يشهد العالم اليوم الكثير من التحوّلات في نمط الحكم واستراتيجيات البقاء، إذ برزت التعددية القطبية في النظام الدولي من خلال جلّ التنافسات بين مختلف الأقطاب على اختلاف درجات قوّتها في مختلف مناطق العالم، وبخاصة تلك الغنية بالموارد الطبيعية والأولية. وتعدّ القارة الإفريقية إحدى المناطق التي عرفت عدّة تنافسات دولية لأجل الاستحواذ على نصيب وافر من ثرواتها المعدنية الثرّية، ومن بين تلك الدول التي تتنافس على القارة الإفريقية بالإضافة إلى بعض الدول الأوروبية كفرنسا، هناك الصين وروسيا، العملاقان اللّذان يتحرّكان بسرعة صوب القارة الإفريقية من خلال اتّخاذ عدة سياسات، وتطبيق عدة استراتيجيات، كل واحدة مختلفة عن الأخرى. وباعتبار المنطقة المغاربية جزءا من هذه القارة، وتموقعها في شمال القارة يجعل منها منطقة شد لاهتمام القوى الكبرى ومتابعة التحولات الداخلية التي تعرفها، حيث تتميز بثلاث خصائص جيو-استراتيجية: - بوابة خلفية لدول الاتحاد الأوروبي - بوابة استراتيجية للولايات المتحدة - منصة اقتصادية أمامية للقوى الكبرى المنطقة المغاربية كبوابة خلفية في الاستراتيجية الأوروبية: تنظر الدول الأوروبية، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، إلى المنطقة المغاربية (التي تضم كلا من ليبيا، وتونس والجزائر، والمغرب وموريتانيا) من خلال ثلاثة مرتكزات رئيسية (عمق استراتيجي، خزان طبيعي، معبر بشري وسوق استهلاكية). المنطقة المغاربية كعمق استراتيجي لأوروبا: حيث تشكل هذه المنطقة (بموقعها الجغرافي بجنوب القارة الأوروبية، وتموقعها الجيوبوليتيكي (بتواجدها شمال البحر المتوسط، واعتبارها بوابة غربية للعالم العربي، ومحاذاتها للمحيط الأطلسي، بالإضافة إلى رقعتها الجغرافية بحيث تصل مساحتها إلى حوالي 5.782.140 كلم2، أي بما نسبته 42% من مساحة الوطن العربي، في حين يبلغ طول الشريط الساحلي للمنطقة المغاربية حوالي 6505 كلم، أي 28% من سواحل الوطن العربي بأكمله. المنطقة المغاربية كخزان طبيعي للثروات الفلاحية والسمكية والمنجمية: حيث تشكل المنتجات السمكية فرص عمل لأسطول الصيد البحري، خاصة الإسباني، في الوقت الذي تشكل فيه المنطقة خزانا لليد العاملة ومصدرا للأدمغة والمادة الرمادية. المنطقة المغاربية كمعبر بشري نحو أوروبا: فالجزائر وموريتانيا عبر حدودهما الصحراوية مع دول الساحل تعتبران نافذة استراتيجية للهجرة نحو أوروبا، وتونس والمغرب يعتبران البوابة الرئيسية نحو أوروبا من خلال مدينتي (سبتة ومليلية)، حيث تعتبر سبتة رغم كل الاجراءات الأمنية واللوجستيكية ممرا لانطلاق قوارب الهجرة بشكل يذكر بانطلاق القائد طارق بن زياد من هذه المنطقة في غزوه للجنوب الإسباني بعدما أحرق سفن العبور. في حين تعتبر ليبيا بوابة النزوح إلى ايطاليا. المنطقة المغاربية كبوابة أمامية في الاستراتيجية الأمريكية: تعتمد الولاياتالمتحدة في تعاملها مع المنطقة على ثلاثة مرتكزات أساسية تتمثل في مواجهة الإرهاب الدولي، ومزاحمة النفوذ الأوروبي، وتأمين المصالح البترولية. مواجهة الإرهاب الدولي: يتزايد الدور الاستراتيجي للمنطقة، خاصة بعد تفجيرات نيويورك في شتنبر 