تتحدث «المساء» في ركن «مهن وحرف في طريقها إلى الانقراض» عن مهن وحرف لم تعد تؤمن رزق أصحابها، بفعل التطور التكنولوجي والتغيرات السلوكية والحضارية للإنسان. كانت بالأمس الأسلوب الوحيد لتغطية مصاريف الحياة لدى العديد من الأسر المغربية بالمدن والقرى، علمها الأجداد للآباء والأمهات، وتوارثها الأبناء والأحفاد، الذين تشبعوا قرونا مضت بالمثل المغربي «تبع حرفة بوك يلا يغلبوك». مهن وحرف رأسمالها مواهب وذكاء وعتاد بسيط، كلفت الإنسان المغربي شيئا من الصبر والعزيمة، وربما بعضا من النصب والاحتيال، ومنحته بديلا غير مكلف، للحصول على المال والاحترام. وأغنت البعض عن التجارة والفلاحة والأعمال الوظيفية. لكن تلك المهن والحرف لم تعد لها زبائن الأمس. جولة قصيرة بالوسط المغربي، وخصوصا القروي منه، تجعلنا نلمس عن قرب واقع تلك المهن وحياة ممتهنيها، ونعيش معهم مرارة الاحتضار الذي تعيشه وسط مجتمع منشغل بالبحث عن الجديد والمستجد. ظلت حرفة «الكواي» التي يستعمل فيها الحرفي معدن الرصاص «اللدون» والنار، لإصلاح (كي)، بعض الأنواع من الأواني المنزلية، السبيل الوحيد للأسر المغربية الفقيرة ومتوسطة الدخل، من أجل استمرار استعمال مجموعة من الأواني القديمة، وتكفيهم شر تبذير أموال يجدون صعوبة في توفيرها من أجل اقتناء أوان جديدة. وظلت هذه الفئة تعتمد على (الكواي) من أجل تمديد مدة صلاحية الأواني، رغم ما تتعرض له من اعوجاج أو كسر أو تعفن خارجي. واعتبر (الكواي) إلى وقت قريب، صاحب حرفة نادرة، غالبا ما تجده داخل سوق أسبوعي أو جوطية، أو متجولا يحمل عدته وينادي على الزبائن المفترضين، والذين هم في غالبيتهم نساء. ويعتبر «الكواي»، متخصصا في إصلاح أوان مثل (براد، إبريق، بوقراج، ليد، سطل، صينية...)، وهي أوان تكون مصنوعة من معادن النحاس أو الألمنيوم أو القصدير. يتلقى مقابل إصلاحها مبالغ مالية غالبا ما تكون دراهم قليلة، يتسلمهما بابتسامة غامضة، ويدسها في جيبه، أو تحت الفراش الذي يعرض فوقه عدته. وتجد لدى الكواي مجموعة من الأواني المستعملة والقديمة، ومقبض (اللدون)، إضافة إلى أنه ينصب كانونا «مجمر»، أو جهازا قديما يستعمل لإشعال النار والجمر، حيث يعرض معدن الرصاص قبل أن يستعمله لترميم آنية، أو سد ثقب بها. كما يستعمل سندانا ومطرقة، وملقاطا وغيرها من الأدوات القديمة التي يحتاجها (الكواي) أثناء إصلاحه للأواني. قال بوجمعة، أحد ممتهني حرفة «الكواي» منذ عقود خلت، إن حرفته كانت تدر عليه ما يكفيه من أموال لتغطية مصاريف أسرته، من تغذية وصحة وتعليم. لكن خلال السنوات الأخيرة، بدأ زبائنه يقل عددهم، كما أن حالته الصحية تدهورت، وتعذر عليه توريث الحرفة أبنائه، كما تعذر عليه إيجاد شخص آخر يمكنه من (الصنعة). موضحا أن الحرفة ورغم مدخولها الضعيف، فإنها تسمح بفتح بيت على (قد الحال). وأضاف أن انتشار وتنوع أنواع وأحجام الأواني المنزلية، وانخفاض أثمنة بعضها، جعل العديد من الزبائن يفضلون شراء أوان جديدة بدلا من الذهاب عند الكواي، وإصلاح أوان