في شارع أحمد بن بلة بمدينة البيرة، يقف عبد الله عبد الرزاق أمام متجر عائلته القائم منذ 50 عاماً، بانتظار قدوم الزبائن الذين تراجع عددهم بشكل ملحوظ. عبد الله (41 عاماً) يعمل في حرفة تنجيد اللحف والفرشات والمخدات على الطريقة التقليدية القديمة في محل ورثه عن والده الذي عمل فيها أكثر من 30 عاماً، رغم أن هذه الحرفة تواجه خطر الاندثار بعد علو كعب الصناعات الحديثة. الزبائن يجدون صعوبة في الوصول إلى محله الذي لم يعرفه باسم، لكنه ظل معلماً تاريخياً للمارين من هناك، فبجواره يقع كذلك أقدم المحلات التجارية في الشارع، حيث توجد بقالة "النهضة" التي هجرها أصحابها عنوة عقب استشهاد صاحبها محمد سعدات في العشرين من شهر غشت عام 2002 بعد أن اغتالته قوة خاصة بالقرب من المحل. قبل عقدين من الزمن كان محل "المُنَجِّد" عبد الرازق يعج بالزبائن من مختلف القرى المجاورة، سيما في موسم الأعراس، حيث المقولة التراثية الشهيرة "اندف يا نداف وعجل ومتخلّي الحنة تتأجل"، في إشارة الى ندف الصوف وتجهيزه. ففي موسم الأعراس كانت العادة لدى معظم العائلات تجهيز بناتها العرائس من خلال تنجيد فرشات ولحف ومخدات بألوان زاهية، ويكتبون عبارات خاصة على المخدات مثل: (صباح الخير يا وطني، أو نوم الهنّا، أو صباح الخير يا قدس..). أما في فصل الشتاء، فإن الكثير من العائلات كانت تلجأ إلى المُنجِّدين من أجل تجديد فراشها ودعمه بمزيد من القطن والصوف حتى يصبح أكثر دفئاً، خاصة أن وسائل التدفئة كانت تقتصر فقط على كوانين الحطب. غير أن هذه المظاهر غابت في الوقت الحاضر، وأصبح عمل من يمتهنون هذه المهنة نادرا جداً. عبد الله الذي يمارس هذه المهنة لا يكترث كثيرا بما وصلت إليه حرفته، ويصر على أنه يبحث دائماً عن القليل، ولم يجرب قط أن يجاري التطور الذي طرأ على الحرفة التي أُدخلت إليها منتوجات جديدة تواكب الحاضر، كالكنب والستائر. قبل أن تدخل الآلة الكهربائية بسيطة الصنع، كان يستخدم ما يعرف بالقوس من أجل ندف "نفش" الصوف، حيث يعمل من خلال هذه الطريقة على جعل الصوف طرياً منفوشا، وهذا ما تقوم به الآلة الكهربائية، لكنها تعمل على طحنه بشكل كبير، الأمر الذي يفقد الصوف الكثير من جودته. يصارع عبد الله على أن تبقى حرفته على قيد الحياة، يتعلق بها ويحن الى زمنها الجميل في ظل عالم "العولمة" وغرق الأسواق بالمنتوجات العالمية الحديثة. "أصبح من يعمل في هذه الحرفة في هذه الأيام يُعَدّون على أصابع اليد". "أستخدم القطن الزراعي وصوف الأغنام، لكن الناس أصبحوا يشترون الأشياء الجاهزة غير الصحية، والتي تكون عادة أخف ولا تتعب في التنظيف.. كما أن توفر المال جعلهم يعزفون عن الفُرش التقليدية والاستعاضة عنه بالفرش الحديثة"، يقول عبد الله. وأضاف "كان الناس سابقاً يقدرون هذه المصنوعات من الصوف لما فيها من فوائد للجسم، وكنت قبل عدة سنوات أذهب إلى المنازل حتى أنجد فُرُشهم، ونادراً ما كنت أعمل داخل المحل، وآخر مرة ذهبت إلى منزل كانت قبل 15 عاماً في إحدى قرى رام الله". على جدران المحل الداخلية يعلق عبد الله لحفا مرّ على وجودها بهذه الوضعية أكثر من 20 عاماً، ويقول: "مشاهدة ذلك يومياً يشعرني بالراحة النفسية، كما أن البساطة التي تغزو المحل تعطيني سعادة أكثر من الملوك". وفي سيرة المُنجد "قراءة شفوية في حرفة التنجيد اليدوي في جنوبفلسطين" للكاتب غريب عسقلاني، يقول إن "التنجيد اليدوي مهنة من الحرف اليدوية التي تجمع بين حرفية الصنعة، وتجليات المبدع في إضافة شيء من روحه على المنتَج الذي يقوم بصنعه. لذلك نرى أن الحرفة في القرى والمدن ترتبط بأشخاص احترفوا وتميزوا واكتسبوا شهرتهم من إتقانهم الصنعة، وتميزت مشتغلاتهم بتفصيلات لا يبدعها غيرهم"، لافتا إلى أن حرفة التنجيد في فلسطين "وجدت تجلياتها في مناطق الضفة والشمال الفلسطيني، متساوقة مع تطور فنون التطريز اليدوي وتنوع الملابس في تلك المناطق المنفتحة على سوريا ولبنان. أما في الجنوب فاتسمت المهنة بالتقشف والوقوف عند الأساسيات المطلوبة، وإن ظهرت امتدادات وتسريبات فنية في بعض المدن مثل الرملة واللد ويافا، وإلى حد ما مدينة والمجدل التي اشتهرت فيها هذه الصناعة، بحيث أصبح المنجد المجدلاني هو عنوان التنجيد في مناطق غزة وبعض مناطق النقب". وهكذا، ستظل مدينة البيرة، كغيرها من المدن الفلسطينية، ذات ارتباط وثيق بتراثها المادي واللامادي، وسيظل عبد الله عبد الرازق كغيره من المنجدين، يبحث عبر مهنته وعبر مفرداتها وإخراج كنوزها الوافرة لتعطي الاستمرارية والحياة، وليتعلم الأبناء ما صنعه الآباء والأجداد.