2001 التي وجهت ضربة قاصمة إلى الهيبة السياسية والعسكرية لأكبر قوة عظمى، جعلتها تبلور استراتيجية مواجهة الإرهاب الدولي في مختلف أنحاء العالم. وقد زاد من الاهتمام العسكري الأمريكي بالمنطقة خاصة تعرض المصالح الأمريكية لتهديدات إرهابية تمثلت في تفجير السفارة الأمريكية في كينيا ومقتل 4 جنود أمريكيين بالنيجر. ويمكن إرجاع هذا الاهتمام إلى عاملين استراتيجيين - أولهما انفتاح المنطقة المغاربية على دول الساحل من خلال مناطقها الصحراوية، وهي دول تعاني أنظمتها من عدم الاستقرار السياسي وتفتقر حكوماتها لأدوات فرض الأمن والاستقرار مما سمح بتواجد الحركات المتطرفة، خاصة بوكو حرام التي أصبحت توسع نشاطها في عدة دول إفريقية، خاصة نيجيريا التي تعتبر من أكبر الدول الإفريقية التي تتوفر على مخزون بترولي مهم. وفي هذا السياق تعتبر الجزائر من أهم الدول المغاربية التي لها حدود مع هذه الدول كمالي والنيجر وغيرها من دول الساحل، في حين ترتبط موريتانيا بدول كالسنغال. - ثانيهما التركيز على ألا تسقط منطقة المغرب العربي في حرب أو إدارة الجهاديين، لأن موازين القوى في الشرق الأوسط والمتوسط لا يمكن أن تسقط في يد القاعدة من فوضى العراق إلى فوضى أخرى في المغرب العربي، أي إنه من غير الممكن تصدير" فوضى العراق" إلى شمال إفريقيا، فالهدف المعلن من القيادة الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم" هو الصحراء الكبرى، التي تقول واشنطن إنها تضمّ مراكز تجمُّع وتدريب لناشطي تنظيم القاعدة، وإن هذه الصحراء تحمِل في واحاتها تهديدات تنظيم القاعدة للدول المُحيطة بها، خاصة الجزائر ومالي والنيجر والمغرب وموريتانيا، إضافة إلى الدول الإفريقية الأخرى. غير أن واشنطن، بالإضافة إلى العواصم الأوروبية المعنية بالحرب على الإرهاب، تدرك أن علاقات الدول المغاربية الثنائية لا تبشِّر بإمكانية نجاح مقاربتها للحرب على الإرهاب، ولذلك فهي تشجِّع هذه الدول على تطوير وتكثيف التعاون فيما بينها في الميدان الأمني ومكافحة الإرهاب، حتى لو بقيت علاقاتها في الميادين الأخرى تعرف توترا أو فتورا. وهكذا انصبت جل تصريحات المسؤولين الأمريكيين في اتجاه تأكيد الأهمية التي تحتلها المنطقة المغاربية في الاستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب. وفي هذا الصدد، قال وليام برنز: "لقد كانت دول المغرب العربي دائما نموذجا للاعتدال في الوقت الذي ظهرت فيه الطفرات المنحرفة في الشرق الأوسط، وبالنظر إلى الشك والرهانات التي تحوم حول المنطقة، فإننا نذكر مرة أخرى بأهمية دعم شمال إفريقيا، حيث كان كل من المغرب والجزائر وتونس إلى جانبنا في الحرب على الإرهاب، وحتى ليبيا نددت بهجمات الحادي عشر من شتنبر وأرسلت إشارات الدعم". كما أنه في إطار التعاون بين الولاياتالمتحدة وبعض دول هذه المنطقة في مكافحة الإرهاب، قدمت السلطات الجزائرية لواشنطن قائمتين بأكثر من ألف مشتبه فيه ذي علاقة بالتنظيمات الإرهابية، المتواجدين على الأراضي الأمريكية والأوروبية، وعرضت تعاونها في المجال الأمني وتبادل المعلومات. وفي المقابل، أملت الجزائر في أن تتعامل الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا بالمثل وتسلماها المتشددين الجزائريين المطلوبين، وتضمنت القائمة الأولى 350 اسما من المشتبه فيهم ذوي علاقة بتنظيم القاعدة الأم ينشطون على الأراضي الأوروبية والأمريكية، وأخرى بنحو ألف اسم من المعروفين في بالنشاط في الجزائر. ولعل مما دفع بالولاياتالمتحدةالأمريكية للتعاون مع الجزائر طلبا للخبرة هو أن التهديد صار مشتركا بين البلدين، حيث إن الجماعة المسلحة التي كانت تنشط داخل الحدود الجزائرية أرادت أن تعطي لنفسها صدى عالميا من خلال إعلانها الانضمام إلى تنظيم "داعش" الأم و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وبالإضافة إلى الجزائر، عملت الولاياتالمتحدة على إرساء تعاون مع السلطات المغربية تجسد في تبادل المعلومات، وتدريب الكوادر، بما في ذلك استلهام التجربة الأمريكية لخلق المكتب المركزي للأبحاث القضائية الذي كلف بملف الإرهاب. - مزاحمة النفوذ الأوروبي في المنطقة: عكس الاهتمام الأمريكي المفاجئ نسبيا بالدول المغاربية بأن واشنطن لم تعد تقبل التقسيم الكلاسيكي لمناطق النفوذ الذي بمقتضاه تعتبر المنطقة المغاربية منطقة نفوذ فرنسية تقليدية بامتياز، فقد شرعت تخصها بمكان بارز في صدر أولوياتها، خصوصا بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001؛ إذ كثفت أشكال التعاون مع بعض دول هذه المنطقة الشيء الذي أزعج الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، بعدما بلغت حصة الشركات الأمريكية في مجال الاستثمار في حقول النفط الجزائرية نصيبا أكبر من الشركات الفرنسية. وهذا ما أثار حفيظة هذه الأخيرة، واعتبرت أن أي خطوة أمريكية تجاه هذه المنطقة (التي ظلت لفترة طويلة أشبه بالفضاء الحيوي لها) هي انتقاص من العلاقة المتميزة التي تربطها بالدول المغاربية. وهكذا تحولت المنطقة المغاربية لبؤرة تجاذب أو استقطاب استراتيجي بين السياسة الأمريكية والأوروبية؛ إذ شعر الأوروبيون بأن مناطق نفوذهم التقليدية تسحب من تحت أقدامهم، خصوصا أن الشراكة الأمريكية المغاربية لم تقف عند حدود الجانب الاقتصادي، وإنما امتدت لتشمل أشكال التعاون الأمني والعسكري. وفطن الأوروبيون في الوقت ذاته إلى أن بعض التسهيلات التي يتضمنها مشروع "ستيوارت إيزنستات"، الذي أتى بعد ثلاث سنوات من إبرام اتفاقية برشلونة للشراكة، تضمن تهديدا حقيقيا للمصالح الفرنسية على الخصوص، والأوروبية على وجه العموم، نظرا لأنه مشروع براجماتي يفصل الاقتصادي عن السياسي مع إسناد دور أساسي للقطاع الخاص. كما أنه لا يعتبر الإصلاح السياسي والديمقراطي شرطا من شروط الشراكة، عكس الشراكة مع أوروبا التي تتمسك بضرورة إحداث إصلاحات ديمقراطية. وفي هذا السياق، أبرمت الولاياتالمتحدة اتفاقا للتجارة والاستثمار مع الجزائر في يوليوز 2001، واتفاقا آخر مع تونس في سنة 2002، لتقوم بإبرام اتفاقية للتبادل الحر مع المغرب. وأمام هذه المزاحمة الاقتصادية الأمريكية، ارتفعت أصوات داخل الاتحاد الأوروبي تنادي بتقديم إغراءات للدول المغاربية والتخفيف من قيود الشراكة وإعطاء الأولوية للعوامل الاقتصادية والثقافية قبل أن تصبح منطقة المغرب