "الرِّواية السبعينيّة"، ثُمّ في "الرِّواية العاميّة" باللاتينيّة، حيث يَتعلّق السياقُ العامُّ في الأغلب بمُناقشةِ قيمة "الشريعة/القانون" في رسائل "پول".» ("ريمي براغ") في الوقت نفسه الذي تُعدّ "ٱلشّريعةُ" أحدَ مَعالِم التّوجُّه والسّعي في حياة المُسلِمين، نجد أنّها قد صارت مَثارًا للتّوجُّس وٱلِارتياب لدى غيرهم ممّن يَرتبط ذكرُ لفظ "ٱلشّريعة" عنده بالإحالة إلى "ٱلِانغلاق" و/أو "ٱلتّشدُّد" و/أو "ٱلرَّجْعيّة" و/أو "ٱلهَمجيّة"، خصوصا أنّها لم تَعُدْ تَدُلُّ إلا في ٱتِّصالها بسُلوكاتِ تلك "ٱلحركات" التي تُسمِّي نفسها ب"ٱلإسلاميّة" ويَصِمُها خصومُها ب"ٱلمُتطرِّفة". ف"ٱلشّريعةُ"، بهذا الخصوص، أصبحت مَردُودةً إلى ظاهرِ "ٱلحُدود" المعروفة من «قَطْع يدِ ٱلسّارق» و«جَلْد ٱلزّاني و/أو رَجْمه» و«قتل ٱلمُرتدّ» و«إعطاء ٱلأُنثى نصف ما يَرِث ٱلذَّكر» و«ٱلسّماح للرِّجال بتعدُّد ٱلزّوجات». ومن ثَمّ، تَرى "ٱلمُبْطِلين" يَستخفّون أيّما ٱستخفافٍ ب"ٱلشّريعة" ليس فقط باختزالها في تلك "ٱلحُدود" المعدودة والمُجتزَأة، وإنّما أيضا لرُسوخ الظّنِّ لديهم بأنّ كونَها تتّخذُ أساسَها في "ٱلوحي" (ٱلإلاهيّ) يَستنزِلُها دون "ٱلقانون" (ٱلبشريّ) الذي يَجد، حَسَب زعمهم، مُستنَدهُ في "ٱلعقل" (ٱلعُموميّ) وحده ؛ وكأنّ القول بالِانفصال بين "ٱلوحي" و"ٱلعقل" كافٍ لتأسيس هذا الأخير في حُدود ما هو بشريّ ومن دون الإحالة إلى ما يَتجاوزه، بل كأنّ معياريّةَ "ٱلقانون" لا تقتضي أنْ يكون "ٱلعقلُ" - حتّى في تَنزُّله الطبيعيّ والبشريّ- وَحْيًا مُتنكِّرًا وأمْرًا مُتعالِيًا! وينبغي ألا يَخفى أنّ ٱستخفافَ "ٱلمُبْطلِين" ذاك إنّما يَجعلُهم يَدُلّون على مدى جهلهم بحقيقةِ "ٱلشّريعة" في صلتها ب"ٱلوحي" و"ٱلعقل" كليهما، بل ب"ٱلقانون" نفسه في صلته، من جهةٍ، بواقعِ وتاريخِ مُختلِف "ٱلأديان" و، من جهة أخرى، بالتّعالِي التّاريخيّ وٱلِاجتماعيّ عُمومًا. وبالتّالي، فإنّ ميلَهم إلى التّهويل أو التّشنيع بشأن "ٱلشّريعة" يَفضحُ كونَهم يَقُومون بدَوْرٍ مُزدوِجٍ: إنّهم، أوّلا، يَتعاطون "ٱلتّضليل" فيَحرِصون على عَرْض "ٱلشّريعة" كما لو كانت تتعارض مُطلقًا مع "ٱلعقل" و"ٱلحريّة" و"ٱلتّقدُّم" على النّحو الذي يَقتضي أنّها بالتّحديد "لاإنسانيّة" ؛ ثُمّ إنّهم، ثانيًا، يَعملون على مُناهَضةِ حقِّ ٱلمُسلِمين (وٱلإسلاميِّين خصوصا) لا فقط في ٱستلهام "ٱلإسلام" على الأقل كمَرجعيّة دينيّة وأخلاقيّة، بل أيضا حقّهم في المُطالبةِ "باسم ٱلشّريعة" بما هو من صميمِ "حُقوق ٱلإنسان" التي تَكفُل - بما هي "قِيَمٌ كُليّةٌ" أو "مَكارِمُ أخلاق" تجد جُذورَها في "ٱلتُّراث ٱلدّينيّ" للبَشريّة جمعاء- ٱلحقَّ في ٱلِاختلاف ٱعتقادًا وتعبُّدًا! وإجمالا، فإنّ العاقلَ لن يَجد سبيلا يُمكِّنُه من أنْ يَستكثرَ على ٱللّه - ربّ ٱلعالَمين- أنْ يكونَ قَيُّومَ السّماوات والأرض من دون أنْ يكون "أحْكَمَ ٱلحاكِمين" و"مَلِكَ ٱلنّاس". فاللّهُ، سبحانه وتعالى، قد شَرَع في الكون سُنَنًا لا يَملِكُ الإنسانُ نفسُه - بصفته أحدَ مخلوقاته- أنْ يَحيدَ عنها إلا ضلالا أو عُدوانًا. فلا يَستقيمُ، إذًا، الإيمانُ باللّه ربًّا وإلاهًا من دون ٱلتّسليم بأنّ الأمرَ كُلَّه يَرجِعُ إليه قضاءً وقدرًا وإنعامًا وٱبتلاءً، لأنّه مالِكُ "سُنَنِ ٱلطبيعة" خَلْقا وتقديرًا وجاعِلُ "سُنَن ٱلشّريعة" تكليفًا وتخليقًا. وإذَا كان ٱلنّاسُ لا يَملِكُون أمام "سُنن ٱلطّبيعة" إلا أنْ يَخضعوا لها كَرْهًا وتسييرًا، فإنّ ٱلعبادَ قد تُرِكَ لهم أنْ يَأتُوا "سُنن ٱلشّريعة" طوْعاً وتخييراً. إنّ "ٱلشّريعةَ"، ٱبتداءً، كلمةٌ عربيّةٌ بصيغةِ "فَعِيلة" مِنْ فِعْلِ "شَرَعَ" (اللازم بمعنى «تَناوَل الماءَ بفِيهِ» أو «دخل في الماء»، أو المُتعدِّي بمعنى «أوردَ الإبلَ شريعةَ الماء فشَرِبت ولم يَستقِ لها» و، من ثَمّ، "أَدْخَل" و"فَتَح" و"أَظْهَر/بَيَّن/أَوْضَح" و"رَفَع/أقام" و"سَنّ/وَضَع") ؛ فهي (مَثُلها كمَثَل لفظ "شِرَاع" و"مَشْرعة" و"شِرْعة") بمعنى «ٱلمَوْضع/ٱلمَدخل ٱلهَيِّن الذي يُنْحدَرُ منه إلى الماء» أو «المَوْرِد الظّاهر الماء الذي يَشْرَعُ (أيْ يُدخِلُ) النّاسُ إليه إِبلَهم». ولا يُسمّى ٱلمَورِدُ "شريعةً" «حتّى يكون الماءُ عِدًّا لا ٱنقطاع له، ويكونَ ظاهرًا مَعِيناً لا يُسقى بالرِّشاء» (ٱبن منظور). لكنّ كلمةَ "شريعة" تَحمِلُ، بصيغتها الصرفيّة، معنًى مُزدوِجًا ومُشدَّدًا: إنّها "شارِعةٌ" (مُدْخِلَةٌ، مُورِدةٌ، مُقيمةٌ، فاتِحةٌ، مُبيِّنةٌ، رافِعةٌ [و"ٱلشّارِع" هو «الطريق الأعظم الذي يَشرَع فيه النّاسُ عامّةً» ؛ "دارٌ شارِعةٌ" (أو "مَنْزلٌ شارعٌ") بمعنى «مفتوحٌ بابُها إلى الطريق» أو «قريبة ودانيةٌ منه ومُشرِفةٌ عليه»]) و"مَشْرُوعة" (مُورَدةٌ، مُقامةٌ، مَفْتوحةٌ، مُبيَّنةٌ، مَرفُوعةٌ). إنّها تَدُلّ، من ثَمّ، على «ٱلطريق "ٱلفاتِح" و"ٱلمفتوح"». ومن هنا، فإنّ "ٱلشّريعةَ" ليست مجرد «طريق بيِّن»، بل إنّها «طريقٌ مُوصِلٌ إلى ٱلماء»، أيْ أنّها «طريقٌ نحو ٱلحياة»، ممّا يَجعلُها مفهوما يَجمَعُ - في تحديد السعي القاصِد للمُؤمِن- بين معاني "ٱلوُضوح" و"ٱلحياة" و"ٱلنِّعمة". "ٱلشّريعةَ"، إذًا، طريقٌ مفتوحٌ وهادٍ، مفتوحٌ بلا عِوَجٍ ولا حَرجٍ، وهادٍ إلى التي هي أحسن. إنّها "ٱلنّهْجُ" طريقًا بيِّنًا، و"ٱلمِنْهاجُ" سُنّةً مُوَطَّأةً تُورِدُ سالِكَها "حياةً طيِّبةً" وتَفتحُ له من "طيِّباتِ ٱلحياة". ذلك بأنّ ٱللّهَ، عزّ وجل، قد تَعهّد بأنْ يُؤْتِيَ عبادَه "ٱلهُدى" ليَتّبِعُوه حتّى لا يَضِلُّوا («فإمّا يَأْتيَنَّكُم مِنِّي هُدًى، فمن تَبِع هُدايَ فلا يَضِلُّ ولا يَشقى» [طه: 123] ؛ «هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى ودين ٱلحقّ ليُظهرَه على ٱلدِّين كُلِّه.» [التوبة: 33] و[الفتح: 28]). ف"ٱلشّريعةُ" من "ٱلدِّين" و"ٱلوحي" («شَرَع لكم من ٱلدِّين ما وصّى به نُوحًا والذي أوحينا إليك.» [الشُّورى: 13])، و"ٱلدِّين" من "أَمْرِ ٱللّه" ((«ثُمّ جعلناك على شريعةٍ من ٱلأمر، فٱتَّبِعْها.» [الجاثية: 18]) و، بالتّالي، فكل "ٱلدِّين" (دين ٱلحقّ) إنّما هو من "شَرْع ٱللّه" (« شَرَع لكم من ٱلدِّين ما وصّى به نُوحًا والذي أوحينا إليك.» [الشُّورى: 13] ؛ «[...]، لكُلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومِنْهاجًا.» [المائدة: 48]) الذي يَتميّز عن شَرْعِ غيرِه («شَرَعوا لهم من ٱلدِّين ما لم يَأذَنْ به ٱللّه.» [الشُّورى: 21]). ولأنّ "ٱلشّريعةَ"، في معناها الأساسيّ والعامّ، هي «كُلُّ ما سنّه ٱللّهُ لعباده من "أُمور ٱلدِّين" ومن "أعمال ٱلبِرِّ"» (توحيد، صلاة، صوم، زكاة، حجّ، طهارة، إحسان، أمر بالمعروف ونهي عن المُنْكر، حُسن الخُلُق، القِسْط، إلخ.)، فهي واجبةُ ٱلِاتِّباع («ثُمّ جعلناك على شريعةٍ من الأمر، فٱتَّبِعْها.» [الجاثية: 18]). ف"ٱلشريعة"، أساسًا، هي «كل ما شَرَع ٱللّهُ لعباده من أَمْرِ ٱلدِّين»، إنّها "سبيل ٱللّه" الذي لا سبيل غيرُه يَهدِي إلى الصّلاح والخلاص دُنيا وآخرةً. وفي هذا المستوى، تَتحدَّد "ٱلشريعةُ" بكونها «ٱلطريق المُبين الدّال على مَكارِم الأخلاق»، أيْ أنّها «ٱلإطار ٱلعَقَديّ وٱلخُلُقيّ» لفِعْل المُؤمن تعبُّداً وتخلُّقاً. وبِما أنّ الأمرَ يَتعلّق ب«إطارٍ عَقَديٍّ وخُلُقيٍّ» مُبَيَّنٍ وَحْياً ومُفصَّلٍ سُنّةً، ف"ٱلشّريعة" تتعيّنُ ك"مِنْهاج" يُحدِّدُ «كيفيّةَ ٱلفِعْل/ٱلسُّلوك وَفْق أُصول ٱلشَّرْع»، كيفيّةً للنّهج نحو "ٱلحياة ٱلخيِّرة/ٱلطيِّبة"، أيْ أنّها "شِرْعةٌ" أيضًا. وهكذا، ف"ٱلشّريعةُ" أُصولٌ دالّةٌ ومُثُلٌ هادِيَةٌ يَتّبِعها "ٱلعقلُ" في ٱجتهاده بحثاً عن ٱستنباطِ "ٱلأحكام" المُحدِّدة ل"ٱلواجبات" وٱلمُقيمة ل"ٱلحُقوق". و"ٱلشّريعة"، بما هي دلالةٌ إلاهيّة وهَدْيٌ ربّانيٌّ، تتعيَّن بصفتها "ٱلمَثَل ٱلأَعلى" الذي يَسترشِدُ به المُؤمنُ ويَطلُب من خلاله "ٱلتّسديد" في كل ما يَأتيه من فعل وسُلُوك. ولذلك، يَنبغي أنْ نَتبيّن أنّ "ٱلشريعةَ" تقوم على أصلِ "ٱلوحدة ٱلآدميّة" مُساواةً شامِلةً في "ٱلكرامة ٱلبشريّة" بين جميع النّاس وحَصْرًا ل"ٱلأكرميّة" في "ٱلتّقوى" عملا صالحاً ومُعامَلةً بالحُسنى («يا أيّها النّاس! ٱتَّقُوا ربَّكم الذي خَلقكم من نَفْس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ؛ وٱتَّقُوا ٱللّهَ الذي تَسّاءَلون به والأرحام. إنّ ٱللّه كان عليكم رقيبًا.» [النساء: 1] ؛ «يا أيُّها النّاس! إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لِتَعارَفُوا ؛ إنّ أكرمَكم عند ٱللّه