يجتاز العالم أحد أسوأ الكوارث الاقتصادية في العصر الحديث، عقب التداعيات غير المسبوقة التي نتجت عن فيروس كورونا المستجد (COVID19). وتستعد دول العالم للبدء في مسار طويل للتعافي الاقتصادي والاجتماعي، والرجوع إلى مستويات ما قبل الجائحة. ويتحدث الاقتصاديون عن مجموعة من النماذج الممكنة للتعافي (Recovery Models)، وهي عموما مبسطة على شاكلة حروف لاتينية وهي "V" و"U" و"W" و"L". وللوصول إلى أحد هذه النماذج الخاصة بالتعافي، تسعى كل دولة لوضع سياسات وتدابير تهدف إلى إنقاذ النسيج الاقتصادي وإعطائه نفسا جديدا يسمى اقتصاديا "الانعاش". وفي بلادنا، تحاول الحكومة وضع هذه التوجهات لكن إلى حد الآن يصعب إجراء تقييم لهذا المسار، بالنظر إلى حالة البطء التي يعرفها من جهة، واقتصاره إلى حد الآن على آليات تمويلية. وهي غير كافية بالمرة، خاصة وأن فلسفة التمويل العصرية أصبحت تولي الأهمية لميكانيزمات المواكبة والمصاحبة كأهم جزء في منظومة التمويل. هذا وقد لجأت الحكومة إلى اعتماد قانون مالي تعديلي، في ظل انتفاء جل الفرضيات التي تم من خلالها اعتماد قانون المالية الحالي، وهذا القانون التعديلي ينبغي أن يكون إطار إنقاذ يمكن من إعادة النظر في منظومة موارد ونفقات الدولة وإعداد إطار جبائي ينسجم مع الظرفية الاستثنائية للجائحة، ويتيح موارد إضافية للدولة. وطبعا هو فرصة لإعادة ترتيب أولويات الحكومة على مستويات التسيير والاستثمار. لقد أثرت الجائحة في مجموعة من القطاعات الحيوية ببلادنا، كقطاع السياحة بنسبة قد تتعدى 60% في آخر السنة، وقطاعات النقل والخدمات والصناعة التقليدية والعقار والصناعات المرتبطة بسلسلة القيمة العالمية. وهي انعكاسات تستوجب تركيز جهود الدولة من أجل الخروج بأقل الأضرار. وهنا من الواجب تجنب أي نوع من التوجهات التقشفية على اعتبار أن دور الدولة يبقى رئيسيا من أجل إنعاش المنظومة الاقتصادية وضمان تعافي على شاكلة "U"، أو ما يصطلح عليه تقنيا ب "U-shaped Recovery"، وهذا يعني أن الاقتصاد الوطني قد يستطيع الشروع في الخروج من المؤشرات السلبية ابتداء من الفصل الرابع لهذه السنة، وهو الطموح الذي عجل باتخاذ بنك المغرب لقرار تخفيض المعدل الرئيسي من 2% إلى 1.5% من أجل تحرير الطاقات التنموية الوطنية من خلال تسهيل مسار منح القروض وجعل فوائدها أرخص، سواء بالنسبة للعروض الجديد كضمان إنعاش أو ضمان أوكسجين، أو كذلك العروض البنكية العادية. ولتحقيق ذلك، ينبغي تعزيز منظومة الطلبيات العمومية، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم (لوضع منصة وطنية متقدمة ومؤمنة للتعليم عن بعد وتوفير معدات نجاحها)، وقطاعات الأشغال العمومية والاقتصاد التضامني والقطاع الفلاحي. كما يجب الاستمرار في الاستفادة من الإعدادات التقنية للمالية المختلطة (Blended Finance) لوضع صناديق مرصدة لأمور خصوصية تمكن من دعم المقاولات المتعثرة بتبعات الجائحة، خاصة في قطاعات السياحة والخدمات والنقل والصناعة التقليدية. وفي هذا السياق، نوصي بالشروع في إصلاح المنظومة الجبائية الوطنية انسجاما مع توصيات مناظرة الصخيرات حول الجبايات، خاصة فيما يتعلق بإصلاح الضريبة على القيمة المضافة لتعزيز حيادها، وتوسيع الوعاء الضريبي وإصلاح هيكلة الموارد المتعلقة بالضريبة على الدخل والضريبة على الشركات لتطوير منظومة جبائية تتسم بالعدالة والنجاعة، مما سيمكن من تطوير علاقة رابح-رابح (Win-Win) بين الدولة ودافعي الضرائب. كما تعتبر فرصة قانون المالية مناسبة لإطلاق مسارات مصالحة جديدة مع مجموعة من المقاولات والأفراد لضمان موارد جديدة للدولة في هذه المراحل الصعبة، وننبه إلى ضرورة تفادي أي مظهر للخوصصة بالنظر لكون الظرفية العالمية لن تكون مفيدة لبلادنا. إن الخروج من الجائحة يحتاج إلى وضع منظومة متكاملة للتعافي، تشكل منصة تقنية لإخراج البلاد من حالة اقتصادية صعبة قد تصل إلى مستوى "الكساد"، أي إن الفشل في إنعاش الاقتصاد الوطني قد يطيل الركود لسنوات متعددة. ولتفادي سيناريو السكتة القلبية، ينبغي على الحكومة العمل بشكل مستعجل على: توفير خطة ميزاناتية لاستمرار دعم الأسر التي سيجد أربابها صعوبة في استعادة وظائفهم بعد الأزمة، لضمان إنعاش منظومة الطلب الداخلي عبر تحفيز الاستهلاك، خاصة وأن قوة الاقتصاد الوطني تكمن في الطلب الداخلي الذي ينبغي أن يوجه بشكل براغماتي إلى المنتوجات وطنية الصنع. جعل قانون المالية التعديلي قانون إنقاذ، بعيدا عن التقشف وضرب القدرة الشرائية الوطنية، كما يجب أن يقدم إطارا جبائيا واعدا من شأنه تخفيف آثار الجائحة وتمكين المقاولات من استرجاع مستويات ما قبل الجائحة. التعجيل بوضع خطة محكمة لانبثاق صناعة وطنية تستجيب لكل حاجيات السوق الداخلية والإفريقية للاستفادة من الفرص الواعدة التي تتيحها منطقة التبادل الحر الافريقية (ZLECAF). وضع مخططات قطاعية عملية للإنقاذ، مع تحديد الحيز الزمني لتنفيذها والاعتمادات المالية اللازمة لذلك. التفكير في خطة محكمة لتفادي فقدان النقطة السيادية الوطنية لدرجة الاستثمار، بالنظر للانعكاسات الخطيرة لهذا التراجع على كلفة الدين الوطني. وضع تصور متكامل لدعم الفلاحين الصغار وحمايتهم من تبعات الجفاف والكوارث الطبيعية. تسريع مسار تصدير المنتجات الطبية محلية الصنع بعد ضمان الاكتفاء الذاتي الوطني، خاصة في سياق ارتفاع الطلب العالمي عليها، مما سيمكن من تعويض جزء من الخسارات المترتبة عن تقلص منظومة الطلب الخارجي. * محلل اقتصادي ومالي [email protected]