"وأنا أحبك والمحبة هي العدل بأسمى ظواهره, فإن لم أكن عادلاً بمحبتي لك في كل المواطن, كنت ساتراً بشاعة الأنانية بثوب المحبة البهي" جبران خليل جبران العزلة نعمة لا يتذوق حلاوتها إلا من جرّبها وصاحبها؛ ذلك أن من يبتغي العزلة ويجري وراءها إنما هو إنسان مثقل بأحمال ينوء بها، إنسان مسكون بأسئلة عميقة تطرد النوم من عينيه. الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام عاش قبل الإسلام في مجتمع مكة الرازح تحت نير الباطل والظلم والكراهية، وكان من الطبيعي أن يعاني نفسيا لأنه كان مغتربا عن ذلك المجتمع، وحتى القرشيون كانوا يدركون أنه مختلف عنهم فلقبوه بالصادق الأمين، والصادق الأمين هذا كان يهرب بنفسه ليختلي بها في غار حراء، حيث كان يستمرئ عزلته باحثا عن توازن نفسي مفقود ومنشغلا بأسئلة وجودية لم يجد لها جوابا. الجواب قدّمه الوحي الكريم، فانبرى الرسول (ص) ومعه تلك العصبة من المؤمنين الصدّق لصياغة الإنسان وإعادة تشكيله من خلال إعمار الأرض وتأسيس الحضارة وإرساء دعائم مفهوم خلافة الله في أرضه. وكان كلّما ازداد ضغط الواقع المادي وازدادت الفوارق الاجتماعية وفشا الفساد، يهرع المؤمنون إلى اللوذ بالعزلة والخلوة. تلك كانت حالة الزهاد والمتصوفة، ولم تكن تلك العزلة انسحابا من العالم ومن التأثير في مجرياته، وإنما شكلت فرصة للتأمل والاتصال بالحق بغية سربلة الذات بالعفة والطهارة والتواضع والصفاء... على نحو ما وجدنا عند مولاي عبد السلام بن مشيش في جبل العلم، وتلميذه الشاذلي بجبل زغوان، وابن الفارض بجبل المقطّم. وربّما كانت الظروف الناجمة عن جائحة كورونا قد شكّلت بالنسبة لقطاع كبير من النّاس فرصة مواتية لدخول عالم العزلة، حيث يؤوب الكائن إلى ذاته وينفتح على أسئلة الوجود، ويعيد النظر في أساسيات علاقته مع الله ومع ذاته ومع الآخر. لقد تبين لنا بالملموس أننا بحاجة إلى تصعيد النزوع الكوني والإنساني الذي يسم ديننا الحنيف، والذي شددت عليه التجربة الصوفية واعتمدته قاعدة لتأسيس مبادئ المحبة ولبنات الحوار والتعايش والتآخي والتسامح بين المكونات الداخلية للثقافة الإسلامية من جهة، وبينها وبين الثقافات الأجنبية من جهة أخرى. إن هذا الغنى الروحي والروحاني الذي تهبه دائرة التصوف هو ما يبدد ويحطم قلاع الاغتراب التي تطبق على الإنسان، وذلك من خلال التوكيد على إنسانية الإنسان بعامة وتحريره من كل قيود وتناقضات الواقع والحياة.. من هنا، كان هذا الحرص الأكيد من الصوفي على إيلاء الإنسان في منظومته الفكرية مكانته التي يستحقها والمستنبطة أصلا من التصور القرآني للحقيقة الإنسانية، تلك الحقيقة التي احترمت الكائن البشري وبوأته مركز الصدارة في سلم الكرامة، وأوضحت للناس أجمع أن بني البشر من طينة واحدة، وأن هذه الطينة تتساوى فيها جميع الأجناس، يقول عز وجل في تأكيده وتشديده على هذا المعطى: "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الكهف الآية: 70)، كما بيّن أصل الطبيعة الإنسانية الواحد وأرومتها المتحدة، والتي استند إليها في دعوته إلى التعاطف والمحبة والتآزر والتآخي، فخاطب بني آدم كافة - دون تخصيص – بهذا النداء البليغ الذي يتوجه إلى الأصل الفطري لكل كائن من الكائنات البشرية، يقول العزيز الكريم: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا" (سورة النساء الآية: 1). من هذا المنطلق، اعتبر التوجيه الرباني القرآني الاعتداء على الوجود البشري اعتداء على البشرية قاطبة، مثلما أن إحياء فرد واحد هو إحياء للحقيقة الإنسانية كلها، يقول تعالى: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (سورة المائدة الآية: 34). وعلاوة على هذا وذاك، دعا الإسلام إلى احترام أديان الآخرين وعدم التهجم واستهجان عقائدهم وأفكارهم: "لكم دينكم ولي دين" (سورة الكافرون الآية: 5) كما نص على التعايش السلمي بين رؤى الناس ومناهجهم مقرا بالحق في الاختلاف في قوله سبحانه: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (سورة المائدة الآية: 48)، ولم يفته في هذا الباب أن يقر مبدأ العدل العام حتى في العلاقة مع العدو "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" (سورة المائدة الآية: 9)، بل لم يترك