أتقاكم ؛ إنّ ٱللّه عليم خبير.» [الحُجرات: 13])، وعلى أصل "ٱلحُريّة" رُشْدًا يُخْرِجُ من وصاية الأرباب من دون ٱللّه وٱنْفكاكًا من نِيْرِ ٱلعُبوديّة يقوم على ٱلتعبُّد ٱختيارًا («لا إكراهَ في الدِّين، قد تبيَّن الرُّشد من الغيّ. فمن يَكفُرْ بالطّاغوت ويُؤْمِنْ باللّه، فقد ٱستمسك بالعُروة الوُثقى، لا ٱنفصام لها ؛ وٱللّهُ سميع عليم.» [ٱلبقرة: 256]» ؛ وعلى أصل إناطةِ ٱلتّكليف والمسؤوليّة ب"ٱلعقل" قُدرةً على ٱلتّمييز وٱلِاختيار («ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ، إنّ السمعَ والبصرَ والفُؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا.» [الإسراء: 36] ؛ «إنّ شرّ الدّواب عند ٱللّه الصمُّ البُكْمُ الذين لا يعقلون!» [الأنفال: 22] ؛ «ويجعل الرِّجسَ على الذين لا يعقلون!» [يونس: 100])، وعلى أصل "ٱلعَدْل" قِسمةً للحُظوظ وحِفْظًا للحُقوق («إنّ ٱللّه يَأْمُر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى ويَنهى عن الفحشاء والمُنكَر، يَعِظُكم لعلّكم تُفلحون.» [النّحل: 90] ؛ «إنّ ٱللّهَ يَأْمُركم أنْ تُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلها، وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل ؛ إنّ ٱللّهَ نِعِمّا يَعِظُكم به، إنّ ٱللّه كان سميعا بصيرا.» [النساء: 58] ؛ «يا أيُّها الذين آمنوا! كُونوا قَوّامِين للّه شُهداء بالقسط، ولا يَجْرِمنّكُم شَنآنُ قومٍ على ألَّا تعدلوا، ٱعْدِلوا هو أقربُ للتّقوى، وٱتَّقُوا ٱللّهَ ؛ إنّ ٱللّهَ خبيرٌ بما تعملون.» [المائدة: 8])، وعلى أصلِ "ٱلشُّورى" ٱجتهاداً في تبيُّن "ٱلصّواب" وإجماعًا على "ٱلمعروف" («فٱعفُ عنهم وٱستغفر لهم وشاوِرْهُم في ٱلأمر.» [آل عمران: 159] ؛ «[...] وأَمْرُهم شُورى بينهم، ومِمّا رزقناهم يُنفقون.» [الشُّورى: 38]). ومن ثَمّ، فإنّ "ٱلشّريعةَ" في دَلالتها ٱلمَبْدئِيّة وٱلكُليّة تُعدّ مصدرًا صريحًا وقَطْعِيًّا لإقرار "حُقوق ٱلإنسان" ليس فقط بما هي "حُريّاتٌ عامّةٌ وكُليّةٌ"، وإنّما أيضًا وأساسًا بما هي "حُقوقُ ٱللّه" على كل عباده التي كتبها على كل النّاس ووصّاهم برعايتها بصفتها حُدُودًا وفُرُوضًا لا يَتعدّاها إلا الظّالِمون ولا يُفرِّط فيها إلا الخاسِرُون («ومَنْ يَتَعدَّ حُدودَ ٱللّهِ، فأُولئك هُمُ ٱلظّالِمون.» [البقرة: 229] ؛ «ومَنْ يَعْصِ ٱللّهَ ورسولَه ويَتَعدَّ حُدودَه، يُدْخِلْهُ نارًا خالدًا فيها.» [النساء: 14]). وعلى هذا الأساس، فإنّ المعنى الخاص للشّريعة (أيْ بما هي حُدودٌ وفُروضٌ تُقيم "ٱلحُقوق" إنصافًا وعَدْلًا) لا يَتحقّق إلا باعتبار معناها العامّ (أيْ بما هي "مبادئُ عامّةٌ" و"قِيَمٌ عُلْيَا" تُعبِّرُ عن "ٱلواجب ٱلخُلُقيّ" ٱلتزامًا وطاعةً). وكونُ "ٱلشّريعة" حاملةً للمُراد ٱلإلاهيّ في شُمُوله لكل