المفهومين حتى يتسنى لنا ضبطهما، ومن ثم، البحث عن العلاقة الممكنة بينهما، وعن طبيعة هذه العلاقة المفترضة. فما الفلسفة؟ وما الأدب؟ وبماذا توسم طبيعة هذه العلاقة، إن وجدت؟ تحديد مفاهيمية: نجد، من حيث المعاجم، التحديدات الآتية للفلسفة: "حب الحكمة/ معرفة الأمور الإلهية والإنسانية". كما نجد أنها تعني التفسير والتحليل، يقال: "فلسف الشيء: فسره تفسيرا فلسفيا". وفي الاصطلاح، تعرف بكونها: "علم أو تأمل ومعرفة وتفكير في الحقائق واستنباطها عقليا وتحليلها وتفسيرها... التفكير في العالم والإنسان وتحديد موصوفاته وقوانينه التي تحكمه... والبحث عن الحقيقة. وطرح السؤال؟ أما الأدب، فيعني في بعده اللغوي: المأدبة، الخلق... وفي الاصطلاح: هو شكل من أشكال التعبير الإنساني، بواسطته يعبر الإنسان عن خوالجه وأحاسيسه وأفكاره، وينقسم إلى جنسين كبيرين: (السرد + الشعر). وإلى أنواع عديدة تمتاز بخصائص محددة تفرق بينها، كتنوع السرد بين القصة والرواية والنص المسرحي . . . وتنوع الشعر، إلى تفريعات: شعر عمودي، شعر التفعيلة . . . طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة قديما: لم تكن العلاقة بين الفلسفة والأدب طيبة في البدء - كما قد يُتصور - بل العكس من ذلك هو الحاصل. كانت علاقة تنافر وتضاد، ومصدر هذا التنافر وهذا التضاد يعود، بالأساس، إلى طبيعة النظرة التي كانت سائدة ساعتئذ حول المفهومين. فقد كان ينظر إلى الفلسفة بوصفها تفكيرا علميا رياضيا، ومن ثم، تصلح لبناء المدينة (الدولة/ المجتمع/ الحضارة). أما الأدب، فهو لا يعدو أن يكون تعبيرا عن الأحاسيس والعواطف، وذلك عبر اللعب باللغة والرقص بالمجاز والانزياحات وركوب سجاد التخييل. بتعبير آخر، الفلسفة تتكلم لغة العقل والمنطق، أما الأدب فيتكلم لغة القلب والمشاعر. والمدينة لا تبنيها المشاعر ولا القلوب المفعمة بالحب. وهذا ما دفع أفلاطون إلى أن يستبعد زمرة الشعراء من مدينته 'الفاضلة' :" فالشعر، مثل باقي الفنون، لا يقول الحقيقة، هو فقط قول "شبيه بالحقيقة" وكل قول لا يقول الحقيقة أولا يسميها، لا يؤسس للإقامة في المدينة ". بل الأكثر من ذلك، والأخطر، أيضا، فإن أفلاطون يرى أن طبيعة العلاقة التي تجمع بينهما هي علاقة عداوة وحرب ومعارك، إذ أننا نجده يصرح بذلك في صيغة يقينية تعكس معرفة القائل وإيمانه بما يقول: " إن بين الشعر والفلسفة، معركة قديمة". وهذا الطرح الذي - قد - يبدو لنا الآن غريبا، ويشكل نشازا، تصوُّريا، على الأقل، كان بمثابة الإزميل الذي حفر طويلا، فشكل الهوَّة وعمق الشرخ بين الأدب في عموميته، والشعر بخاصة، وبين الفلسفة. بل إن الفلسفة كانت ترى أن الحقيقة لا يمكن أن تكون في الفن، وتبعا لذلك، لا يمكن أن تكون في الأدب، على وجه الاطلاق والشمول: " فموطن الحقيقة يوجد خارج عالم الفن، ذلك لأن الفنون تتكلم لغة السفسطائيين". نستشف من هذه الحفر السريع في طبيعة العلاقة بين الفلسفة والأدب قديما، على أن الصراع والتضاد والتنافر كان هو السمة البارزة التي هيمنت على العلاقة بينهما. العلاقة بين الأدب والفلسفة حديثا: لم تدم علاقة التضاد بين الفلسفة والأدب على حالة الخلاف التي رأيناها قديما، بل صارت العلاقة علاقة تواصل وتكامل، لأن الأدب ليس تعبيرا عن الأحاسيس والعواطف التي تمُور مورا في حشا الإنسان وفؤاده فقط، كما درج على فهم ذلك، بعض - البعض هنا ليس للتقليل - النقاد والمفكرين والفلاسفة، بل إنه - الأدب - تعبير عن الأفكار وبحث عن الحقيقة