العربي مستعمرة أمريكية، في حين رأت أوساط أوروبية أخرى أن هذه المبادرات الأمريكية هي بمثابة تهديد مباشر لأوروبا في المنطقة لما تحمله من علاقة خاصة ومميزة بها، حيث بدأت أوروبا تنظر بعدم الرضى إلى التقارب الأمريكي-المغاربي الذي أخذ صيغا براغماتية غير مسبوقة، وترى أن النفوذ الأمريكي يزحف ويتغلغل في المنطقة المغاربية تحت ستار التنسيق من أجل تجفيف مصادر التنظيمات الإرهابية. وبالتالي، ففي ظل هذه المزاحمة الأمريكية لأوروبا على المنطقة، لجأت أوروبا، وتحديدا أول خمس دول فيها، إلى إعادة إطلاق مبادرة "5+5" التي كانت قد انطلقت شرارتها الأولى سنة 1990 ثم خبا ضوؤها طوال أكثر من عقد من الزمان، وعادت مجددا بسبب الرغبة في منع النفوذ الأمريكي من الانفراد بالمنطقة، حيث انعقدت قمة "5+5" في ديسمبر 2003 لتدفع باتجاه تجديد التقارب الأورو-مغاربي الذي لا يلغي طبعا التعاون الأورو-متوسطي وإنما يكرسه. تأمين المصالح النفطية: بنيت الاستراتيجية الأمريكية تجاه شمال إفريقيا على تكثيف التعاون العسكري مع دول المغرب العربي بهدف تأمين منطقة جبل طارق التي هي ممر مائي عالمي إلى مياه المحيط الأطلسي، ومن ثم إلى موانئ الولاياتالمتحدة، وذلك بهدف السيطرة على موارد إفريقيا النفطية والمعدنية المتمركزة جغرافيا بكثافة. في النطاق الأوسط الجنوبي من القارة، فمن إحدى ثوابت الفكر الاستراتيجي الأمريكي التمركز العسكري في نطاق الموارد الطبيعية ذات القيمة الاستراتيجية العالية، كالبترول والغاز الطبيعي واليورانيوم والبوكسيت. وقد كان هذا من بين الدوافع الرئيسية لتشكيل القيادة العسكرية الأمريكية للقارة الإفريقية (أفريكوم) لتأمين مصادر النفط والمحافظة على المصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة. من هنا يأتي اهتمام مجموعة تكساس الأمريكية (بوش الابن، ديك تشيني، كونداليزا رايس، دونالد رامسفيلد) بنفط ليبيا والجزائر وبآفاق الثروة النفطية في موريتانيا انطلاقا من هذه الحقائق. وتأكيدا على هذا الاتجاه، يذكر الخبراء الأوروبيون أن ليبيا تضم احتياطات نفطية وغازية تقدر ب 40 بليون برميل، والجزائر ب 12 بليون برميل، والنيجر وتونس وموريتانيا ب 300 مليون برميل لكل منهما. وتعكس الأزمة الليبية جزءا من هذا الصراع الأمريكي الأوروبي في المنطقة؛ فقد أشار أستاذ الشؤون الدولية في جامعة واشنطن وليام لورانس إلى أن أولوية الولاياتالمتحدة بليبيا هي البحث عمن يكافح الإرهاب ويقف ضد التطرف، ولا تعرف من الذي يقف معها: هل هي حكومة فايز السراج أم خليفة حفتر وقواته؟ وأن أميركا تحاول عدم التنسيق مع روسيا في الأممالمتحدة حول هذه المواقف. وأضاف لورانس أنه لا يرى أي تناغم بين واشنطن وباريس في النظر إلى ضرورة إيجاد حل عاجل في الجزائر من أجل استتباب الوضع في ليبيا، لأن الجزائر كان لها دور مهم عام 2011 في مساعدة الليبيين على الاستقرار. في حين يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد المنشاوي أن هناك عدة عوامل غيرت الموقف الأميركي تجاه ليبيا، خصوصا بعد زيارة مسؤولين أميركيين لطرابلس وزيارة السراج لأميركا التي أدت إلى دعم واشنطن لحكومة