ترجمة: أحمد رباص في كتاب “مغامرات صوفيا، الفلسفة في رواية القرن الثامن عشر”، الذي نشر سنة 2013، يتساءل كولا دوفلو، أستاذ الأدب في جامعة جول فيرن بمنطقة بيكاردي الفرنسية، عن “رحلات صوفيا العجيبة في عالم الرواية”، في حين يبدو الخطاب الفلسفي، بحكم ميوله، متعارضا مع البنية الروائية، مع الشعر (مع الخيال بشكل عام)، ويظهرالبعد الفكراني للفلسفة – كما ذكرنا بذلك بول ريكور – متلائما بصعوبة مع أسلوب السرد. ومع ذلك، فإن حضور الفلسفة في رواية القرن الثامن عشر هو موضوع هذا الكتاب المليء بالمعلومات، ولكنه يؤيد فوراً الفرضية التالية: الرواية “المخصبة” بالفلسفة سلكت في القرن الثامن عشر منعطفا خاصا. هذا يعني أنه يتم تقديم تشكل الرواية هنا دون الإشارة إلى أصولها، إلى “طور تكوينها”، ولكن في صورة تم اعتبارها في حينها مكتملة، وموجهة إلى معرفة التحولات الأسلوبية تحت تأثير فلسفة العصر. صحيح أن كولا دوفلو يؤكد، مع جان جينيت، أن اللغة الإنجليزية هي أكثر دقة من الفرنسية، بتمييزها بين novel (الرواية “الواقعية” التي ولدت مع ديفو وريتشاردسون وفيلدينغ) وromance، السرد المحاك بأحاسيس غرامية ومغامرات عجيبة. – الرواية الفلسفية تهدف الرواية، قبليا، إلى “الإشباع” الجمالي بينما يتجه النص الفلسفي إلى الحكم المنطقي. لكن الرواية الفلسفية يمكن أن تتمسك في آن واحد بالشك الفلسفي (ألم يقل ديدرو : “إن الخطوة الأولى نحو الفلسفة هي الشك”؟) والسذاجة المطلوبة من أي قارئ يكون في حضرة نص أدبي (انظر كوليردج)؟ وباختصار، فإن التناقض الذي يمتد عبر الرواية الفلسفية يمنح النص وضعا خاصا: فالفكرة الفلسفية تصبح فكرة روائية. وهكذا يفرض نفسه تحديد العلاقة بين السردي والبحثي في سياق أسلوبي غامض، لأن الأمر يتعلق بالتوفيق بين أدبية النص وقيمة الحقيقة. يهتم كولا دوفلو بالقرن الثامن عشر وبالرواية الفلسفية، ولكن يمكن أن نشير مع جاك بوفريس إلى أن زولا قال في كتابه “النزعة الطبيعية في المسرح”: “الحقيقة هي أن روائع الرواية المعاصرة تتضمن حديثا أطول بكثير عن الإنسان والطبيعة مما نجده في الأعمال الفلسفية والتاريخية والنقدية الجادة “. مستشهدا بإيريس مردوخ ومارثا نوسباوم، يذكر بوفريس بأن هذين الأخيرين خصا الأدب بوضع معرفي مرتبط ب”الكشف عن الحقيقة” وجعلا من نيتشه وكيركيغارد كاتبين عوض فيلسوفين. مهما يكن من أمر، فإن التأثيرات الفلسفية التي تعكس الرواية وجودها، تعبر، في نظر دوفلو، عن التوترات من جميع الأنواع وتعدل “موقف” القارئ. مثلا، تجبر رسائل “جوليا أو إلويز الجديدة” لجان-جاك روسو القارئ على النقاش عندما “لا يريد سوى الانغماس في المشاعر”. دالمبير نفسه اعتقد أن الاستطرادات البحثية الطويلة تميع اهتمام القارئ وأن النزعة الديداكتيكية الاستطرادية يمكن أن تتعبه … ألم يكن الأسلوب الحكائي في “حياة ماريان” (نص لم يكتمل) متباطئا بسبب “الوقفات” الحجاجية المقحمة من قبل ماريفو؟ كيف تصبح متعة النص في الحقيقةً إذا كان البعد الجمالي يفسح المجال أمام عرض الحقيقة؟ هل يجب علينا، مثل لوكريس، أن نستسيغ مرارة المحتوى الفلسفي بقليل من سكر وعسل الشعر؟ هذه هي الأسئلة الأساسية التي أثارها إنتاج الرواية الفلسفية في القرن الثامن عشر، مع العلم أن شكلي التعبير المهيمنين هما على التوالي رواية المذكرات والرواية الرسائلية. – الفيلسوف الراوي في الواقع، يساهم أي “اقتحام” فلسفي في خلق توقفات داخل الحكاية ويحثنا على توضيح وضع الراوي. هل هو فيلسوف حقيقي (وربما دوغمائي)؟ هل يجد في الأسلوب الروائي فرصة قول الحقيقة بفضل تبني الشك والنسبية؟ وقبل كل شيء، ما هو الفرق بين الراوي وما يقدمه؟ في الواقع، الرواة في الرواية الفلسفية ليسوا فلاسفة بشكل صريح. يمكن لهم كذلك أن يكونوا مختلفين عنهم جذرياً، إذا ما استحضرنا المتدينة الراهبة، الساذجة، الجاهلة، ومع ذلك هي مستوعبة لفكر الفيلسوف. ولئن كان صحيحا أن بانجلو في “كانديد” فولتير، يجسد على نحو أفضل أستاذا للفلسفة، فإن سلطانة، في “الحلي الشخصية” لديدرو، هي التي تم تكليفها باحتلال مكان الفيلسوف. علاوة على ذلك ، فإن “تعريفات” الفيلسوف متغيرة. بوصفها مسألة إلحاد وعقل، لم تعتبر الفلسفة دائما محترمة، لكنها تظهر أيضا كممارسة عقلانية للفضيلة. فبعدما تم الخلط بينه وبين المفكر الحر في القرن التاسع عشر، يقيم الفيلسوف، في جميع الأحوال، علاقة بين النظرية والتطبيق، ويعلم شكلا من الحكمة ويظهر قادرا على إنجاز عمل من “الوعي الذاتي”. من وجهة النظر هاته، كيف يمكن لبعض الشخوص في الروايات الفلسفية (في موقف الرواة) أن يدعوا أنها تجسد “المعقولية” في الحياة، على الرغم من أنها تعيش حياة عاطفية جامحة وشعثاء؟ يعتقد فينسنت ديكومب أن شخصية الفيلسوف لا يمكن، بشكل عام، أن تظهر بشكل كافٍ في رواية، الشيء الذي يظهر في عمل بروست ببلاغة. هنا نجد صعوبة ناقشناها بالفعل (انظر أعلاه) إذا افترضنا أن المعالجة الفلسفية للعواطف تتطلب انعكاسية منها يتم حرمان الشخوص المعنية من حيث المبدأ. ومع ذلك، يوجد، وفقا لكولا دوفلو، رواة فلاسفة يتأملون في أفعالهم ولا يكتفون بأن يعيشوها فقط. الأب بريفوست، في هذه الحالة، يقدم إنتاجه الروائي كبحث في النفس البشرية ويكشف عن اهتمام قوي ب”الموضوعية”، بالأدب منظورا إليه ك”علم أخلاقي”. تتصادى التداخلات الفلسفية، بالطبع، في الأسلوب نفسه الذي يصبح، في الواقع، غير محدد، وهذا ما تشهد عليه كل إستيتيكا ديدرو الأدبية. يحتل الحلم ضمنها مكانًا متميزًا، تكوينا نفسيا وأدبيا قادرا على استباق فرضية عامة، على الإعلان عن “نظام” في حالة اختزال. توفر هذه الاستعارة “الرمزية” الفرصة لنقل الأفكار التي قد تتعارض مع الأخلاق الصارمة: ألا يبين ديدرو، من خلال طرق مبتكرة، أن العلاقة الاجتماعية هي أيضا علاقة جنسية؟ إن حلم دالمبير يعني أن عدم إرضاء الطبيعة يؤدي إلى الجنون. الماركيز دي ساد ليس بعيدا من هنا، ولكن تحت رعاية مختلفة، مع ذلك. يوضح جان كلود بوردين أيضا كيف أثرت فيه “ميتافيزيقا” ديدرو ” على أسلوب الفيلسوف وأدت به إلى ممارسة استخدام” تماثلي” لفكره، بل إلى إضفاء الطابع المأساوي على ملفوظاته وتلفظه. – الرواية الفلسفية، هل هي ضد الرواية أم ضد الفلسفة؟ دافع أرسطو في كتاب “الشعر” عن أن الفن كان يهدف إلى تمثيل المشاعر. يبدو أن هذا هو الغرض من الرواية، بما فيها الرواية الفلسفية، ولكن مع التحفظات المذكورة للتو. لاحظ كولا دوفلو أن الرواية الفلسفية في القرن الثامن عشر استولت على المعالجة الميتافيزيقية للمشاعر التي كان القرن السابع عشر وفيا لها. ما هو في نهاية المطاف وضع الرواية الفلسفية؟ إذا تبعنا المؤلف، فإن رواية “كليرفال الفيلسوف” لدوروزوا تشكل، مثلا، محاولة لتجديد جنس الرواية، مع الحفاظ على أنثروبولوجيا المشاعر. فلسفة مادية وحسية تدعم النص و الشغل الشاغل لدوروزوا هو تحرير الروائي من قبضة النزعة الأخلاقية الأدبية. لكن، من جهة أخرى، في “الفيلسوف الإنجليزي” أو “قصة السيد كليفلاند، الابن الطبيعي للكرومويل (1731)، يقترح الأب بريفوست رحلة روحية لتوضيح طبيعة الفلسفة: هل تعطينا ما وعدتنا به، أي السعادة؟ ولكن بعد مواجهة العقل بالعاطفة، يحسم في جوهر النقاش ويدحض المادية، التي يعتبرها خطرا على الدين. إذن، فقد غلب الجانب العاطفي الذي يضعف أي ادعاء عقلاني. كما أوضح كولا دوفلو، في هذه الرواية يكمن الغموض بين الفلسفة والأدب، حيث ناقش بريفوست قضايا حاسمة في القرن الثامن عشر مع الحفاظ على أسلوب السرد الصريح. الروايات الفلسفية، هل هي في النهاية روايات مضادة؟ أو روايات لافلسفية؟ “كانديد”، وفقا لجينيت، يجب أن تصنف على أنها رواية لافلسفية بدل اعتبارها رواية مضادة. حكاية فولتير تتماهى مع جنس “تحويلي” (hyprtextuel)، حيث يمزج المؤلف بعناية بين نص سابق (hypotext) (الإحالات الفلسفية من لايبنتز إلى بوب) ونص لاحق (hypertexte)، وهكذا يمر وصف مغامرات بانجلو – الشق المناظر لأطروحة فولتير – من الحجاجي إلى السردي. إن الجامعية النصية ل “كانديد” تغلب العالم السردي على الخطاب الفلسفي نفسه. في الرواية المضادة، يتم الانتقال من سرد إلى آخر: فعندما يعتقد دون كيشوت أنه يوجد في عالم الفروسية، يكون متواجدا في عالم آخر … مؤلف “جاك القدري”- مشروع فلسفة سردية – هو الذي حقق على أبعد مدى متطلبات الرواية المضادة. هنا يقتبس ديدرو فقرات للقارئK يقطع مسار السرد، يهيئ فضاء الممكنات التي يبقى إمكان تحققها وافرا وعشوائيا كذلك. ولكن العمل “الخادع” للقارئ حاضر في كل مكان، وهو الشرط ذاته لظهور الحقيقة، لفاتورة الفلسفية. إذا صدق القارئ في الواقع بشكل أعمى مغامرات جاك وسيده، فهل يمكن أن يكون على بينة من مفهوم الحرية التي تم التعبير عنها هنا؟ كتاب كولا دوفلو المليء بالإشارات المثيرة يجعلنا في ألفة مع هذه “الرواية الفلسفية”. الأسف الوحيد ربما يرجع بدون شك إلى حقيقة أن القارئ كان يتمنى عن حق نبذة قصيرة عن وضعية الكتابة الروائية في تاريخ الأدب، وهذا ما زهد فيه الكتاب بمبرر لا ريب فيه وهو أن ذلك ليس من صلب موضوعه.