المُكلَّفين هو الذي يَجعلُها "مَقاصدَ مُوجِّهةً" و"قِيَمًا مُسدِّدةً" لكلِ من أَسْلَم وجهَه للّه ربِّ ٱلعالَمين فٱنقادَ، من ثَمّ، إلى إتيان أفعاله على أساس ٱلفَهْم عن ٱللّه تعقُّلا وتخلُّقًا. ولهذا قام علماء الإسلام ببناء "علم أُصول ٱلفِقْه" بصفته نظرًا تفصيليًّا في مجموع المبادئ والقواعد الكُليّة المُحدِّدة لاشتغال "ٱلعقل" كعمل ٱجتهاديٍّ يتناول "ٱلأدِلَّة ٱلشّرعيّة" ويَسعى إلى ٱستنباط "ٱلأحكام ٱلشرعيّة" الجُزئيّة الخاصة بأفعال المُكلَّفين (وهذا العمل ٱلِاجتهاديّ ٱلِاستنباطيّ هو بالتّحديد "فقه ٱلشّريعة" الذي يُقِيمُ "ٱلشّريعةَ" بمعناها الخاص، أيْ كمجموعة من "ٱلأحكام ٱلشّرعيّة ٱلعَمَليّة"). وضمن "علم أُصول ٱلفقه" يأتي تناوُل "ٱلمَقاصد ٱلعامّة للشّريعة" التي تُمثِّل ٱلإطار الخُلُقيّ العامّ المُبيِّن للمُقتضيَات الكُليّة المُوجِّهة للعمل ٱلِاجتهاديّ بصفته عملا تَشريعيًّا وترشيديًّا. ومن المُتعارَف أنّ "مَقاصد ٱلشّريعة" تَرِجعُ كلُّها إلى مَقصدٍ عامٍّ يَتحدّدُ في «ٱلبحث عن تحقيق مصالِح ٱلنّاس»، وهو الأمر الذي قاد العلماء إلى تصنيف "مقاصد ٱلشّريعة" وتعيينها في حفظ "ٱلكُليّات ٱلضروريّة" ("ٱلدِّين"، "ٱلنّفس"، "ٱلعقل"، "ٱلنّسل/ٱلعِرْض"، "ٱلمال") و"ٱلكُليّات ٱلحاجِيّة" (التي ترجع، عموما، إلى رَفْع الحَرج تخفيفًا وتيسيرًا كما تَنُصّ عليه قواعد مثل أنّ «الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات» وأنّ «المشقة تَجلُب التّيسير» وأنّ «الحُدود تُدرَأ بالشُّبهات») و"ٱلكُليّات ٱلتّحسينيّة" (التي تَرجع إلى حفظ كلِّ ما تَقتضيه "ٱلمُروءة" و"مَكارم ٱلأخلاق" و"حُسن ٱلحال"). وعلى الرّغم من أهميّة عمل القُدامى في هذا المجال ("أبو إسحاق الشاطبيّ" بالأخص)، فإنّ البحث في "مقاصد ٱلشّريعة" لبناء نظريّةٍ أُصوليّةٍ عامّة ما زال مشروعا قائمًا، خصوصا أنّها تُمثِّل مدخلا لتأسيس "ٱلأخلاق ٱلعالميّة" إسلاميًّا (كما في عمل "طه عبد الرحمن"[2]) ولتجديد "علم ٱلأُصول" بما يَكفُل الإصلاح في إطار "أخلاق ٱلتّحرُّر" وٱحترام "حُقوق ٱلإنسان" (كما في عمل "طارق رمضان"[3]). إنّ كونَ "ٱلشّرْع" أَمْرًا وحُكْمًا لا يَجعلُه فقط تبيينًا وتمييزًا، بل هو أيضا تحسينٌ وتقبيحٌ بمُقتضى أنّ "ٱلأمرَ" بما ينبغي ويجب إنّما يَقُوم في صورةِ "حُكْمٍ" يُبيِّن "ٱلخيرَ" من "ٱلشر" ويُميِّزُ "ٱلحقّ" من "ٱلباطل" على النّحو الذي يَفرض فعلَ ما هو حَسنٌ وخَيْرٌ وتجنُّبَ ما هو قبيح وشرّ. وبما أنّ فعلَ "ٱلتّبيين" و"ٱلتّمييز" يُعدّ أساسَ "ٱلحُكْم" تقبيحًا وتحسينًا وأصلَ "ٱلأَمْر" إيجابًا أو نَهْيًا، فإنّ كل شَرْعٍ يُعدّ عقلا أو، بعبارة أُخرى، إنّ "ٱلشّرع" كُلَّه مُؤسسٌ من النّاحية العقليّة بحيث لا يُتصوَّرُ ٱلتّعارضُ أصلا بين "ٱلشّرع" و"ٱلعقل" إلا على الوجه الذي يُبْطِلُهما