تتقصّد هذه المقالة إلى الاقتراب من رواية "الراوي والمتجردة" للكاتب المغربي بنسالم حميش الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. وقد يفاجأ قارئ حميش في هذه الرواية بالأسلوب الفني المختلف الذي يجترحه للتعامل مع الواقع، غير أن القارئ المتابع لأعماله الروائية السابقة، يدرك أن هذا الكاتب منذ روايته الأولى "مجنون الحكم" التي صدرت سنة 1990 ونال بها جائزة الناقد للرواية، مرورا بأعماله التالية: "محن الفتى زين شامة" (1993)، و"العلامة"(2012)، و"فتنة الرؤوس والنسوة" (2000)، و"هذا الأندلسي"، و"معذبتي" (2010)، وصولا إلى نصه الأحدث "جرحى الحياة" (2018)، قد تميز على مستوى الكتابة الروائية بارتياده آفاق سردية تتسم بالإبداعية والإنتاجية. ففي في كل نصّ جديد يضخّ حميش الحيوية في المهمة التمثيلية للرواية، وفي المنزع التجريبي الذي يطاول اللغة والشخصيات وبناء الرواية، ويمكّن السرد من الامتداد في أكثر من نص ونوع. لقد كتب حميش الرواية التاريخية والاجتماعية والصوفية والوجودية... وفي هذه الأنواع كلها أظهر مقدرة على التحكم في السرد، واستثمار التقنية الروائية بمهارة وصنعة كبيرتين. ومن المعروف أن جماليات الكتابة ومقتضياتها يطاولها التغير بفعل التحولات التي تطرأ على مفهوم الأدب والمعايير الجديدة التي تعمل على تسنينها الأعمال الإبداعية الجيدة خاصة على مستويي آليات السرد والعوالم التخييلية، وهذا ما يجعلُ مسألة إنجاز النص الجيد تتطلب من المبدع بذل مجهود مضاعف في العثور على اللغة والشكل الفني المناسبين. ونحسب أن ما ينجزه بنسالم حميش في مدونته الروائية، على هذا المستوى، لهو من العناصر الأساسية التي تستدعي من القارئ وقفة خاصة. ليست الرواية مدعوة للدفاع عن حقيقة العالم الذي تنهض بتشييده من خلال واقعية الأحداث المروية فيها، أو آراء الشخصيات بأنماطها المختلفة التي تتحرك في عالمها. فمهما تحملت الرواية من ضروب القيود المرجعية، والإشارات المكثفة إلى الحياة الواقعية، فإن ذلك لا يؤمّن لها إمكانية الانفلات أثناء التلقي من حدود المتخيل ونسيجه المعقد الذي يعيد صياغة جزئيات الحياة المتنافرة في صورة واحدة تؤالف بين الذات والموضوع. إن أهمية الرواية وقيمتها، ككتابة فنية وحالة إبداعية، تَكمنُ في العالم الذي تبنيه بحدّ ذاته، وفي القيم الإنسانية التي ينطوي عليها، وتجربة الحياة التي تصدر عنها، وقد تحولت عبر اللغة وما يجري عليها من تطويع، ومقتضيات السرد إلى رؤية جديدة يشرك المتلقي فيها، بما أن الكاتب يتوجه دوما إلى قارئ يهبه خلاصة تفكيره، ويشاركه إنتاج المعنى. ولئن كانت الرواية ترتدّ في وجودها إلى المؤلف الذي "ينفث الحياة في شخصياتها ويحركها في مآويها وفضاءاتها" كما يقول سارد "الراوي والمتجردة" في وصفه العلاقة التي تشده إلى الشخصيات التي يبتدعها، فإنها، خاصة النصوص الجيدة، تتميزُ بالاستقلالية والتموضع بعيدا عن أي تطابق مع الحياة الخام وما يعاش فيها مفتتا أو مع رؤية المؤلف، رغم أن لهذا الأخير أفكارا خاصة به، ومن الطبيعي أن تتسرب إلى عمله. من هنا قد تتعيّنُ الروايات التي تستبطنُ استجابة واضحة للاهتمامات المتزايدة بالمغامرة المتخيلة، وجنوحا أكثر نحو الانزياح عن الحياة الواقعية عبر وساطة الخيال ومسالكه واستراتيجياته المولدة، بوصفها الأقدر