الحمد لله العلي العظيم، الحمد لله الحليم الكريم، الحمد لله رب رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم (...) أما بعد، فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل الآمر بالتزود بالتقوى في قوله سبحانه: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب) (سورة البقرة196)، وإن من أجمل ما يتحلى به الإنسان مكارم الأخلاق، فبها يستقيم أمر الأفراد، وينتظم سير الجماعات، وتنهض الأمم وتتسلق مدارج الترقي نحو القمم؛ أما الانحراف والزلل وسوء المعاملة وكثرة المؤاخذة للآخرين على سلوكاتهم وتصرفاتهم، ومحاسبتهم على الصغير والكبير من أخطائهم، فذلك من علامات التخلف والتخاذل وسوء الخلق وقلة الصبر، ومآله للأفراد والأمم سوء العاقبة وبئس المصير! وديننا الحنيف أيها المؤمنون يسمو بالأمة الإسلامية، على مستوى الأفرد والجماعات، ويحفزها على جميع المستويات، لتدرك ذلك الرقي الاجتماعي والتطور الإيجابي عن طريق التحلي بالأخلاق الفاضلة وانتهاج أساليب الصفح والمحبة والاتصاف بالصبر والمودة، ليستقيم أمر الفرد والجماعة، وينتهجوا السبل القويمة في السلوك والمعاملة. يقول الله عز وجل مخاطبا رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم وكل مسلم مؤمن يطمح إلى الاقتداء برسوله في الخق والمعاملة.. (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) (سورة الأعراف 199). فهذه الآية الكريمة تضمنت القواعد الأساسية لمعاشرة الناس في المجتمع الإنساني الذي يرتضيه الإسلام منهجا للتعامل والتعايش والتكامل بين عناصره، وقد اشتملت على أمر بأن نأخذ من أقوال الناس وأفعالهم وأخلاقهم ما جاء منهم عفوا طبيعيا، وما صدر منهم وتيسر بغير كلفة ولا مشقة، فلا نطلب منهم ما يعجزون عن الاتصاف به من الكمال، ولا نحملهم على النفور منا والاشمئزاز، وهذا هو العفو الذي يعتبر من أهم أسس التعايش بين الناس وبقاء العلاقات واستمرارها، وتوطيد الصلات وصيانتها. ويدخل في ذلك صلة الأرحام ولو قطعها القاطعون، والحلم والصفح وإن أذنب المذنبون، والرفق والرحمة وإن أساء المسيئون، والتغاضي والإعراض وإن اشتط في القسوة الأشداء المجازفون. قال تعالى داعيا إلى تلك الخصال الفاضلة البانية محرضا على انتهاج نهج الصفح عن أخطاء الخطائين، والتجاوز عن إثم الآثمين: (فاصفح الصفح الجميل) (سورة الحجر 85). وكما أمر الله عز وجل عباده المسلمين المؤمنين بمحاجة الكفار والمشركين ومجادلتهم ومقارعتهم الحجة بالحجة، فقد دل المسلمين على وجوب التحلي بمكارم الأخلاق والمجادلة بالتي هي أحسن، بل أمر بانتهاج أسلوب رائع حكيم في الدعوة، بليغ مؤثر في المخاطبين، رشيد رفيق في تبليغ الدين، وفتح قلوب الضالين ونفوس التائهين، إلى الاستنارة بنور الهداية والحق المبين، فقال جل من قائل: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (سورة النحل 125) ويوجهنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم توجيها نبويا حكيما لما يزرع في قلوبنا المحبة والسماحة، ويغرس ي نفوسنا الأخلاق الفاضلة، وينعش سلوكنا ببشائر الخير وحسن المعاشرة، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق (أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه). والمعنى الراجح للعفو في الآية عند معظم المفسرين هو ما زاد عن حاجة المسلم في مجال الإنفاق، ولاشك أن الفائض من أموال المؤمنين يعد عفوا، ومنه تؤخذ الصدقات، مصداقا لقول الحق سبحانه: ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (بعض الآية 217 من سورة البقرة 2). وأما العرف فهو كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، وإن رأس ما تطمئن إليه نفس المؤمن وينشرح له صدره هو ترديد كلمة التوحيد لا إله إلا الله فهي أهم ما ترتضيه عقول العقلاء المتدبرين، وأحسن ما تنطق به ألسنة العباد