قديمة. كما أن تصريحات بعض الزبائن كشفت عن تراجع ثقتهم ببعض (الكواية)، حيث ما إن يتم إصلاح آنية ما، حتى يعود نفس العطب في اليوم الموالي كسر أو ثقب...). كما أنهم يجدون صعوبة في العثور على (كواي) يمتلك محلا قارا، يمكن اللجوء إليه باستمرار، لأن الحرفيين (الكواية)، نوعان، إما متجولين أو فراشة ينصبون خياما داخل الأسواق الأسبوعية. ويعود سبب عدم امتلاكهم لمحلات قارة، إلى ندرة الزبائن وضعف المقابل المادي الذي يتلقاه الحرفي مقارنة مع مصاريف كراء محل تجاري وأداء فواتير الماء والكهرباء والضرائب. وإذا كان «الكواي» يعتمد بالأساس على عملية (الكي)، في حرفته، فإن العديد من الأسر، بدأت تقتني (كوايات) كهربائية، وأسلاك معدن الرصاص «اللدون» من محلات بيع العقاقير، وتعمد إلى إجراء الإصلاحات العادية داخل منازلها. ونادرا ما يزور الناس (الكواي) تحت خيمته بالسوق الأسبوعي، أو ينتظرون سماع ندائه وسط الحي أو الدوار. ليخرجون إليه الأواني المعطلة. ويحاول حرفيو (الكي باللدون)، إبهار الزبائن بمهارات مختلفة، يبرزونها في كيفية إصلاح الأواني، من أجل تحفيزهم على الاستمرار في زيارتهم، لكن دون جدوى. حيث إن السبب الحقيقي وراء عزوف الزبائن عن إصلاح الأواني، يتمثل بالأساس في نوعية الأواني التي أصبحت تصنع حاليا، وخصوصا الأواني التي هي في متناول الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل، وهي الفئة التي تكون مجموع زبائن «الكواي»، هذه الأواني في غالبيتها مستوردة من الصين أو تركيا، بعضها لا يمكن أن يصمد في وجه الإصلاحات المتكررة التي عادة ما تخضع لها أواني الفقراء. وبعضها صنع بمواد معدنية لا يمكن إصلاحها باستعمال معدن (اللدون)، إضافة إلى ثمنها الزهيد، الذي يشجع الناس على شراء الجديد منها عوض إصلاح الأواني القديمة. وعلى العموم، فإن حرفة (الكواي)، التي امتنع الأبناء عن تعلمها، وعرفت مؤخرا عزوف الزبائن، لاتزال صامدة داخل بعض المناطق القروية وشبه القروية. ولايزال روادها وعلى قلتهم، يستقبلون الزبائن الفقراء، ويحاولون كسب ثقتهم، بالعمل على إتقان الإصلاحات التي يقومون بها. وتحسيس زبائنهم بأهمية الادخار وعدم تبذير أموالهم القليلة من أجل شراء أواني عصرية غالية، والاعتماد عليه من أجل ضمان استمرار صلاحية أوانيهم. بل إن بعض الحرفيين بدؤوا ينصحون الزبائن باقتناء أنواع معينة من الأواني، يستطيعون إصلاحها عدة مرات دون أن تنكسر أو تتعرض للصدأ. وينصحونهم بعدم استعمال الأواني الصينية والتركية بدعوى أنها غير ذات جودة ولا تعمر طويلا. ويأمل الحرفيون في أن يتم الاهتمام بحرفتهم إلى جانب عدة حرف صغيرة تعرف منافسة شديدة، وتتعرض سنويا للانقراض داخل عدة مدن وقرى، خصوصا أنهم بدؤوا يجدون صعوبات في تدبير عتاد الحرفة، حيث نادرا ما يعثرون على الحرفيين الذين يصنعون بعض الأدوات التي يحتاجونها ك»الكواية» وجهاز إشعال النار البدائي والسندان و... كما أن ندرتها تضطرهم إلى شراء بعض الأدوات بأثمنة غالية، يجدون صعوبة في تدبيرها.