لا شك أن الفرق واضح تماما بين الموقف والرأي، ولا يحتاج إلى كبير عناء لإيضاح دقته حتى للأطفال والمراهقين، إذ الفرق يميل إلى الشبه مثلا بين الشخص والشخصية لدى الممثل على خشبة المسرح، فالشخصية قد تمثل رأيا معينا قابلا للنقاش والأخذ والرد، والشخص (الذاتي) يفترض أن له موقفا في جوانب ما يحيط بحياته تبعا لتوجه أو اختيار أو معتقد أو فلسفة...، والرأي يعتريه النقص غالبا، بينما الموقف يتأسس على التأني وعلى المعرفة، فيبدو مقنعاً ومطمئناً ومريحاً، وفي حالات معينة ملزماً، بل إنه يبلغ درجة الكمال حين يتصل بالروح والإيمان والمعتقد. ولقد كان الموقف في ما مضى يرادف الإيمان حقيقة، ويعني الالتزام ويحيل إليه، وكان الرأي جزءاً من الموقف وعنوانا له، وامتداداً للإيمان بما يسكن المرء ويقلقه أو يطمئن إليه، كما أن الرأي المبني على دماثة الخلق ورجاحة العقل وحسن التأمل يجعل من صاحبه متبوئاً لمكانة الوقار ومنصة الحكمة، وقد روي عن سفيان الثوري، وقد كان عالما متزنا متواضعا، قوله: "إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا الحكيم". وهناك من يقول أن بعض التصادم من نتائج الخلط الكبير بين الموقف والرأي، كما أن من أسباب تخلفنا كثرة اختلافنا، ومرده للتعصب لأفكارنا - والمتعصب لفكرته هو صاحب موقف لا صاحب رأي، أو ربما لا يرى فرقا بينهما - فنستميت في الدفاع عن مواقفنا، ونعبر عنها كقناعات وليست كأفكار وآراء، وقد كان أولى بأصحاب المذاهب أن يتصادموا، لكن ذلك أبداً لم يحدث - ليحدث لاحقا فيما بين أتباعهم.. !-، بل أوتوا الحكمة حقيقة، إلى جانب ما عرفوا به من علم وحلم وأمانة (...) وانتبهوا إلى حسن تقدير الآخر والاعتراف بمكانته وفضله، لذلك ورد عن الإمام الشافعي قوله في أبي حنيفة: "لقد زان البلاد ومن عليها إمام المسلمين أبي حنيفة". لكن الموقف والرأي كلاهما يظلان أيضا شاسعين شساعة الحالات والظروف، فالرأي التوجيهي الصادر عن الخبراء باختلاف التخصص والحالة والنازلة قابل بالطبع للمراجعة في حالات عديدة - حتى لا أقول في أغلب الحالات - ويظل "رأيا" حتى وإن كان أصحابه - بحكم التخصص - يرونه "موقفا" على اعتبار أنه صادر عن دراسة أو خبرة وغير ذلك، ويبقى ما يصدر عن الهيأة القضائية هو الموقف الذي يزكي ذاك الرأي أو يعدله، وهنا "الموقف". على أن الجدل ليس هاهنا، بل حين يتسلط البعض برأيهم ليضعوه - بمنتهى البساطة - موضع الموقف بغير وجه حق، فيُفرضُ فرضاً على أنه "حكم" و "كلمة فصل"، ليدوسوا على القانون وحتى على الدستور و الحق، لذلك بات الرأي اليوم - لدى الكثيرين - أداة و"عصا" في مواقف عديدة لفرض الزور والتستر عليه، وترسيخ الظلم والانحياز إليه، بدلا عن الحق ومبادئه وقيمه وروافده أيضا !.. بينما أحيلت المرجعيات وأصول التوافق وحسن التعايش على الهامش لتعتمد "وقت الحاجة" أو تستغل ضد "قليلي الحيلة" أو "لِتُحَلَّ عَاماً وتُحَرَّمَ عَاماً"... فإذا كان من المشين أن يعتبر البعض (وهم في الواقع قلة قليلة) الإفطار العلني في رمضان حرية شخصية، أي انعكاسا لرأي خاص ينبغي أن "يحترم"، وإذا كانت بعض السلوكات العدوانية في الشارع العام تراها فئة من الناس "سلوكا عاديا"، وإذا كان التضييق على الآخر واستفزازه وتعليل ذلك بأنه "رأي"، فما الحاجة إلى القوانين وإلى المواثيق والنظم الهادفة إلى التوافق، وإلى الاحتكام إلى منطق الحق والعدل والحكم الوسط، واللجوء إلى أساليب الزجر.. ؟ ولكم يبدو سيئا وسخيفا في آن ذلكم الاختباء والتستر وراء "التشبث بالحفاظ على التراث"، وعلى ضرورة تمجيده وتقدير قدسيته (...) بينما يتضح الفشل - كل الفشل - في إخفاء الفضائح، والأخطاء الجسيمة (بلغة رقيقة)، والتي أساءت لأوجه التراث بموازاة إساءاتها الفظيعة للتدبير القانوني والإداري المؤسسي، فبات العقوق والتمرد واضحين على الأصالة، كما أضحى الإخلال والاستخفاف بنظم ومزايا الحداثة يمثل تراجعاً عما سطرته مبادئ فصل السلط ، والمؤسسات المنبثقة عنها بشكل مؤسف إلى حد الألم أحيانا ! وتظل الصورة والواقع الحاليين الامتحان الحقيقي لمن يتهافتون ويراهنون كل من جانبه على الفوز في الانتخابات المقبلة وتحقيق التفوق فيها ببلادنا، ولم نشهد يوما منافسة قيمة شريفة حول الابتكار النزيه والبرامج الحية الجريئة، ولا حول إبراز الإبداع الخلاق في السياسة أو القضايا الاجتماعية الوطنية المتصلة بالمبادرات الاقتصادية والثقافية التنموية، كما لم نشهد قبولا طويل النفس بالرأي الآخر وارتضائه لجماليته أو لتوافقه ومصلحة الأمة والبلد. لذلكم لا مجال لإبداء رأي مزعوم بهدف بلوغ مصالح ومنافع ذاتية ظرفية، في غياب الموقف الصريح النزيه الموافق للعلم الجيد والمعرفة الواضحة المتصلة بالاطلاع والمتابعة الصادقة والموافقة للإيمان بالواجب، ولقيم الطاعة المنزلة منها والمؤسسة على بيان الفقه بالنصوص والمصلحة العامة المشتركة. [email protected]