على إقناع القرّاء بالانغمار في عوالمها، والاستمتاع بفسحة الخيال التي تتيحها. لنقل إن الجدّة التي تنطوي عليها عوالم الرواية والتحويلات التي تلحقها، ليست ثمرة اختيارات عفوية، وإنما هي ترجمة لثقافة الكاتب وللرؤى الفكرية والاجتماعية التي يحملها بخصوص مجتمعه وما يمور فيه من توترات وصراعات، وكذلك لعمل الفن الذي يجعل تلك الرؤى تأخذ عبر اللغة والشكل الفني أبعادا كلية. وما يعزز هذا الكلام هو أن النظريات الفلسفية التي حاولت استكشاف مفهوم الرواية ووظيفتها وجدواها قد ربطت بين الرواية والحداثة، وفي أذهان منظريها تلك القوة التي ينطوي عليها الشكل الروائي في تمثيل بنيات المجتمعات الحديثة، وضروب الغرابة المقلقة التي يكابدها الفرد. وهذا البعد الاجتماعي للشكل الروائي هو أساس الإضافة التي تقدمها التجارب الجيدة في الرواية العربية، وقد شدّد عليه عبد الله العروي في كتابه "الايديولوجية العربية المعاصرة" حينما تناول إشكالية التعبير في الأدب العربي الحديث. إن التفكير في المنجز الروائي لحميش من هذا المنظور يبيّن للقارئ أن الكاتب ينجز استقصاء جماليا ومعرفيا مهما في أعماله الروائية. ولا يتجلى هذا فقط على مستوى التجارب الإنسانية والعوالم الرمزية التي تحتضنها نصوصه، وهي محصلة أحداث ومشاهدات وقراءات واسعة في التراث والفلسفة والآداب العالمية، بل يُتلمَّسُ كذلك في مستوى آخر أي: الشكل الفني واستراتيجيات المتخيل واللغة السردية. وهذه الأخيرة تمثلُ إحدى المكونات التي يمحضها الكاتب عناية خاصة، تتجلى في الأسلوب والجملة السردية المؤثرة التي تضفي على ملفوظات الشخصيات مميزات فردية، مما يعطي للرواية قدرة تكلمية كاشفة. وتكفي الإشارة ها هنا إلى الروايات التي انتهل أحداثها من التاريخ السياسي والثقافي العربي مثل "مجنون الحكم" و"العلامة" و"هذا الأندلسي"، للتدليل على قوة تجربته الروائية التي تنجز حفرا عميقا في النص التراثي العربي بحثا عن جماليات مغايرة تضفي الرصانة والأصالة على تجربة الكتابة. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هذه النصوص التي هي ثمرة جهد فائق في البحث والتركيب والتأويل، تستقطب شخصيات وأحداثا تتنزّل في منطقة برزخية فلا هي مشدودة إلى المرجع كما صور في المؤلفات التاريخية التي يكمن رهانها في البحث عن الحقيقة ولا هي متحررة منه، دائرة في مدار التصور الذي تبقى بموجبه الرواية تجربة ذهنية تخييلية. إن هذه الخصوصية التي يتخذها التخيل التاريخي عند حميش، والحفر العميق الذي ينجزه في بنيات التاريخ الرسمي، والتموضع في الأسفل بحثا عن البياضات والفجوات التي تتيحُ كتابة ما تطمسه التفسيرات النهائية والإيديولوجيات المغلقة، هي التي تجعل شخصيات من طراز "مجنون الحكم" أو "ابن خلدون" أو "ابن سبعين" رغم أبعادها المرجعية، تظل ثمرة التجربة التخييلية، من غير أن يمنعها هذا الوضع من أن تكون أكثر تعبيرا عن الأسئلة المؤرقة وضروب الغربة القاسية التي يواجهها الإنسان في العالم. تتكون رواية "الراوي والمتجردة" من ثلاثة أقسام: هكذا تكلم الراوي، والمتجردة، وعودة الراوي. وعبر هذه الأقسام الثلاثة يندسّ الكاتب بين شخوصه قريبا من همومها وانشغالاتها، متوغلا في عوالمها، مستدعيا أسئلة عديدة تخص مجالات الحياة والفن والأدب والسياسة والثقافة والمجتمع، مثل قضايا