المهتدين الطائعين؛ ثم التعود على الاتصاف بالفضائل والمكرمات التي تقتضيها عقيدة التوحيد، كالحياء والحلم والأمانة؛ وإيلاف فعل الخيرات والمبرات، كالإحسان والتعاون والكفالة حتى يصير ذلك في الناس عرفا مألوفا، الكل يسعى إلى الإصلاح وتحقيق الغايات التي تنفع الناس في عاجل دنياهم أو في آجل أمرهم؛ وبين قول الخير وفعله صفات يتحلى بها المرء فيزداد قلبه يقينا وتزداد أخلاقه سموا: فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة (أي قطعة أو جزءا)، فأفضلها قوله (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (أخرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه). ثم إن حسن معاملة الناس، ومد يد العون والمساعدة لهم، والبشاشة في وجوههم، والتغاضي عن عيوبهم، ومسامحتهم على أخطائهم... كل ذلك فيه للمسلم المؤمن أجر كبير: فقد أخرج البزار في مسنده أن أبا جزي جابر بن سليم قال: فركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله؟ فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس، عليه برد من صوف فيه طرائق حمر؛ فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام فقلت: إنا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: ادن ثلاثا فدنوت فقال: أعد علي فأعدت عليه، فقال: اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وفي رواية: طليق أو طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله عز وجل جاعل لك أجرا وعليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى قال أبو جزي: فوالذي نفسي بيده ما سببت بعده شاة ولا بعيرا (أخرجه الإمام مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه). يالها من وصايا بينات بليغات مفيدات نافعات!! إن الحبيب الشفيع صلى الله عليه وسلم يوصي في هذه الجواهر المضيئة بالتقوى، ويوصي بالإكثار من المعروف مهما ظنناه بسيطا أو حسبناه تافها، ويوصي بالانبساط والانشراح في وجوه الآخرين، ويوصي بالإيثار وتفضيل الغير على النفس، ويوصي بالحلم على الآخرين ولين الجانب معهم، فالحبيب صلى الله عليه وسلم يعتبر ذلك كله وسيلة لنيل مكاسب جمة ومحامد جليلة، هي الأجر عند الله أولا، وكسب ثقة الآخرين ومودتهم ثانيا، وشيوع المحبة والمودة بين أفراد المجتمع ثالثا؛ ثم إذا نظرنا إلى الأبعاد الاجتماعية والإنسانية لتلك الصفات والمحامد فإننا نجد لها أعظم الأثر في ترفع الأفراد عن الدنايا، وانتشال الأمم من الانحطاط والتخلف والرزايا، وتوفير جو الإخاء والمودة والتآلف. والناس معادن، فيهم المصيب وفيهم المخطىء، والمصيب منهم معرض للخطأ في كل حين. ولله در الشاعر القائل: إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك، لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدا، أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه نعم أيها المسلمون المؤمنون، إن سنة الحياة وطبيعة الناس تقتضي أن نتغاضى عن عيوب الآخرين، وأن نتذكر أننا أيضا يمكن أن نخطئ في حق الغير، والمؤمن يلتمس العذر لأخيه، والعفو والصفح والتسامح والتواصل من أهم الصفات التي دعا إليها الإسلام بوسائل وأساليب ونصوص كثيرة، ومن أدلها وأشملها قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة. وكل أمر أمر الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته ولكافة المسلمين في كل زمان ومكان، إلا أن يكون هناك ما يخصصه صلى الله عليه وسلم بالأمر. فاللهم إنا نسألك أن تجعل الإخلاص دأبنا، والعدل شيمتنا، والقصد منهجنا، والعفو خلقنا، والمعروف عادتنا؛ ونسألك اللهم أن تلين ألسنتنا بذكرك، وتصلح قلوبنا بهدايتك، وأن تغفر لنا بحلمك، وترحمنا بعفوك وفضلك، إنك غفور رحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. عن كتاب خطبة الجمعة المنهج والمقاصد في ضوء الكتاب والسنة