معًا. فلا معنى، إذًا، للشّرع بلا عقلٍ لأنّ ٱللّه - عزّ وجلّ- لم يَشْرَع من "ٱلدِّين" إلا ما هو آياتٌ مُدرَكةٌ لأُولي الألباب («إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلون.» [يوسف: 2] ؛ «إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلون.» [الزُّخرف: 3] «كتابٌ أنزلناه إليك مُباركٌ ليَدَّبَّرُوا آياته وليَتذكَّر أُولو الألباب.» [ص: 29] ؛ «قد بَيَّنّا لكم الآيات لعلّكم تَعْقِلُون.» [الحديد: 17] ؛ «قد بَيَّنّا لكم الآيات إنْ كُنتم تعقلون.» [آل عمران: 118] «كذلك يُبيِّن ٱللّهُ لكم الآيات لعلّكم تعقلون.» [النُّور: 61] ؛ «كذلك نُفصِّل الآيات لقومٍ يَعقِلُون.» [الرُّوم: 28]). وكذلك، فلا يَصِحّ "ٱلعقلُ" من دون "ٱلشَّرْع" تأسيسًا وٱقتضاءً، لأنّ تجريدَ "ٱلعقل" من كُلِّ توجيهٍ عَمَليٍّ تعطيلٌ له حتّى مع فتح قُدراته ٱلنّظريّة توصيفًا وتفسيرًا (كون "ٱلعقل" لا يَقُوم إلا بفضل نوع من ٱلتّأسيس ٱلِاجتماعيّ وٱلتّداوليّ يَجعلُه يَشتغل بالضرورة ك"عقل عَمَليّ"). ولذلك، فإنّ مجموعَ "ٱلمُراد ٱلإلاهيّ" كما نَطق به "ٱلشّرعُ/ٱلشّريعةُ" في "ٱلقُرآن" و"ٱلحديث" لا يَتبيَّنُ أمرُه إلا بما هو موضوعٌ للفَهْم البشريّ الذي هو فعلٌ ٱجتهاديٌّ يَطلُب "ٱلتّبيين" و"ٱلتّمييز" ٱللّذين على أساسهما تقوم "ٱلمعقوليّةُ" كمَناطٍ للتّكليف بمُوجبه يَتحمّل الإنسانُ "ٱلمَسؤوليّةَ" في إطار ٱلإنعام ٱلإلاهيّ تكريماً وٱبتلاءً. ومن هنا، كان "ٱلشّرعُ/ٱلشّريعةُ" موضوعاً لعِلْمٍ مُحدَّدٍ عُرِف ب"ٱلفِقْه"، أيْ "فقه ٱلشَّرْع/ٱلشّريعة" بما هو «ٱجتهاد نَظريٌّ في ٱستنباط الأحكام الدّالّة على المُراد الإلاهيّ المُحدِّد شَرْعِيًّا وخُلُقيّا لعَمَل المُكلَّف». وبواسطة "فقه ٱلشّرع/ٱلشّريعة" يُحدَّدُ "ٱلحُكْم ٱلشّرْعيّ ٱلعَمَليّ" بالنِّسبة إلى مصدره الدَّلِيليّ (قرآن، سنّة، إجماع، قياس، ٱستحسان، إلخ.) وعِلّته (من مَراتب المُناسَبة والمُلاءَمة) وجِهَتِه (واجب، مَندُوب، مُحرَّم، مكروه، مُباح)، على النّحو الذي يَجعلُه ٱجتهادًا في تَبيُّنِ "ٱلشُّروط" اللازِمة لتَسْوِيَةِ أو إقامةِ أفعال العِباد وَفْق "ٱلمُراد ٱلإلاهيّ" بصفته مجموعةً من "ٱلحُدُود/ٱلأُطُر" التي لا يَتعدّاها إلا الظالِمون مِمّن يَغتصبون حق "ٱللّه" بصفته هو وحده "ربّ ٱلعالَمين" ٱبتداءً، و"ٱلشّارِع" و"ٱلمُنْعِم" ٱستمراراً، و"مالِك يوم ٱلدِّين" ٱنتهاءً. ولأنّ "فقه ٱلشَّرْع/ٱلشّريعة" إعمالٌ للعقل في تبيُّن "ٱلشِّرْعة" التي أَتى أَمْرُ ٱللّهِ باتِّباعها، فإنّ إنكارَ "ٱلشّريعة" أو تعدِّيها هو "ٱلبِدْعة" التي لا تُمثِّلُ فقط ردًّا للأمر ٱلإلاهيّ، وإنّما هي "تسويغٌ" أو "تَشريعٌ" لأَمْرِ غيرِه ٱلمُتعلِّق بما لم يَأذَنْ به ٱللّهُ، وهو "ٱلتّسويغ" أو "ٱلتّشريع" الذي يَتجلّى كجُحودٍ يُصوَّرُ فيه الإذعانُ للأهواء كما لو كان ٱمتثالا لأمر "ٱلعقل" وحده كفعلٍ بشريٍّ مُنْفصلٍ (أو مَفْصُولٍ) عمّا سِوَاهُ (ممّا هو دُونه أو فوقه). وهذا "ٱلعقل ٱلجُحُوديّ" هو الذي يَتحدّدُ بصفته "فِعْلًا بِدْعيًّا" يَتعارَض مع "ٱلفِعْل ٱلشَّرْعيّ" الذي يَحرِص فيه المُؤمنُ - بقدر ما يُطيق- على ٱتِّباع ٱلحقّ مُقارَبةً وتسديداً و، من ثَمّ، على مُخالَفةِ ٱلأهواء في مُنازَعتها للحقِّ بالباطل ونُزوعها إلى ٱلظُّلْم والعُدوان. فلا يبدو "ٱلعقلُ"، إذًا، مُنْغلِقًا إلا بما هو سعيٌ ضالٌّ ٱفتقد سبيلَ ٱلحقِّ ٱبتلاءً أو عُدْوانًا. وٱنغلاقُ "ٱلعقل" هذا لا يَتمثَّل فقط في الإعراض التامِّ عن "ٱلشّريعة" كُفْرًا أو ٱستخفافًا بها، وإنمّا يَتمثَّل أيضا إمّا في تعاطي تأويلها تحريفًا دَهْرانِيًّا أو إغراضًا نَفْعانِيًّا وإمّا في ٱلتّناوُل الحَرْفيّ لها بعيدًا عن مُقتضيَات "ٱلِاجتهاد" كتدبُّر وٱعتبار لٱستنباط "ٱلأحكام ٱلشّرعيّة" الكفيلة بإقامة أفعالِ المُكلَّف عملا صالحا ومُعامَلةً بالحُسنى. ولا يَخفى، بهذا الصدد، أنّ النّظرَ إلى "ٱلشّريعة" كما لو كانت نَسقًا من "ٱلأحكام المُفصَّلة وٱلنِّهائيّة" يُعدّ أشدَّ تجليّاتِ "ٱلعقل" في ٱنغلاقه وٱرتكاسه، من حيث إنّ مثل هذا ٱلنّظر يقوم على جعل ٱلتّكليف مَنُوطا بالتّلقّي الحرفيّ للنُّصوص بصفتها خطابا مُغلَقًا تماما دون العقل. وفي مُقابل ذلك، فإنّ ٱنفتاحَ "ٱلشّريعة" يَجعلُها تَشتمل على "مَصالِح ٱلعباد" في العاجِل والآجِل وتَستجيبُ لحاجاتهم في كل زمان ومكان وتَقْبَل، بالتّالي، مُختلِفَ أنواع "ٱلِاجتهاد" التي تَتِمّ ٱنطلاقًا من مرجعيّتها وتبقى في حُدود مَنْطُوقها وتستثمرُ كل الأدوات المُناسِبة "لتَثْوِيرها" تَفقُّهًا وتَجدُّدًا. وأكثر من ذلك، فإنّ ٱللّهَ سُبحانه قد تَعبَّد ٱلنّاس بها طَوْعًا وليس كَرْهًا، على النّحو الذي يَجعلُها في عمومها لا تُلْزِمُ إلا العبدَ المُؤمِن في ٱلتزامه أمرَ ٱللّه في مجموع مُعامَلاته تعبُّدًا وتخلُّقًا. ولعلَّ ما يَشهدُ على أنّ ٱلتّسليمَ ب"ٱلشّريعة" إطارًا مَرجعيّا للاجتهاد لا يَقتضي الجُمودَ الوُثوقيَّ ولا ٱلِانغلاق ٱلِاعتقاديَّ أنّ المُجتمعات الإسلاميّة شهدتْ ولا تزال تعدُّدًا في ٱلِانتماء إلى "رُوح ٱلإسلام" وتجدُّدًا في إقامةِ شعائره ومُراعاةِ حُدوده نُهوضا بمقتضى "ٱلتّكليف"، وهو ما يَتجلّى في "ٱلمَذاهب ٱلكلاميّة" (كاجتهادٍ في التّخريج العقليّ ل"ٱلكلام ٱلإلاهيّ" بناءً حِكْميًّا أو موعظةً حسنةً أو مُجادلةً بالتي هي أحسن) و"ٱلمَذاهب ٱلفِقْهيّة" (كاجتهاد في التّبيُّن العقليّ لإمكاناتِ "ٱلحُكْم ٱلشرعيِّ" المُتعلِّقة بالفعل التّكليفيّ) و"ٱلطُّرُق الصوفيّة" (كاجتهادٍ عَمَليّ في إقامة "ٱلمُمارَسة ٱلشَّرْعيّة" ٱستقامةً وإحسانًا). وهكذا، فبفضل "ٱلشّريعة" كان "ٱلإسلامُ" عاملَ "فَتْحٍ" مُضاعَفٍ، حيث