سبيلا موصلا إلى التعايش والتسامح إلا وحث عليه، حتى ما تعلق بأدبيات الحوار والمجادلة، يقول عز وجل: "وقولوا للناس حسنا" (سورة البقرة الآية: 83) وقوله كذلك: "وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل الآية: 125). من مستتبعات الحب في الإسلام نجد مفهوم الرحمة الذي يستشف من التصور الصوفي للعلاقة مع الآخر ومن دفاع المتصوفة المستميت وتشبثهم بأخلاق المحبة والود، تلك الأخلاق التي تسمو بالنفوس لتطهرها من الأدران والأغيار والأكدار وتحليها بالأنوار والأسرار لتتحقق بالمحبة الإلهية التي تجعل صاحبها يركن إلى الرحمة والرضا والعطف والشفقة والمودة، متأسيا في ذلك بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل من المحبة الإنسانية خلاصة وجماع التعاليم الدينية، إذ يقول: "(إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله عز وجل)"، فقال رجل: من هم وما أعمالهم؟ قال: (قوم يتحابون بروح الله عز وجل من غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها بينهم، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس)" (أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقة الأصفياء). استرشادا بهذا التوجيه النبوي الشريف، عمل الصوفيون على إبراز العمق الإنساني للقيم الإسلامية نظرا وسلوكا من خلال تبنيهم لمسلكيات خلقية منبنية على قواعد التضحية والتسامح وتقديم المساعدة والعون دون تمييز عرقي أو تعصب ديني. وتحفل في هذا الصدد المرويات الصوفية بالعديد من نماذج وأمثلة الخلق الصوفي في صفائه وجماله وسماحته، من ذلك تمثيلا لا حصرا حكاية أبي يزيد البسطامي مع الصبي المجوسي والتي جاء فيها: "بكى صبي مجوسي في جواره ليلة من الليالي، ولم يكن لهم سراج فوضع أبو يزيد السراج في كوخهم حتى سكت صبيهم بضوء السراج برا وشفقة، فقالت أم الصبي لأبيه لما حضر وكان غائبا حين بكائه: ألا ترى إلى شفقة ابن عيسى بن سروشان قد فعل مثل هذا؟ فعجب من شفقته عليهم ودعت بركة شفقته أن أسلموا عن آخرهم". ومن حكايات هذا الصوفي التي تعكس روح الأخوة في أنبل معانيها وأسمى مقاصدها ما نصه: "كان في جوار أبي يزيد فقيه يحسده على ما كان يجري الله على يديه، فتقدم إلى أبي يزيد رجل وقال له: إذا تبصر بنا هذا الفقيه يقول لنا: لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، ألا تتعلمون ما ينفعكم؟ ما هذا الذي يحملكم على خدمة هذا المهووس الذي لا يحسن أن يتطهر، فقال أبو يزيد قولوا له: عليك بنفسك فالزم دينك أن ترك عليك فإني لا آمن عليك أن تموت حين تموت مسلما، فأخبر الفقيه بذلك فأغاضه ذلك، فقضي أن الفقيه مرض فأوصى أن لا يدفن في مقابر المسلمين فإنه على دين النصارى، فلما مات اختلفوا فيه فحمل إلى مقابر النصارى. وكان أبو يزيد بعد ذلك يقول: ما شيء بأعون على أحدكم من تعظيمه لأخيه المسلم وحفظ حرمته، ولا شيء أضر بكم من تهاونكم بإخوانكم وتضييع حقوقهم، وقال: أقرب الناس من الله أكثرهم شفقة على خلقه". ما يستفاد من الحكايتين هو إبداء الصوفي لروح التعايش والتآخي والتسامح والشفقة إزاء الآخر، سواء أكان مسلما أو كتابيا أو حتى مجوسيا؛ مما يعني تمثله (أي الصوفي) لأسمى معاني الرحمة والتقيد بها في معاملاته وسلوكه، وذلك نتيجة إيمانه الراسخ بأن المحبة باب مشرع على الإنسانية وفسحة رحيمة في اتجاه الآخر طافحة بالتعاطف والتحابب والعطف والبذل والحدب. لا شك في أن الجذر الروحي والروحاني الكامن في كل الأديان السماوية هو ما يعزز النزعة الإنسانية الكونية التي شدد عليها الصوفية من خلال رؤاهم الطامحة إلى تشييد عوالم ساطعة شفيفة وممتلئة بالمعنى، يجهد فيها الإنسان نفسه للاتصاف بصفات الله وأخلاقه من خلال سعيه الدؤوب إلى الفناء فيه، وهو ما يدل عليه تعريف الجنيد للمحبة حين اعتبرها "دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب". يستحيل الحب عند الصوفية إلى دين وعقيدة تصهر كل الأديان في بوتقة واحدة وتدمجها على أساس المحبة بين الناس، وذلك من منطلق أن الديانات السماوية منبعها واحد، والإيمان بالله موجود فيها جميعها على اختلاف حقيقته، ولعل ذلك ما عناه ابن عربي في قوله: أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.