الرواية ونشأتها ومفهوم الكاتب لها، والمركزية الأوربية وعلاقة المشرق والمغرب، والتجربة الصوفية والحياة السياسية في المغرب. وهي قضايا اهتم بها بنسالم حميش مفكرا ومثقفا، قبل أن يختبرها من خلال السرد وأدواته. ويبدو من عنوان هذا النص "الراوي والمتجردة" أننا بإزاء رواية تنهض، انطلاقا من هذه العتبة، بتكثيف أبرز الشخصيات التي تتحرك في عالمها: الراوي الذي يتحدث بضمير المتكلم، ونعرف من خلال ملفوظاته أن الإبداع يمثل له نوعا من الخلاص من سجن الأنا والعلاقات غير المجدية، والأستاذة رقية التي تتعينُ مثالا للمرأة الصوفية ذات الأفكار المختلفة عن الإنسان والحياة. فهي تستحق اسمها لأنها تنحو دائما نحو الخلوة والتجرّد الذي يحررها من أسار النفس ومن مساءات الحياة. ورغم الحضور الوازن لهاتين الشخصيتين، تتخللُ الرواية شخصيات أخرى تنهضُ بأدوار شديدة الأهمية في انفتاح النص على الذات الفردية من جهة، وعلى أفكار وتصورات ومنظورات مختلفة من جهة أخرى، وهنا يمكن الإشارة إلى علاقات الراوي العاطفية بكل من طامة وصوفيا الفنانة التشكيلية، والشاب بدر الذي تشده علاقة معقدة بأستاذته رقية التي تتلمذ عليها بشعبة الفلسفة، وعبر لها عن تعلقه الروحي بشخصها ونهجها. بالإضافة إلى أصدقاء الراوي من عالم الثقافة والفكر والسياسة. وما نلاحظه هو أن المكون الصوفي يعدّ عنصرا أساسيا في الرواية يستدعيه الكاتب إذ يواجه ذاته فيما هو يواجه الرواية ومفهومها. ويتجلى هذا المكون ليس فقط من خلال علاقات الشخصيات بالعالم الذي تعيش فيه أو من خلال علاقاتها البينية كالعلاقة بين رقية الناجي ومريدها الشاب بدر الذي يرى فيها ما يحب أي العزلة الاختيارية والتفكير المعمق الذي ينفذ إلى باطن الأشياء، بل وكذلك من تفاعل الرواية مع المعرفة الصوفية وعوالمها الحية الباعثة على التأويل والتفكر اللذين ينقلان القارئ إلى مناخ سيكلوجي يتمظهر فيه العقل الباطن للشخصية الروائية. تحتفي الرواية بأعلام وفلاسفة من طراز أفلاطون والحلاج والنفري وابن عربي والتوحيدي ورابعة العدوية... كما تشير إلى معارف ونصوص في التصوف الإسلامي تبرز الإمكانات الأخرى في تشكيل النص الروائي، وتعميق لغته. وما نلاحظه بخصوص اللغة هو أن الكاتب يعيد، شأنه في ذلك شأن الصوفي، تشفير مجموعة من مفرداتها بأخذها إلى مستوى دلالي آخر يقرّبها من الروحي ويشدها إليه. لكأن بنسالم حميش ينبهنا من خلال اللغة ومستوياتها إلى مسألة أساسية مفادها أن خصوصية الكاتب تنبعُ بالأساس من قدرته على اجتراح اللغة الملائمة القمينة باستيعاب تجربته وتجسيدها، واختراق شبكة المتناقضات التي تؤثر في واقعه. وهذا ما يتطلبُ من المبدع بذل مجهود مضاعف من أجل استلام السلطة التي تمتلكها اللغة: سلطة توليد الدلالات والمعاني، كما يستوجبُ من القارئ حشد مخزونه من القراءات السابقة كي يكون أقدر على فك لغزية الرواية وإدراك قيمة الأفكار التي تنطوي عليها. من هنا نحسب أن الاقتراب من العالم الذي يشيده بنسالم حميش في هذه الرواية، وما يمورُ به فضاؤها من شخوص وأحداث، وتلمس العناصر الدالة على جماليات الشكل الفني، يتطلب ترك القراءة التعاقبية التي تتقصّى تطور المادة الحكائية في الرواية، والبحث عن مداخل أخرى تتيحُ استكشاف ضروب الجدة والحداثة فيها. وفي هذا السياق نقترح ثلاثة مداخل نرى أنها تمثل مفتاحا ملائما لفهم التجربة الفنية التي تبلورها رواية "الراوي والمتجردة"، وتضفي عليها قيمتها في المشهد الروائي المغربي والعربي. المدخل الأول ننطلقُ فيه من تصور لهذا النص بوصفه "رواية مضادة"، أي أن الرواية يشغلها هاجس بلورة جماليات توسّع مفهوم الرواية وترتاد بها أفقا رحبا يحررها من قيود السرد التقليدي. وما نلاحظه هنا هو أن رواية "الرواي والمتجردة" تنتسب إلى ذلك الأفق الذي تجترحه التجارب الجيدة في الرواية العربية والتي تنهل من السّرديات العربية ومن نصوصها القوية. وبالتالي فهي تستفيد من جماليات السرد العربي وتتناص مع مدونته. وما يعزز هذا النهج في الكتابة هو الطابع الفسيفسائي للنصوص، فهي موقع مميز لتقاطع خطابات ومعارف متعددة، وكل نص يتكون من عمليات حوارية معقدة مع نصوص سابقة. ويبرز هذا الجانب في "الراوي والمتجردة" من خلال المعرفة التراثية التي تستدعيها الرواية وتشير إلى نصوصها ومتونها الأساسية، سواء في ملفوظات الراوي أو في ملفوظات الشخصيات كالأستاذة رقية، والشاب بدر مريدها اللذين جمعتهما علاقة روحية وفكرية ثرية تستبطن الكثير من الأبعاد والدلالات الرمزية، قبل أن يُغتصب ويقتل بطريقة مأساوية. وهذه العلاقة تستدعي إلى ذاكرة القارئ تجربة النبي يوسف مع زوليخا زوجة العزيز بكثافتها الدلالية والرؤيوية. كما تحضر بنفس القدر في ملفوظات عبد الحي وهو يتحدث عن تجربته في الكتابة وعن مصادرها الأساسية الإبداعية والحياتية، وحساسيته العميقة إزاء ما يسود المجتمعات العربية من ضروب الأنساق المضادة للحداثة والتقدم. إن هذا الامتلاء بالذاكرة الأدبية، السردية والصوفية والشعرية، هو الذي يمثل أحد مرتكزات التجديد في هذه الرواية. وقد أشار الباحث كيبيدي فارغا إلى أن هذا النوع من الروايات يتطلب عند القراءة اللجوء إلى مقاربة مختلفة يطلق عليها "المقاربة التناصية". وما يؤكد هذا البعد في رواية "الراوي والمتجردة" هو أن التناص يحضر فيها بشكل وازن، إذ تتعدد الإحالات إلى نصوص مختلفة: دينية وفلسفية وصوفية وسياسية وفكرية، بالإضافة إلى النصوص الثقافية بالمعنى الواسع، مما يضفي على السرد مقومات الكثافة والتركيب اللذين يستدعيان كفاءة القارئ، وقدرته على تأويل الإشارات والرموز، والتقاط الدلالات والمعاني الثاوية بين الكلمات والخطابات. لا شك أن العينات السيرذاتية التي تتخللُ الرواية تدفع إلى قراءتها كسيرة روائية أو تخييلا ذاتيا، وهذا هو المدخل الثاني الذي يمكن الاهتداء إليه من خلال قراءة الرواية، لا يعني أن الكاتب يشير إلى أحداث وتجارب عاشها. فكل رواية، مهما توغلت في دروب المتخيل ومجهولاته، لا يمكن أن تكون بمنأى عن حياة مؤلفها والتجارب التي عاشها، بل من خلال التخييل الذي يتيحُ الاقتراب من الذات عبر الظلال التي يخلقها، والوضعيات التي يفترعها. وبهذا المعنى الذي تكتب فيه الرواية سيرة الراوي عبد الحي على الرغم منه، تتخلّص التجربة من طابعها الخاص لتأخذ بعدا عموميا. إن ما يوحي ببعد التخييل الذاتي هو القضايا الفكرية والمعارك الثقافية التي تجد طريقها إلى السرد من خلال شخصية عبد الحي التي تستبطن الكثير من الأفكار والتصورات التي يتعين بنسالم حميش، بوصفه من أكثر المثقفين خوضا فيها ودفاعا عنها. من هذه الأفكار ما يتعلق بعلاقة الغرب بالشرق، وما تعرفه من ضروب الالتباس