إنّه عَمِلَ على فتح "أبواب ٱلعِلْم" أمام العُقول ٱجتهادًا وعلى فَتْحِ "جِهات الأرض" أمام سَواعد ٱلعُمْران جِهادًا. إذْ ما لَبِث "ٱلإسلامُ" بعد قيامه أنْ أطلق صيرورةَ "ٱلفُتوح" التي تكاثرت "فُتوحاتٍ" في كل ٱلِاتِّجاهات. وبهذا المعنى، نجد أنّ "ٱلإسلام" قد أسَّس بالفعل "مُجتمعاتٍ مفتوحة" تعايشت فيها ولا تزال كل الطّوائف وٱلمِلَل والطّبقات والأجيال رغم كل أنواع التّعدُّد العرقيّ واللُّغويّ والثقافيّ، وبفعل "رُوح ٱلتّعارُف/ٱلتّسامُح" التي تُعبِّر في الواقع عن "رُوح ٱلإسلام" بما هو "شريعةٌ"، أيْ بالتّعيين بما هو «طريقٌ فاتِحٌ ومفتوحٌ». ولا بُدّ، بهذا الخصوص، من تأكيد أنّ "الشّريعةَ" ليست تُراثًا خاصا بالمُسلمين، وإنّما هي «يَنبوعٌ ربانيٌّ مفتوحٌ للعالَمين». ف"ٱلقرآن ٱلكريم" و"ٱلحديث ٱلشّريف" مُتُونٌ من "ٱلكِتاب" و"ٱلحِكْمة" موضوعةٌ بين أيدي كل النّاس سواء أتَلقَّوْها باللِّسان العربيِّ كلسان للوحي أمْ بغيره من الألسن التي نَقَلتْها منه. وفضلا عن هذا، فإنّ ظُهورَ التّوجُّه العامّ في خطاب "ٱلشّريعة" - بما هي «طريقٌ فاتِحٌ ومفتوحٌ»- يُوجِب النّظرَ إليها على ذلك النّحو الكُلّيّ والشّامِل. يَتبيَّن، إذًا، أنّه لا يَكفي لثُبوت ٱتِّباع "ٱلشّريعة" أنْ يُنادَى بتطبيقها كما لو كانت أحكامًا نِهائيّةً وجاهزةً دومًا أو أن يُنَصّ في ٱلدُّستور على كونها المصدر ٱلأوّل للتّشريع، بل لا بُدّ من تأسيسِ سيرورةٍ واقعيّةٍ وموضوعيّة تُمكِّن من قيام "ٱلرّاشديّة" تكليفًا وتدبيرًا على النّحو الذي يَكفُل مُمارَسةَ "ٱلمعقوليّة" ترشيدًا وتسديدًا ويَسمحُ، بالتّالي، بتحمُّل "ٱلمسؤولية" ٱجتهادًا تدافُعيًّا وإجماعًا تشاوُريًّا بعيدًا عن كل نُزوعٍ يَقُود إمّا إلى ٱلجُمُود الحَرْفيّ ٱتِّكالا أو قُعودًا وإمّا إلى ٱلتّقليد تَعوُّدًا أو تَبَعيّةً. ذلك بأنّ هَدْيَ "ٱلشّريعة" يجب أنْ يَتجلّى في سيرورة "ٱلفَتْح" و"ٱلِانفتاح" حتّى لو كانت ضرورةُ ٱلوُجود في هذا ٱلعالَم تَفْرِض، بمُقتضى ٱلِابتلاء، أنْ يُخاضَ ٱلفعلُ التّكليفيُّ مُكابَدةً ومُجاهَدةً. [email protected] **** [1] اُنظر: - le mot « TORAH, ŠARĪ'A, loi », in : Barbara Cassin (dir.), Vocabulaire européen des philosophies : Dictionnaire des intraduisibles, éd. Du Seuil, 2004. [2] اُنظر: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي-بيروت/الدارالبيضاء، [ط1، 1994]، ط2، 1996، ص. 97-105. وله أيضا: - «رؤية علمية لتجديد مقاصد الشريعة»، قضايا إسلامية معاصرة، عدد 18، 1422 ه/2002م ، ص. 208-231 ؛ - «الأخلاق العالمية: مداها وحدودها»، سلسلة ورقات طابة، مؤسسة أبو ظبي، العدد 1، 2008، ص. 9-29 ؛ [3] اُنْظُر: - Tariq Ramadan, Islam, la réforme radical : Ethique et Libération, Presses du Châtelet, 2008.