الوفاق. لكن تدخل بعض الدول الإقليمية، وخصوصا مصر التي تريد حكما دكتاتوريا بليبيا مماثلا لحكمها، ساهم في تباين المواقف داخل أميركا. وأضاف المنشاوي أن ما يهم أميركا في الوقت الحالي هو مكافحة الإرهاب، لأن الرئيس دونالد ترامب نصب نفسه المحارب الأول للإرهاب ويروج لذلك. وبالرجوع للتاريخ الليبي، فإن النفوذ فيها لروسياوإيطاليا، خصوصا أن القذافي كان يقيم علاقات جيدة مع الروس، ولم يكن لأميركا أي نفوذ هناك. وأشار المنشاوي إلى عدم ذكر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لتحركات قوات حفتر إلا مرة واحدة عند بداية الهجوم، ومن ثم تجنبت البيانات الصادرة عن الخارجية الأميركية ذكر قوات حفتر واكتفت بالمطالبة بوقف القتال. وهذا التغير يأتي انعكاسا لاتصال ترامب بحفتر. ويعتقد أن أميركا غير مهتمة بليبيا، وأن ما حدث هو نتيجة إعجاب ترامب بالقيادة السلطوية في المنطقة، وهناك من روج لحفتر أنه قادر على فرض حكم سلطوي، ولذا نرى مواقف الإدارة الأميركية لا تسعى لوقف هجومه. وأكد المنشاوي أن الهوس بمحاربة الإرهاب عند الأميركيين والفرنسيين هو ما يعزز تحركات حفتر العسكرية، في حين إن الموقف الإيطالي تجاه ليبيا مضاد للموقف الفرنسي لأن إيطاليا متضررة من الهجرة غير النظامية، وألمانيا مستورد أساسي للنفط الليبي. ولذا، فإن هاتين الدولتين تريان أنه من المهم استتباب الأمن في ليبيا. المنطقة المغاربية كمنصة اقتصادية في الاستراتيجية الصينية: في إطار التحولات التي يعرفها المشهد الدولي منذ بداية ما سمي بالنظام العالمي الجديد الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي مع سقوط جدار برلين، وحرب الخليج الأولى والثانية، تمحور الصراع بين الولاياتالمتحدة من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى حول التموقع الاستراتيجي في القارة الإفريقية التي تحولت إلى رقعة أساسية للصراع، خصوصًا بين واشنطن وبكين. وبالتالي، فقد شكلت المنطقة المغاربية رقعة أساسية للصراع الأمريكي الصيني نظرا للاعتبارات الاستراتيجية التالية: - حاجة الاقتصاد الصيني الملحة للوقود، حيث تضم المنطقة المغاربية موارد بترولية هامة تتمثل في المخزون الليبي وكذا المخزون الجزائري من البترول والغاز الطبيعي الذي يزود القارة الأوروبية، إلى جانب اعتبار المنطقة بوابة على المخزون النفطي في العديد من الدول الإفريقية الأخرى، الشيء الذي حرك التواجد الصيني في المنطقة حيث أصبحت الصين في حاجة ملحة لتنويع مصادر وارداتها الطاقية، بعدما احتلت، منذ عام 2016، صدارة قائمة مستوردي النفط عالميًا لأول مرة في تاريخها، بعد تخلي الولاياتالمتحدة عن ذلك الموقع. - حاجة بكين لأسواق جديدة لمنتجاتها تساهم من خلالها في تنويع شركائها التجاريين، بحيث تعتبر المنطقة المغاربية المحطة الاقتصادية (platforme economique) التي تنفتح على هذه القارة التي تضم أكبر تجمع للدول النامية في العالم ذات الأسواق المتعطشة للاستثمارات، والنمو السكاني الأسرع عالميًا، وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية. - القرب الجغرافي من أوروبا دفع "الصين للعمل على أن تجعل من