والاستعصاء في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم تغيرات متسارعة تلقي بظلالها القاتمة على إشكاليات الهوية والوجود. أو ما يتعلقُ بحوار المشرق والمغرب، وضروب البياض التي تعتريه، بسبب ضعف الجهد المبذول من قبل المشرق إزاء الثقافة المغاربية، وهو أمر يعود إلى زمن ابن عبد ربه منذ أن كتب "العقد الفريد". أو ما يتعلّق بالمسألة الثقافية وبأدوار المثقفين ومسؤولياتهم إزاء الانهيارات التي يعرفها العصر الراهن على مستويات متعددة، والإشكاليات التي تواجهها المجتمعات العربية مثل إشكاليات الهوية واللغة والانتماء التي تتعرّض لتحديات بالغة القوة والصعوبة. أما المدخل الثالث فيتمثل في كون "الرواي والمتجردة" تمثل نموذجا للرواية الجديدة الواعية بمقتضياتها السردية والتخييلية، وعلاقتها بالسياق الذي تتبلور فيه. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبارها رواية ما بعد الحداثة، خاصة إذا ما تنبّهنا لبعض الاستراتيجيات التي تنهضُ عليها الكتابة السردية في هذا النص. من ذلك نهاية سلطة السارد وتراجع قدرته المطلقة على التحكم في العوالم التي يبنيها والشخصيات التي يختلقها. فشخصية رقية أستاذة الإنسانيات تتمتعُ داخل الرواية بشخصية قوية، وقدرة على التمرد على الراوي وانتزاع حقها في الكلام، وبالتالي في تمثيل نفسها بنفسها وهذا ما يسمح بخلق موقع تلفظي مختلف، يُدخِلُ الجدة ّإلى عالم الرواية ويفسح المجال واسعا أمام موقع ثالث بالمعنى الذي يشير إليه الباحث الهندي هومي بابا، مما يعمّق حوارية الرواية وقدرتها على التقاط الشيء ونقيضه. وتعتبر هذه السّمة الجمالية الناظمة لعلاقة السارد بالشخصية من أهم مرتكزات سرد ما بعد الحداثة الذي يضعُ موضع شك أسس الرواية التقليدية ومفهومها للسرد كما أبرز ذلك تيودور أدورنو في دراساته اللماحة لوضعية السارد في الرواية الحديثة. أليست ما بعد الحداثة، في المقام الأول، نقضا لما اعتبر، في القراءة الحديثة، أساس الرواية ومرتكز هويتها الفنية؟ ففي هذه الرواية لا تتوقف المساءلة عند مفهوم الرواية وسياقات تكونها وعلاقة ذلك كله بالجماليات الغربية المهيمنة، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة النظر في طبيعة الرواية ولغة السرد وتقنيات الكتابة، خاصة وضعية السّارد وعلاقته بالشخصيات. تظهرُ المداخلُ الثلاثة أننا بإزاء رواية مغايرة في شكلها الفني، أي في أسلوبها وطريقة كتابتها، ومن هذه الزاوية فهي تمثل إسنادا قويا للتحولات التي تشهدها الرواية المغربية في هذه المرحلة من الناحيتين الكمية والنوعية. وإذا أضفنا إلى ذلك كله، الخصائص المميزة للغة السردية من حيث الاقتصاد اللغوي وقدرة الكلمة على التغلغل في الأحشاء والالتصاق بالنبض الداخلي للشخصيات، والإفصاح عن أفكارها ومنظوراتها المختلفة للذات والعالم الذي تتحرك فيه، وهو ما يوفر متطلبات الفهم الواقعي للحياة، أمكننا أن نلتقط ذلك العنصر الذي لطالما شدّد عليه إدوارد سعيد ونقاد ما بعد الاستعمار، والمتعلق بالدور الذي باتت تنهض به الرواية باعتبارها بيئة ثقافية شديدة التميز، في بلورة موقع ثقافي مختلف، ليس فقط لإبراز الإضافات التي تقدمها الثقافات الواقعة على هامش المركزية الغربية، وإنما كذلك لنقد ومراجعة الأنساق الجامدة التي تعيق الارتقاء الثقافي وتقف ضده.