وأداة لطرح الأسئلة ومحاولة لفهم الإنسان وماهيته وجوَّانياته وتناقضاته. . . ويمكننا أن نجمل بعض القواسم مشتركة بين الأدب وبين الفلسفة في الآتي: البحث عن الحقيقة. المعرفة. محاولة فهم الإنسان والعالم. اللغة: وهي مَعبر الفكر وجسره وأداته ومكمنه، إذ لا يمكننا أن نفكر من خارج اللغة، لذلك نجد الناقدة نازك الملائكة تقول: "إن اللغة هي منبع كل فكر وكل شعر". البحث في القيم وخاصة قيمة الجمال. ومعلوم أن من أهم مباحث الفلسفة مبحث قيمة الجمال. القلق الوجودي. إن أهمية الأدب لا تقل عن أهمية الفلسفة، بل إن الأديب قد يخدم العالَم بنفس القدر الذي يخدمه الفيلسوف، ولذلك، نجد الروائي ألبير كامو يقول: "الواقع أن مؤسس الأزمنة الحديثة في نظري، ليس ديكارت فحسب، بل كذلك سرفا نتس". (سرفا نتس صاحب رواية دون كيخوت، نشرت بداية القرن السابع عشر، تحديدا، سنة 1605). ويقول أدونيس: " الإبداع الشعري وسيلة اكتشاف الإنسان والعالم". بل إن كتابة الشعر عنده: " تعني اصطناع موقف إزاء الكون والإنسان والحضارة ومغامرة تطمح إلى تفسير العالم وتغييره". كلام أدونيس ليس مغاليا أو متهافتا، هو الذي يرى أن الشعر هو الذي يؤسس للفكر ولشتى تلاوين الفنون الأخرى:" إن ما يؤسس الفكر وجميع الفنون هو الشعر في أقوى معانيه". ص: 49 بعد أن حاولنا تتبع العلاقة التي جمعت بين الأدب والفلسفة قديما وحديثا، سنورد بعض المتون، على سبيل التمثيل لا الحصر، التي تحمل بين طياتها بعدا فلسفيا وتعبر عن قضايا خاض فيها الفلاسفة وشغلت تفكيرهم لزمن ليس بالقصير. أمثلة أدبية حول قضايا فلسفية: حتمية الموت: أول قضية نشير إليها في مقالنا هذا، هي قضية الموت وحتميته، باعتباره الحقيقة المطلقة -وربما الوحيدة!- والتي لا يمكن تلافيها مهما تطور فكر الإنسان ودقَّت علومه، مهما طوع الطبيعة وأخضعها لسلطانه. ونستشهد هما ببيتي الشاعر المخضرم، كعب بن زهير، إذ يقول معبرا عن هذه الحقيقة العارية، الجارحة، المؤرقة: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته / / / يوما ما على آلة حدباء محمول فإذا حملت إلى القبور جنازة / / / فاعلم بأنك بعدها محمول الخير والشر بين الفطري والمكتسب: قضية الخير والشر، وسؤال: هل الإنسان خيِّر بطبعه أم لا؟ أيضا هي قضية عولجت أدبيا، ولعل خير من عبرها عنها هو الشاعر جبران خليل جبران إذ قال: الخير في الناس مصنوع إذا جبروا /// والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا فالشاعر هنا، يرى أن الخير مكتسب في الإنسان، وأنه لا يكون حاضرا فيه إلا وفق منطق الإجبار والسلطة، فإذا ما غابت السلطة وانتفى الإجبار (قد يكون الإجبار قانونيا، دينيا، مجتمعيا، عرفيا . . .) كشر البشر عن أنياب حقيقتهم الشريرة، ولا تفنى، حتى وإن فنوا وامَّحوا . . . الإنسان بين التسيير والتخيير: إشكالية وجود الإنسان في خط ملتبس، شائك، مدبب، زئبقي، بين عيش حياته وفق اختيار حر ومسؤول، وبين التسيير الغيبي، القدري، الماورائي، إشكالية فلسفية أيضا، وقد طَرقها شعرا، إيليا أبو ماضي في قصيدته، الطلاسم: جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟ أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود هل أنا حر طليق أم أسير في قيود هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مَقُود أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري. وتجدر الإشارة في هذا الضَّرب، إلى أغنية: يا دوك اللاّيمين، لفرقة 'جيل جيلالة' الغنائية، والتي لا تقل عمقا ولا أدبية عن قصيدة، الطلاسم. وإن كانت بلغة غير مُمَعْيَرَةٍ - وليست غير فصيحة - وفيما يلي، بعض كلمات الأغنية: ( يادوك اللايمين رفقو من حالي علاش تعيبو فقولي وفعالي؟ شدرت أنا شدرت في ما يجرالي ! ماناش لي خترت لعيوب ديالي علاه أنا صبت راسي فالدنيا جيت بالشوار؟ علاه أنا يوم زلقوني رجلي كان لي خبار؟) ونجد أيضا قولا للشاعر محمود سامي البارودي يعبر عن القلق من عدم سبر أغوار الغيب، وانخضاع الإنسان لبطش آلة الزمن/ القدر: لو كان للمرء عقل يستضيء به في ظلمة الشك لم تعلق به النُّوب ولو تبين ما في الغيب من حدث لكان يعلم ما يأتي ويجتنب لكنه غرض للدهر يرشقه بأسهم مالها ريش ولا عقب. تحديد هوية الشخص، بين الشعور والألم: إن سؤال: كيف يتحقق وجود الإنسان في الوجود، في العالم، وما المؤشر الذي يعكس هذا الوجود؟ سؤال، شغل العديد من الفلاسفة منذ طفولة الفلسفة والتفكير الإنسانيين، ولعل أبرزهم، رينيه ديكارت، الذي اعتبر التفكير، شرط وجود الإنسان وشعوره بهويته وأناه. في حين نجد الكاتب، ألبير كامو، يعبر عن أطروحة مخالفة تماما عن أطروحة ديكارت، ولا تقل عنها أهمية وعمقا. إذ يعتبر كامو، أن الإشراط الحقيقي الذي يجعل الإنسان، وغير الإنسان، - وهنا تكمن وتكمل أهمية طرح كاموا - يشعر بهويته، ووجوده، هو: الإحساس بالألم. الألم الخالص. وهذا ما يعبر عنه في روايته الموسومة ب: الخلود، إذ يقول: "أنا أفكر إذن أنا موجود هو قول مثقف يستهين بوجع الأضراس، أما أنا أحس إذن فأنا إذن موجود فحقيقة أعم بكثير، تعني كل الكائنات الحية. فأناي لا تختلف على نحو جوهري عن أناكم بالفكر. هناك كثير من الناس وقليل من الأفكار: نفكر جميعا في الشيء نفسه تقريبا. أما إن داس أحدهم على قدمي، فأنا وحدي من يشعر بالألم. فأساس الأنا ليس الفكر، بل المعاناة بوصفها أكثر المشاعر بدائية، ففي حالة المعاناة، حتى القط لا يمكن أن يشك في أناه المتفردة وغير القابلة للتبادل. ولما يحتدُّ الألم، يتلاشى العالم، ويبقى كل منا وحيدا مع نفسه. الألم هو أكبر مدرسة للأنانية . . . إني غير جدير بألمي، عبارة عظيمة تقضي بأن الألم ليس هو أساس الأنا فحسب، وبرهانه الوجودي الوحيد المؤكد، بل هو أسمى المشاعر أيضا: إنه قيمة القيم". رواية الخلود، ص: 239-240. تأسيسا على ما تقدم، يمكننا أن نستخلص الآتي: العلاقة بين الأدب والفلسفة عرفت طورين مختلفين في طبيعتهما. طور اتسم بالنفور والتباعد، خاصة التأثير الذي أحدثه تقسيم أفلاطون والمعايير التي وضعها "لسكان مدينته". وطور ثانٍ، عرف تقاربا بينهما، بل تكاملا. فغدا الأدب شكلا من أشكال التعبير عن الأفكار الفلسفية، صحيح أن الصياغة مختلفة، لكن الأديب يتوسل باللغة، بالصور البلاغية، بالإيقاع وبكل الإمكانات التي تزخر بها فنون القول والتعبير، ليطرق قضايا فلسفية تشغل أناه، وتشغل الأنوات المحيطة به، تشغل مجتمعه وعالمه... وبالتالي، فالعلاقة تكاملية. وفي الأخير، نحب أن نذيل هذا المقال بالسؤال الآتي: هل استطاع الأدباء المغاربة، أن يعبروا عن قضايا وأفكار فلسفية، عبر الكتابة الأدبية؟ احالات على بعض المصادر والمراجع: معجم الرائد فن الرواية، ألبير كامو رواية الخلود، ألبير كامو ظاهرة الشعر الحديث، أحمد المجاطي المعداوي قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة. ديوان البارودي، تحقيق علي الجارم ومحمد معروف مدارات فلسفية، مجلة الجمعية الفلسفية المغربية، العدد 11 خريف 2004 .