المنطقة المغاربية منصة للانطلاق نحو الأسواق الأوروبية، وكذا لتوفر اليد العاملة المدربة التي تكونت في الجامعات وتعاني من البطالة، كما أن كلفة الطاقة في المنطقة منخفضة بالمقارنة مع المناطق الأخرى، سواء بالنسبة للطاقات المتجددة أو الأحفورية. - تزايد التواجد الاستثماري الصيني في دول المنطقة، حيث تعد الصين أكثر الدول المستثمرة في الجزائر ما بين يناير 2013 وديسمبر 2017، متقدمة على سنغافورة وإسبانيا، كما أنها تعتبر أكبر الدول التي تصدر السلع للجزائر خلال 2017، بما نسبته 14.6 في المائة من مجموع الواردات للجزائر، متقدمة على فرنساوروسيا. واعتباراً من العام 2014، أضحت الجزائر ثاني أكبر سوق لعقود الاستثمارات الصينية في مجال البنية التحتية في أفريقيا (بعد نيجيريا)، أي ضمن الأسواق الخمسة عشر الأبرز في هذا المجال عالمياً. وهكذا فتركيز الدولة الجزائرية منذ بداية سنة 2000 على تطوير بناها التحتية كمشروع الطريق السريع الذي يربط بين شرق البلاد وغربها، وبناء فنادق شيراتون في وهران والجزائر العاصمة، ومبنى جديد في مطار هواري بومدين في العاصمة، والمشاريع السكنية منخفضة الكلفة (نحو 250 ألف وحدة سكنية منذ سنة 2000)، وتشييد ثالث أكبر مسجد في العالم في الجزائر العاصمة الذي يُرتقَب إتمامه في سنة 2020، يُضاف إلى ذلك أن رئيس الوزراء الجزائري السابق عبد المالك سلال وقّع خمس عشرة مذكرة تفاهم مع الصين في أبريل 2015، بهدف تعزيز الشراكات الاستثمارية وتوطيد العلاقات الاقتصادية بين البلدَين، وقد أدت هذه المشاريع إلى زيادة أعداد المهاجرين الصينيين في الجزائر، حيث أصبحت تضم العدد الأكبر من العمال الصينيين في أفريقيا. فقد ارتفع عدد العمال الصينيين في الجزائر، وفق أرقام رسمية، من 22 ألفاً في سنة 2013 إلى 55 ألف عامل صيني في سنة 2015، حيث أصبحت العاصمة الجزائرية تضم حيّاً صينياً، في حين حصل حوالي 2000 صيني على الجنسية الجزائرية. أما في المغرب، فقد أصبحت الصين شريكا منافسا لفرنسا، سواء فيما يتعلق بالاستثمار أو في تصدير السلع، حيث أتت الصين في المرتبة الثالثة بعد كل إسبانيا وفرنسا فيما يتعلق بالدول التي تصدر السلع للمغرب خلال 2017. وبالنسبة لتونس، تأتي الصين في المرتبة الرابعة، خلف كل من فرنساوإيطاليا وألمانيا، بما نسبته 6.9 في المائة من السلع المستوردة في تونس، في حين تعد موريتانيا من أبرز الوجهات المفضلة للاستثمارات الصينية في المنطقة، ذلك أنها تعد أكثر دولة تستورد السلع من موريتانيا، بما نسبته 36.3 في المائة من مجموع الصادرات الموريتانية، كما أنها أول المصدرين لموريتانيا سنة 2017، بما مجموعه 33 في المائة من مجموع الواردات الموريتانية. وبالنظر لهذه المعطيات، خلص المحلل الاقتصادي الجزائري، عبد الوهاب بوكروح، إلى أن "الحضور الصيني في المنطقة المغاربية بات جليا، خصوصا في الجزائر والمغرب، فيما يتعلق بالمبادلات التجارية والقطاعات التي يشملها التعاون الاقتصادي والتقني بين الحكومة الصينية والمغاربية"، مؤكدا أن "التواجد الصيني أصبح أكبر بكثير من التعاون مع الشركاء التقليديين في جنوب أوروبا كفرنسا واسبانيا وإيطاليا".